أخلاق الغرب.. التعبير الأسمى عن الحضيض -07- حنة آرندت: المؤرخ والتلاعب بالحقائق

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..

 

تنبني الحقيقة الواقعية، كما تذهب إلى ذلك حنة آرندت، على شهادة من حضرها، ولا توجد إلاّ بقدر ما يتكلم الناس حولها حتى لو جرت في مجالات خاصة، كما أنّها سياسية بطبيعتها. فرغم أنّه يجب علينا الفصل بين الحقائق الواقعية والآراء إلاّ أنهما غير متعاديتين، بل تنتميان إلى المجال ذاته.
تقول آرندت: «علينا أن نتساءل هنا: هل توجد الحقائق الواقعية أصلاً باستقلال عن الآراء والتفاسير؟ ألم تُظهر أجيال من علماء وفلاسفة التاريخ استحالة الوصول إلى اليقين حول الحقائق الواقعية دون تأويلها بشكل أو بآخر لأنّه علينا في الواقع أن ننتقيها من فوضى الأحداث (ومبادئ «الاختيار» ليست بيانات حقيقية بكل تأكيد) ومن بعد ذلك أن نجد لها مكاناً مناسباً ضمن قصة لا يمكننا روايتها، إلاّ من زاوية نظر معينة قد لا يَكون له أي علاقة مع الحدث الحقيقي الأصلي؟ لا شكّ بأنّ هذه النقطة والكثيرات غيرها في العلوم التاريخية مثيرة للحيرة كما أنّها جميعها حقيقيّة، ولكنها ليست نقاطاً جدلية تنافي وجود الحقيقة الواقعية، ولا يمكن لها أن تلعب دور المبرر لتمييع الخطوط الفاصلة بين الواقع والرأي والتفسير، أو دور العذر بالنسبة إلى المؤرخ كي يتلاعب بالحقائق كما يحلو له، وحتى لو اعترفنا أن لكل جيل الحق في أن يكتب تاريخه الخاص به، فهذا لا يعني إلا أن يكون له الحق في أن يعيد ترتيب الحقائق الواقعية بما يتلائم مع منظوره الخاص لها، لا أن يغيّر هذه الحقائق نفسها. سأضرب مثالاً يُبين هذه النقطة ويقدم لي العذر حتى لا أتابع الجدل فيها:
خلال عشرينيات القرن الماضي وجد كليمانصو نفسه، وكان هذا قبل وفاته بفترة قصيرة، يدخل في نقاش ودي مع أحد ممثلي جمهورية فايمار الألمانية حول مسألة الطرف الذي يتحمل ذنب اندلاع الحرب العالمية الأولى، فسأله كليمانصو: «برأيك، ماذا سيقول مؤرخو المستقبل حول هذه القضية المشكلة والمثيرة للجدل؟»، فأجابه محاوره الألماني قائلاً: «لست أدري ولكني على يقين بأنهم لن يقولوا إنّ بلجيكا غزت ألمانيا!». نحن نهتم هنا ببيانات بسيطة أولية لا رحمة في بساطتها، ووقائع نتعامل معها وبسبب عدم قابليتها للتخريب على أنّها من المسلمات حتى بالنسبة إلى أكثر المؤمنين بالتاريخانية تطرفاً وتطوراً».
وتتابع: «من الصحيح أنّه يلزمنا أكثر من مجرد أهواء المؤرخين حتى نمحو من سجلات التاريخ حقيقة أن الجيش الألماني بدأ باجتياح حدود بلجيكا في ليلة 4 آب 1914، بل هذا لا يتطلب أقل من الاحتكار الكامل للسلطة على العالم المتحضر، ولكن الاحتكار السلطوي هذا ليس من المستحيلات العقلية، وليس من الصعب علينا تخيل مصير الحقيقة الواقعية إذا ما كان للمصالح السلطوية القومية أو الاجتماعية القول الأخير في هذه القضايا. يعيدنا هذا إلى نقطتنا الأساسية وهي شكوكنا في أنّ المحيط السياسي بطبيعته لا بد وأن يكون في حالة حرب مع الحقيقة في سائر أشكالها وبالتالي إلى التساؤل عن سبب النظر إلى الالتزام بالحقيقة الواقعيّة على أنّها مسلك معاد للسياسة.
حين أقول الحقيقة الواقعية، وبعكس الحقيقة العقلية، ليست على عداء مع الرأي، فأنا لا أعبر إلاّ عن نصف الحقيقة. فجميع الحقائق، أي ليس الحقيقة العقلية بجميع أنواعها فحسب، بل الحقيقة الواقعية أيضاً، تتعارض مع الرأي من الوجه الذي تفرض فيه نفسها على أنّها صحيحة، الحقيقة تحمل في ذاتها طابعاً من القسر، فلا تعود إذن الميول الطغيانية المكروهة في وضوحها، والتي لا ننفتأ عن رؤيتها بين محترفي قول الحقيقة إلى عيوب في شخصياتهم بقدر ما ترجع إلى ضغط اعتياد العيش تحت قسر الحقيقة، فتختلف عبارات مثل «مجموع زوايا المثلث تساوي مجموع زاويتين من المربع» و«الأرض تدور حول الشمس» و «تحمل الظلم خير لك من أن تكون أنت ظالماً»، و«في غشت 1914، قامت ألمانيا بغزو بلجيكا» في الطرائق التي يتم التوصل إليها، ولكنها، وفي اللحظة التي نراها فيها على أنّها الحقيقة ونعترف بها على هذا الأساس، تشترك جميعها عندئذ في أنّها تصبح منزهة عن الاتفاق، والخلاف، والرأي، والقبول، وبالنسبة إلى الذين قبلوا أن عبارات كهذه هي الحقيقة لا يتغير الأمر بازدياد عدد من وافقهم أونقصانه، إذ إنّ محتوى هذه العبارات ليست «إقناعياً»، بل إنّه في الواقع «قسري» (وهكذا نرى أنّ أفلاطون في حوار «طيماوس» يرسم حدوداً واضحة بين الناس القادرين على إدراك الحقيقة نفسها والناس الذين لا يتجاوز إدراكهم «حمل الآراء الصحيحة»، ففي الحالة الأولى، يتم إيقاظ «عضو إدراك الحقيقة» من خلال التعليم والإرشاد، مما يوحي بالطبع باللامساواة وبوجود عنصر من القسر والقهر في عملية «الإيقاظ» هذه، أمّا في الحالة الثانية، فلا يتجاوز إدارك الناس كونهم قد تم إقناعهم برأي يطابق الحقيقة، فآراء الفريق الأول راسخة وغير قابلة للتغيير، أمّا الفريق الثاني، فقد يتم إقناعه بوجهة نظر مختلفة تمام الاختلاف)، وقد قال عالم الاقتصاد ميرسييه دو لا ريفيير: «إقليدس طاغية بكل معنى الكلمة، والحقائق الهندسية التي بثها إلينا كلها هي قوانين طغيانية بكل معنى الكلمة»، وهي عبارة تنطبق على جميع أنواع الحقائق، وبالطريقة ذاتها قال غروتيوس الذي كان يود أن يحد من سلطة السلاطين قبل دو لا ريفيير بقرن من الزمن: «حتى أنت لا يمكنك أن تجعل حاصل ضرب اثنين في اثنين لا يساوي أربعة»، وعبارته هذه تبرز قهر قوة الحقيقة أمام السلطة السياسية. تعكس هاتان العبارتان كيف تبدو الحقيقة من وجهة النظر السياسية المحضة، أو من وجهة النظر السلطوية، كما تعكسان التساؤل عمَّ إذا كان من الممكن أو حتى الواجب على السلطة السياسية ألا تكون مقيدة فقط بالدستور وشرعة حقوق كما هو الحال في نظام القيود والتوزنات الذي تقوم فيه «السلطة بالحد من السلطة» بعبارة مونتسيكيو، أي من خلال عوامل تبرز ضمن عالم السلطة السياسية وتنتمي إليه بل أن تتقيد بشيء يبرز من خارج عالم السلطة السياسية وتضرب جذوره في محيط مختلف تمام الاختلاف عن ذلك العالم، ويكون مستقلاً عن رغبات وأماني المواطنين أنفسهم بقدر ما هو مستقل عن إرادة أبشع الطغاة استبداداً.


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 30/03/2024