يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش،
إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..
لقد تركت أفكار ميكيافيلي أثراً عميقاً ودائماً لا يمكننا حتى أن نحصر مداه على القادة السياسيين، وقد استمر ذلك التأثير ودون انقطاع حتى في قرننا الحادي والعشرين.
قال ميكيافيلي إن الدولة وبما أنّها تمثل الصورة الأسمى للتواجد الاجتماعي الذي تقدر الإنسانية على تحقيقه، فإنّه من الواجب حمايتها بأي ثمن، ولذلك سعى ميكيافيلي إلى تهذيب الطرائق التي يمكن من خلالها حماية الدولة، وبشكل مستقل، عن المعايير الأخلاقية الشخصية، بل يمكن لهذه الوسائل أن تكون منفرة للمعايير الأخلاقية التي يحملها أي إنسان في نفسه. ليس في حياة السياسي أي سعة تفسح أمامه المجال كي يعيش حياة طاهرة على المستوى الأخلاقي، وهو الخيار المفتوح أمام المواطنين العاديين أو الفلاسفة المنعزلين من أمثال سقراط، بل في اللحظة التي يحمل فيها أي إنسان مسؤولية سعادة الآخرين على عاتقه، فإنّ واجبه الأخلاقي بحسبما قاله ميكيافيلي هو ممارسة الأعمال التي تقدم لهؤلاء الآخرين الحماية والأمن.
فإذن يترتب على ذلك وجود معيارين أخلاقيين: الأول ينطبق على عالم الشؤون العامة والآخر على عالم الشؤون الخاصة، فلا يحاول ميكيافيلي إذن أن يعترض على وجود أخلاقيات في الحياة العامة، بل يدعو إلى وجود إطارين أخلاقيين يقومان على نظامين متعارضين من القيم: الأول في المحيط العام الرسمي والآخر في محيط المواطن الخاص العادي (برلين، 1971 (.
إنّ سلامة الدولة أهم بكثير من سلامة الفرد، ومن هذا المنظور فمن الجائز القيام بأعمال غير أخلاقية مثل: قتل الأبرياء، والإرهاب والتعذيب، وغيرها في سبيل مصالح المجتمع الأساسية، قد تكون سلوكيات كهذه مقبولة بل حتى ضروريّة تحت ظروف استثنائية تتطلب حماية الدولة، فلا تعارض أخلاقي هنا.
يمكننا أن نفكر في هذا الطرح على أنّه «أخلاقيات دون كيشوت » الذي كان راغباً في «أن يزحف إلى الجحيم في سبيل قضية فردوسيّة»، و «القضية الفردوسيّة» في حالتنا هذه هي أمن الدولة فلا توجد قيمة أخلاقية أعلى منها؛ على السياسي أن يطرح أخلاقياته الشخصية جانباً وأن يتصرف فقط بما ينجز حماية الدولة. هذا هو ما تتطلبه السياسة، وللأسف فمن الضروري أن تكون للسياسي ما يسميه الفلاسفة المُحدثون «أيدي قذرة» إذا ما كان سيتحمل مسؤولية إدارة الدولة على أكمل وجه.
فإذا ما كنا سنحافظ على وجودنا في عالمنا المضطرب والفوضوي، وإذا ما كنا سنحمي وضعنا الاقتصادي واستقلالنا السياسي وحدودنا الجغرافية، فمن الضروري لنا أن نطرح جانباً المعايير الأخلاقية التقليدية وإذا اقتضى الأمر أن نكذب ونغش ونتجسس ونقتل ونعذب ونرتكب أعمالاً أخرى لا رحمة فيها. تتطلب ممارسة العمل السياسي انتهاك أبسط المعايير الأخلاقية الشخصية، فقد قال ميكيافيلي أنّه من الممكن «استخدام القسوة بشكل جيد» وأنّ الأفعال «الشريرة» مباحة إذا ما كان الهدف منها الحفاظ على النفس (ميكيافيلي، 1992 : 23 ).
أوضحُ تأويل لأفكار ميكيافيلي هو أنّه من الضروري لنا «في بعض الأحيان» أن نغضي صفحاً عن المعايير الأخلاقية (برلين، 1971) ولكن حتى الفكرة القائلة بأنّ علينا طرح «الأخلاقيات العادية» جانباً تؤسس لبناء معيار مستقل للدولة إذا ما قورن بالمعايير الشخصية الفردية، فننظر إلى السياسيين وقياديي المجتمعات والناشطين الذين تستحق أخلاقياتهم منا التمحيص الدقيق على ضوء مشاركتهم في أدوار محددة تحتاج إلى «أيادٍ قذرة » (راينارد وشوغارمان، 2000).
بالنسبة إلى ميكيافيلي فإنّ الغاية تبرر الوسيلة؛ يمكن أن يكون التصرف غير الأخلاقي محبذاً بل ومطلوباً إذا أدى إلى تحقيق غايات أخلاقية، فتكون الاعتبارات الأساسية في هذا المجال هي البراغماتية والفعالية، أي أنّ السؤال الوحيد الذي يطرحه المنخرط في الشأن العام على نفسه هو إذا ما كانت الوسائل التي يستخدمها فعّالة أم لا؟ تعتبر السياسة العامة مسؤولية هائلة وقد تؤثر أي من تصرفات السياسي على حياة عدد كبير من الناس، وتبدأ هذه الواجبات والمسؤوليات بالتدفق من اللحظة التي يقبل فيها السياسي أن يلعب ذلك الدور، فإذا أبى استخدام جميع الوسائل المتاحة له، والتي تشمل الكذب والخداع، فإنّ هذه خيانة للأشخاص الذين استأمنوا ذلك السياسي على مصالحهم. فإذا ما كانت هناك معايير أخلاقية في المجال السياسي فهي أخلاقيات تحكم على الأشياء بنتائجها حيث يقاس النجاح بمدى القوة والأبهة والازدهار والأمن التي حققها السياسي للدولة ككل (هامبشاير، 1978 : 49 – 50).
يقول بعض الواقعيين، إنّ البقاء في عالم شرير وفاسد يعتمد على قابليتنا، لأنّنا نستخدم الوسائل غير الأخلاقية، من البديهي أن سقوط ضحايا أبرياء نتيجة شن حرب عدوانية هو أوضح الأمثلة على «الأيدي القذرة» في العالم الحقيقي، وفي هذا السياق ليست نظرية «الحرب العادلة» إلاّ محاولة لرسم الحدود أمام حق الحكومات الشرعي في استخدام العنف كأداة لسياساتها الخارجية، ولكن علينا أن نشير إلى أن جميع تأويلات «الحرب العادلة» تعترف بأنّ الحرب نفسها وفي حد ذاتها ظالمة.
ميزت إدارة جورج دبليو بوش (بوش الإبن) نفسها عن السياسيين الواقعيين التقليديين من خلال ترويجها المتشدد لأجندة «محافظة جديدة» في سياستها الخارجية، وقد تأسست هذه السياسات على مبدأ يقول بأنّه يمكن تحقيق الأمن القومي من خلال الترويج للديموقراطية في الخارج وفي بعض الأحيان القيام بتدخل عسكري أحادي الجانب لمحاربة الإرهابيين ودعم الحرية.
انتقد ناشطو النزعة المحافظة الجديدة فترات رئاسة كل من جورج بوش الأب وبيل كلينتون قائلين بأنّها تفتقر إلى الوضوح الأخلاقي والقناعة بأهمية العمل الأحادي الجانب للسعي وراء مصالح الولايات المتحدة القومية، وقد اعتنق «مذهب بوش » الذي اعتمد بعد هجمات 11 أيلول – 2001 هذه الأفكار المحافظة الجديدة المركزية، وأيدت إدارته فكرة العمل العسكري الاستباقي الأحادي الجانب ضد تهديد الإرهاب، وأعلنت أن الولايات المتحدة «ستكون قوية بما فيه الكفاية بحيث تدفع الأعداء المحتملين إلى صرف النظر عن محاولة القيام بتصعيد عسكري على أمل التفوق على قوة الولايات المتحدة أو حتى مساواتها ». وقد ابتهج المحافظون الجدد بالتغيير السياسي هذا وشجعوا الولايات المتحدة أن تتقبل دورها الإمبريالي الجديد بسعادة.