يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش،
إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..
الأكبر من السعادة أو المنفعة، بالنسبة إلى الإنسان النفعي ما يحدد قيمة العمل الأخلاقية هو إسهام ذلك العمل في المنفعة العامة. أمّا المقاربة الأخلاقية البديلة فهي ما يسمى بالأخلاق الواجبة أو الديونطولوجيا، والمشتقة من الكلمة الإغريقية (ديونdeon» (» والتي تعني الواجب. ما يركز عليه الإنسان الواجبي أو الديونطولوجي مدى صحة عمل ما بحد ذاته وليس على نتائجه، وبالنسبة إليه فممارسة التعذيب. لأنّ هذه الممارسة بطبيعتها خاطئة وغير مقبولة وتنتهك «واجباً» يحمله الفرد تُجاه مبادئ أخلاقية إمّا دينية وحتى علمانية، والأمر ذاته ينطبق على الحرب الوقائية، فبالنسبة إلى الإنسان الواجبي فإنّه قد يرى أنّ الحرب الوقائية خطأ لأن هذه الممارسة تنتهك «الواجب» الإنساني القائل أنهّ لا يجوز قتل الناس الأبرياء.
لقد بنت الحركة الساعية إلى إحقاق حقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية جهودها إلى حد كبير على محاولة بناء نظام قانوني يتأسس على قواعد ديونطولوجية عالمية تحكم تصرفات الأفراد والدول. يمكننا أن نُعرِّف «الحق» بأنّه مطالبة من الآخرين بأنّ يتعاملوا مع صاحبه بطريقة معينة، و«حقوق الإنسان» هي مطالبة بمعاملة بطريقة معينة ليس لها شروط مسبقة إلاّ كون لصاحبه الحق، ببساطة إنساناً.
لطالما سمعنا الزَعم بأنّ حقوق الإنسان عامة وكونيّة وتوجد بشكل مستقل عن عادات أي دولة بعينها أو نظامها القانوني، وتؤسس حقوق الإنسان للحد الأدنى من مستويات الاحترام التي ينبغي إظهارها أثناء التعامل مع الفرد وتتضمن واجبات على الأفراد والحكومات والأطراف الفاعلة غير الدولة (بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية والشركات المتعددة الجنسيات). لقد نحتت حقوق الإنسان مساحة محمية للأفراد والجماعات ولا يمكن لأي طرف فاعل أن ينتهك هذه المعايير (فيليس، 1996: 17 – 34). فهل يقدم إطار حقوق الإنسان والقانون الدولي آلية حتى يتمكن الأفراد من توكيد «استقلاليتهمالأخلاقية»؟ هل تساعد مزاعم حقوق الإنسان هذه الأفراد كي يناصروا أهم المعايير الأخلاقية؟
لكن المشكلة بالطبع هي أن الحقوق كثيراً ما تتعارض، كثيراً ما تعطي بلاد الشمال المتقدمة الأولوية للحريات المدنيّة والسياسيّة زاعمين أنّ هذه الحقوق تفوق أي مطالب أخرى، فمثلاً حقوق «الحرية» و«الديموقراطية» أهم من حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية فلا يتم اتخاذ الكثير من الإجراءات التي تلاقي كامل أطياف الحقوق المُعبِّ عنها في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان، توجد عائلة كاملة من النظريات الأخلاقية تحت مظلة الأخلاقيات العواقبية وتشمل النفعية والأنانية الأخلاقية وعواقبية الحكم والعواقبية السلبية، وتركيزنا هنا إنما هو على آراء المفكرين والكتاب النفعيين ومقارباتهم، أنظر جون ستيورات مِل (1985) يشمل الميثاق الدولي لحقوق الإنسان «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» و«العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية» و«العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية».
إذ إنّ جعل حقوق الإنسان حجر الأساس في السياسات المحلية والخارجية سيعني تحديداً صعباً للحقوق التي يجب أن تنال الانتباه على حساب غيرها من الحقوق. وإذا ما أخذنا التعارض بين الحقوق بعين الحسبان فإنّ حل التضارب فيما بينها قد يتطلب التوفيق بين قيم مختلفة، وهكذا قد لا يعكس تمثيل الحقوق على أنّها «بطاقات لعب » تتغلب بعضها على بعضها الآخر، الصورة كاملة، بل الحياة الحقيقيّة أشد تعقيداً، فعلى سبيل المثال يثبت قانون حقوق الإنسان الدولي الحق في الأمن كما يؤكد الحق في الخصوصية، فماذا لو وَجدت الحكومة نفسها في وضع تضطر فيه إلى انتهاك خصوصية المواطنين لتوفير الأمن لهم؟ حتى حق الإنسان في الحياة قد يبطل في حالات الدفاع عن النفس (فيليس، 2003: 186).
نبذ إيمانويل كانط هذا الجدل حول «التبادل» بالكامل، فقد كان يعتقد أن التصرفات المباحة أخلاقياً لا يمكن لها أن تنتهك الأوامر المطلقة الأخرى، فالتعذيب بحسب كانط لا يمكن أن يكون مقبولاً تحت أي ظرف من الظروف، بل لم يكن كانط ليقبل بمعاملة شخص ما على أنّه وسيلة لغاية، فحتى في الحرب ضد الإرهاب كان كانط سيطالب بعدم ممارسة الخداع تحت أي ظرف وعدم الكذب بأي حال من الأحوال مع الحفاظ الدائم على معاملة جميع الأفراد بشرف واحترام. ولكن هل يمكن لأي إنسان أن يحافظ على هذه السلوكيات الأخلاقية المتسقة في الحياة الحقيقية؟ هل لا يجوز الكذب أبداً وتحت أي ظرف مثلاً؟ هل على الإنسان أن يقول الحقيقة في جميع الحالات؟
يعكس المثال المعروف لعائلة تؤوي يهوداً في بيتها أثناء الحرب العالمية الثانية هذه المعضلة بشكل صارخ، إذ ألا ينبغي لهذه العائلة أن تكذب على الغستابو كي تحمي اليهود الأبرياء؟
اقترح مايكل جاي سميث (1989: 21 – 22) مخرجاً من هذه المعضلة يشمل مرحلتين من التفكير الأخلاقي: «في المرحلة الأولى يتبع الشخص عملية أمر كانط المطلق فيختار مبدءاً يمكن لجميع الكائنات العاقلة أن تلتزم به، ويجعله قانوناً في نظام اجتماعي جديد، ويتصور صفات هذا النظام الاجتماعي الجديد، بعد أن يتبنى هذا القانون الجديد ويسأل نفسه إذا ما كان قادراً على أن يريد هذا النظام الاجتماعي وراغباً في العيش فيه». تؤدي هذه العملية إلى قبول «مبادئ أخلاقية عامة مشتركة» مثل «على الإنسان ألا يتسبب بالشر والأذى على للآخرين»، أو «الالتزام الأول هو بمعاملة الناس بالتساوي»، وهكذا دواليك. لكن سميث يعتقد أن تطبيق هذه المبادئ سيتسبب في بروز مستوى جديد من الفكر الأخلاقي.
تتعلق المرحلة الثانية من الفكر الأخلاقي ب «ترجمة المبادئ المجردة التي شيدها الأمر المطلق إلى خطوات عملية في العالم الحقيقي»، وهذا الأمر يتطلب تفحص العواقب، يقول سميث أنّ كانط ومع أنّه «استثنى العواقب النظرية لتحديد الحقوق» إلاّ أن هذا لا يعني «أنّه لم يحفل بنتائج تطبيق» هذه الحقوق (أو المبادئ الأخلاقية) على أرض الواقع، وتوجد مشكلتان مهمتان على الأقل في تطبيق حقوق الإنسان أو المبادئ الأخلاقية على أرض الواقع: الأولى هي وجود تعارض بين هذه الحقوق والقواعد، وعلينا إذا أردنا أن نحدد الحق أو المبدأ الأخلاقي الذي يجب أن ينال الأولوية أن نتفحص عواقب كل خيار ونسأل أنفسنا، مثلاً، عن عواقب تغليب حق الأمن على حق الخصوصية، أو حق الحياة على الحرب الوقائية، وهكذا دواليك. أمّا المشكلة الثانية، فهي أن الحقوق والمبادئ الأخلاقية في حد ذاتها لا تقدم أي إستراتيجية لتحقيق العدالة، فإستراتيجيات تحقيق العدالة ليست ببساطة «مجرد تطبيق آلي لمبادئ أخلاقية مجردة إن لم تكن أبعد من عالم الواقع بالكلية بل إنّا هي ممارسة متقنة لأحكام نفسية واقتصادية واجتماعية وسياسية، ويتطلب العمل بهذه الأحكام تقييماً رصيناً للعواقب المرجِ حة لفعل ما» (المصدر السابق: 22 (. لكن سميث يترك مجالاً واسعاً أمام الحسابات النفعية كي تعود إلى الصدارة إذ يصعب علينا أن نرى كيف يمكننا أن نحافظ على «الاستقلالية الأخلاقية » عبر مرحلتي سميث هاتين، لأنّه في المرحلة الثانية «تحتاج الدول إلى حماية مصالحها غير الأخلاقية )مثل السلطة والثروة( أو مصالحها الجزئية الضيقة (مثل الحفاظ على مجتمع منفصل مستقل) والتي تتعارض مع مصالح الآخرين.