أدباء وكتاب عرب يستقصون مشهد الدخول الثقافي المؤجل: كورونا وحمى التطبيع

 

أعادت الوضعية الوبائية التي يشهدها العالم، تذكيرنا، بقدرة الفعل الثقافي والفني على تجسيد قوة التقارب الاجتماعي. في وقت ظل العالم اليوم يحارب بكل الطرق، رافعا شعار «التباعد الاجتماعي» كسبيل لمحاربة وباء كورونا. أغلقت القاعات السينمائية والمسارح، ومنعت اللقاءات الثقافية، وانتفت كل السبل الكفيلة بلقاء الكاتب مع جمهوره. في مستهل موسم جديد، وجهنا سؤالا لمثقفين وكتاب العرب، حول طبيعة وخصوصية الدخول الثقافي والفني، هذه السنة، والذي غيب قسرا بفعل الوضعية الوبائية. لتنضاف حمى التطبيع والصعود المدوي لسياسة الخذلان، وهذه المرة بقوة، كي تسائل ضميرنا الإنساني والتصدي لكل محاولات الاختراق والتكلس والانبطاح.

بتنا نعيش الخراب بعينه.

ترى الإعلامية والكاتبة المغربية، سعيدة شريف، أنه لا يمكن الحديث بالمرة عن الدخول الثقافي، حتى في الظروف العادية، في ظل غياب أي سياسة ثقافية واضحة. أما ونحن نعيش ظروفا خاصة بسبب وباء كورونا، فالوضع أصعب وأعقد، فكل شيء مؤجل، ومن يعيش من الثقافة أصبح على حافة الفقر، لا مسارح، لا سينما، لا لقاءات، لا ندوات، بتنا نعيش الخراب بعينه. والطامة الكبرى هي أننا بتنا نعيش على وقع الخذلان والمذلة، وتشريع التطبيع مع الكيان الصهيوني، واعتباره «إنجازا تاريخيا»، ضاربين كل الأعراف الإنسانية عرض الحائط، محرفين التاريخ ومتنكرين للقضية الفلسطينية التي تربينا على نضال شعبها المشروع. كل شيء تهاوى، وصرنا نعيش حبيسي مساكننا وأجهزتها الإلكترونية التي تنقل لنا المواجع تلو الأخرى؟

فيروس التطبيع أقوى من كورونا.
.
ويرى الشاعر البحريني، أحمد العجمي، أن وباء كورونا أعاد تشكيل المجتمعات والكرة الأرضية، بحراكها وأنشطتها، على إيقاعه. وهو ما بات يقتضي ثورة في التفكير والسلوك لدى الشعوب ومؤسساتها. فهذه العزلة الجامعة، استوجبت التكيف والملاءمة في نمط السلوك والفعل، بما فيه النشاط الثقافي والإبداعي؛ وهذه النمط المجمّد والمحاصر للسلوك والنشاط السائد سمح للثقافة بكل دوائرها أن تقتحمه وتفكر فيه وتقاومه بالفن والأدب، وتبتكر ما هو قادر على اختراق العزلة من خلال الفضاء الرقمي. لكن، اللحظة الأكثر ظلامية، في هذا التوقيت الذي يقاوم فيه الإنسان العربي فرص وجوده، هي هجوم فيروس التطبيع للقضاء على الوجود الفلسطيني، وعلى الثقافة المناضلة والمقاومة للبشاعة التي خلقتها الرأسمالية البشعة بحروبها وبتقسيمها العالم وباغتصاب وسرقة فلسطين. مطلوب اليوم، يؤكد العجمي، من العقل المستنير والواعي بالمستقبل أن لا يستكين ولا يلوذ باللامبالاة لهذا التهافت المريع على قتل الإنسان العربي وثقافته وطموحاته وتطلعاته، وأن لا يسمح بتمرير السم الصهيوني إلى جغرافيته ومجتمعه وثقافته، وهو ما يستحق من الشعوب العربية أن تغلق جميع المنافذ العقلية والثقافية والفنية والأدبية والوجدانية أمام فيروس التطبيع وتنشط سبل الوقاية منه ومن آثاره المدمرة.

هامشية ودونية الفعل الثقافي.. ومغالبة إيديولوجية المحو والاحتلال

فيما يرى الناقد والمترجم المغربي، بنعيسى بوحمالة، أن تداول تعبير الدخول الثقافي لدينا، قبل جائحة كورونا، كان يندرج في باب التّرف أو بالأصحّ، التزيّد الكلامي ليس أكثر، ولعلّ مردّ هذا إلى هامشيّة الثقافة، أصلا، ودونيّتها في مجمعاتنا العربيّة. فالدخول الثقافي الفعلي والدّال لهو من صميم ديناميّة المجتمعات الراقيّة وتترجمه، حتما، أرقام معاملات هائلة تمسّ حجوم الإصدارات الفكريّة والإبداعيّة مساسها لنسب الولوجات إلى الفضاءات الثقافية والفنية. إن كان الإيقاع الثقافي قد تبلبل، بأثر من فوبيا كورونا العارمة التي لجمت كل شيء، فما بالنا بأوطاننا التي تعاني من هشاشة متجذّرة تطال الحاجيّات المعيشيّة الأوليّة للإنسان فأحرى مشترطات الرّفاه الثقافي. من هذا الضّوء أراني متطيّرا من جسامة الارتباك الذي سيستحكم في انسيابيّة الفعل الثقافي، عالميّا ووطنيّا: تدنّي نسبة التلقّي والاستهلاك..؛ تقنين الدخول إلى المتاحف العالميّة، خيبة الأمل في انعقاد الدّورات المرتقبة لمعارض الكتب الدوليّة،.. في ما يؤشر، بوحمالة، على أن القضيّة الفلسطينيّة، والتي كان يتعاطى معها، ليس فقطّ من زاوية التّآزر المبدئي مع شعب يتجرّع مرارة ظلم فادح، بل وأيضا باعتبارها عنوانا لخراب حضاري عربي ذريع، ومن ثمّ، وخارج معطى التّقاطب السنّي/الشّيعي أو التّدافع الأمريكي/الإيراني في منطقة جغرافيّة حسّاسة وسائر التّداعيات الجيو–ستراتيجيّة الواردة، فإنّ أعراض الانهزام والاستسلام وكذا التّطبيع، السّالف منه والمستجدّ، السّافر منه والمضمر، إن هي سوى قرائن لانحطاط أعمق يعيق تخلّق أمّة عربيّة متحرّرة، شعارها الديمقراطيّة والمعرفة والابتكار، يكون بمقدور أبنائها دحر تأخرّهم التاريخي ومغالبة إيديولوجيا المحو والاحتلال والاضطهاد التي يؤدّي ثمنها الشّعب الفلسطيني سواء بسواء.

وضع ثقافي هش،
وفلسطين قصيدة حرية

تتجه الشاعرة الفلسطينية، إيمان زياد، الى توصيف حالة المشهد الثقافي الفلسطيني الداخلي، إذ لم يكن حظه وفيرا، قبل الجائحة، ولكم أن تتخيّلوا حالته تحت ظلّها الآن. فمقارنة بغزارة الإنتاج الثقافي لا يمكن اعتبار النوافذ الثقافية كافية أو تدلل على الدعم الرسمي وغير الرسمي. فمثلا؛ حتى يومنا هذا لا يوجد في فلسطين، مسرح واحد لا يواجه قمع الاحتلال كمسرح «الحكواتي» في القدس المحتلة والمهدد بالإغلاق، والقمع الاقتصادي كمسرح «نعم» في الخليل. فبالرغم من إنتاجاته المتميزة إلا أنه لا يتلقى أي منح مالية، مما اضطره الأمر لتوقيف أعماله، وأشكال العنف كثيرة.. قبل الجائحة؛ وكي يكمل المثقف/ة طريق الإبداع، عليه أن يتناسى الواقع الهشّ المسيء للثقافة، وهو بذلك لا يعود مثقفا حقيقيّا. وبالتالي بعد تفشّي الفايروس، لم تطفُ على السطح سوى مبادرات بسيطة، ومشاركات متواضعة للمثقفين/ات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. السؤال الذي يخلج القلب، ماذا سيقول المثقف/ة الفلسطيني/ة في حق من تعرّوا مهرولين للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني؟ فأقلامنا، موسيقانا، لوحاتنا، بوحنا، حملت قضيتنا منذ الأزل على أكتافها وهكذا ستظلّ حتّى الحرية.
واختار الشاعر المغربي، محمد حجي محمد، على سبيل المقارنة، الإشارة الى الدخول الثّقافي أو ما يسمى في فرنسا وبلجيكا بــــــــ»الدخول الأدبي»، والذي يعد مناسبة ثقافية هامة يتعرَّفُ خلالها جمهورُ القراءةِ على أَحْدَثِ ما أصدرته دور النشر، وبرامج ثقافية.. فمن الصّعب الحديث عن الدّخول الثقافي لدينا، مغربيا وعربيا، في ظل هذه الجائحة أو قبلها. علما بأن وضع الشلل الكلي، تعاني منه الممارسة الثقافية والفنية بمختلف أنواعها. فهل نتوقع دخولا ثقافيا افتراضيا، يلتقي فيه الكاتبُ بقرائه عبر وسائط التواصل الاجتماعي؟؟ أما عن حمى التطبيع، فالمثقفون المغاربة كانوا سباقين لإدانة هذا الانبطاح الكلي، من خلال انسحابهم من الجوائز الأدبية الإماراتية، ومن هيئات تحرير بعض مجلّاتها، لأن التطبيع في حقيقة الأمر، تشجيعٌ على انتهاك حقوق الفلسطينيين.


الكاتب : عبد الحق ميفراني

  

بتاريخ : 21/10/2020