أرض تبتسمُ في الخَفاء

 

 

يا أيُّها العابرُ جِسرَ الفراغِ
يا هذاااا
قلْ للموتى الذين يعبرونَ يومياً، أنْ ينتبهوا إلى شبحِ الغريبِ، إلى العُمّالِ المياومينَ،
أنْ يُذكِّروا صوتَ الرِّياحِ بِجسدي النَّحيلِ،
أنْ يُرافقوا الطيّورَ إلى أعشاشِها ويضعوا لها في المساءِ حجَراً لتفرحَ وتُغرِّدَ وتطيرَ؛
قلْ لهم
أنْ يُثبِّّتوا أحجارَ البيتِ في زاويةٍ يتراكمُ فيها قولُ الغريبِ، حكاياتُ الجَدّاتِ وأسئلةُ الرحيلِ؛
قُلْ لهمْ
هناكَ قلبي كتابٌ وأوراقُ ذاكرةٍ لا تُمحى؛
قُلْ لهمْ
تحتَ حوافرِ الخيلِ بعضٌ من فرحٍ وألمٍ، وسَردٍ يُرتِّق القصيدةَ جُرحَها.
لا حاجزٌ بعدُ،
لا ضفافٌ، أو بعدٌ عن أرضٍ ربَّتني على الألمِ والعزلةِ، على نولِ المعنى، كما يحكي أسيرٌ قصيدتَهُ بينَ قُضبانِ الحديدِ..
تذكَّرْ جماجمَ الجندِ، ومعارضي القولِ والرخامِ،
تذكرْ ألسنةً جُزَّتْ من افواهِها، وسكنَتْ ثقوباً، وسكنتْ جبالاً، فاختلَّتْ سُرودُ الرَّعدِ والبرقِ في وصايا العشقِ..
يا هَذاااا
ظُلمٌ أنْ تَتركَ الماءَ يعبرُ إلى روافدَ أخرى، ويحتَّلَ المُهرِّجُ ظلَّ الضوءِ، في سَنةٍ غابَ فيها النَّجمُ القُطبيُّ
تحتَ أرضٍ تموتُ..
يغفو الدمارُ على سريرِ المَوتى، يحلمُ بنقطة الحياةِ، ويحلمُ كأنَّه أميرٌ يسطو على سفنٍ، كمُمثلٍ باشقٍ
فوقَ الخَشبةِ..
يا هذاااا
قلْ لهم
هذه الأرضُ لا تموتُ
هؤلاءِ ستَبقى أرواحُهم مُنغرسةً في جِذرِها
والماءُ ينفُرُ كسحاباتٍ لا تُغادرُ قلقَها
تحتكُّ بينَ أحجارٍ قديمةٍ ولا تنتَهي تحتَ رمادِ
القبيلةِ
يا هذاااا
مَنْ تركَ الوَصيَّةَ على جُنح الرِّيحِ
تركَ الظِّلَّ لِلرملِ
شاهِداً
وخَطا نحوَ حَوافرِ القافلةِ
جَاؤوا
مِنْ غَضبٍ
يلتحِفُ دمَهُ في كوفيتِهِ
ولا ينتظرُ على مائدةِ الكلامِ
اقتفاءَ الليلِ
لأثرِ الصباحِ
قُلْ لَهمْ
تركتُ كلَّ شيءٍ
سريراً بأحلامٍ
مُعلقةٍ على أسلاكِ الكهرباءِ
مصباحاً خافتاً لمساءِ العائلةِ
وأوانيَ فارغةً بها بصماتُ أصابعِ أمّي في مطبخٍ فاحمٍ
تركتُ كلَّ شيءٍ
وبقيتْ ظِلالُ خوفٍ تتربَّصُ بي
وشريانٌ مازالَ يُلوِّحُ مِنْ بعيدٍ
وكأنَّهُ يهدي بِرعشتِهِ السُّفنَ الضّالةَ
إلى رُبّانِها، قادماً، على سفينةٍ تحملُ بعضَ حليبٍ
وحذاءً قديماً لرحلةٍ قادمةٍ..
إنَّهم جَاؤوا
مِنْ ليلٍ يصعبُ على عَينِ المُؤَرخِ
تركوا لنا أحلامَهمْ
في صناديقَ مُشمَّعةٍ في زَوايا المَقبرةِ
تَركوها عِبئاً علَينا
نَراها ونُصابُ بِالأرَقِ
في كُلِّ مكانٍ..
يا هَؤلاءِ
عودوا منْ دَمكُمْ
مِنْ غُربتِكمْ
مِنْ قُبورِكمْ في الهواءِ
عُودوا
إلى أرضِكُمْ
أرواحاً حيَّةً في التُّرابِ
نَقرتِ الطيورُ روحَها ونثرَتْها أجنحةً
لِلأسْرى
لِنساءٍ تركنَ غُرَفهنَّ للفراغِ
تركنَ أسرارَهنَّ، مَطابخَهنَّ للرِّياحِ
للمَوتى تَركوا
في بَصمةِ الغازينَ دليلاً
وعادُوا..
كانوا يُولدونَ
كل طلْقَةٍ في الصدرِ
حينَ يتسلَّلُ السَّأمُ
إلى أحراشِ الغَنيمةِ والضَّحيةِ سيانُ
يَصرخونَ فرَحاً
لِتُمدِّد الشَّمسُ ظِلَّها للخريفِ
ولتحتفلَ الشُّرفاتُ بدمٍ آخرَ
في الشِّريانِ..
يُولدونَ وفي يَدهِمْ
خِرقاً بيضاءَ لزِفافِ الحَمامِ
في زُقاقٍ يَنشرُ الرَّعشةَ في مفاصِلِ
الحَديقةِ
ويَحفِرُ شِبراً في أرضٍ تبتسِمُ
في الخفاءِ
يولدونَ
كلَّ عَصرٍ بعدَ أنْ تنامَ القذيفةُ
في صدرِ المساءِ
ينامونَ قليلاً
بَين هاويتينِ
وهُمْ أكثر بَهجة مِنْ حُلمٍ في الهواءِ
ياهذاااا
لا نعودُ كمَا ذَهبْنا
وُلِدنا مرَّةً ولا نموتُ مرَّتينِ
نعودُ كما نريدُ
نَنمو كما أعشابٍ منْ أرضِنا
منْ دمِنا
ومنْ هَواءٍ بعيد
لنا أرواحُنا
تَنبجِسُ مِنْ بريقٍ في الرَّمادِ
إنْ لمْ نكنْ نبضاً في الوريدِ
يهدي الأقمارَ إلى ظلِّها
فمَنْ نكونْ؟!


الكاتب : جمال أماش

  

بتاريخ : 31/10/2025