أزمة حادة في العلاقات الفرنسية التركية على خلفية الوضع بليبيا

وصلت الازمة الديبلوماسية بين فرنسا وتركيا حد المواجهة العسكرية في عرض البحر المتوسط في المدة الاخيرة وهي ازمة دفعت فرنسا الى الانسحاب من فرق المراقبة بالبحر المتوسط التابعة لحف الأطلسي. على اثر احتكاك امام الشواطئ الليبية، اعتبرته فرنسا سلوكا معاديا، وهي الازمة التي طرحتها وزيره الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي امام البرلمان الأوربي بالقول «ان تركيا لم تعد بالحليف الموثوق به». بالطبع تركيا كذبت هذه الاتهامات خاصة ان تحقيقا قام به الحلف الأطلسي ويبدو ان نتائجه لم تعجب ولم تكن في صالح باريس حسب ما تسرب من اخبار.
وعدم رضا فرنسا على الوضع في الحلف الأطلسي جعل الرئيس الفرنسي يصرح ان الحلف الناتو يوجد في وضعية «موت دماغي» هذه الوضعية تعكس تضارب المصالح بين الحلفاء الاطلسيين. والأزمة بين انقرة وباريس دفعت هذه الأخيرة الى طلب تطبيق عقوبات اوربية على تركيا، ودعى وزير الخارجية الفرنسي جون ايف لودريون زملاؤه الاوربيون في الاتحاد الأوربي الى اجتماع يوم 13 يونيو المقبل من اجل تدارس عقوبات ضد تركيا.
كما سبق لبلدان الاتحاد الأوربي ان اتخذت عقوبات ضد تركيا بسبب عمليات التنقيب في المنطقة الاقتصادية البحرية لقبرص. وتصبو فرنسا الى ممارسة ضغط إضافي ضدها من خلال العقوبات. لكن التساؤل الان هو هل ستنجح فرنسا في جر باقي البلدان الاوربية نحو هذا الموقف خاصة المانيا التي لها مصالح كبيرة مع تركيا . خاصة ان انقرة بتواجدها في ليبيا أصبحت تتحكم في محورين للهجرة الغير قانونية نحو اوربا. وهي ورقة ضغط جديدة يمكن ان تفجر اوربا من الداخل كما وقع سنة 2015.
الصراع بين البلدين يعود الى 2001 بعد اعتراف فرنسا بوقوع حملة إبادة ضد الأرمن سنة 1915 في العهد العثماني، وهو ما ردت عليه انقرة بعدة إجراءات مضادة وصاحب ذلك توثر في العلاقات بين البلدين.
وتعقدت هذه العلاقات اكثر بوصول نيكولا ساركوزي الى الاليزيه سنة 2007 سواء حول الموقف من ابادة الأرمن في العهد العثماني، او رفض ساركوزي انضمام تركيا للاتحاد الأوربي لعدم انتمائها الى الثقافة المسيحية.
التوثر بين البلدين رافق طموح تركيا في افريقيا والبلدان العربية مند بداية هذا القرن، حيث أصبحت انقرة فاعلا اقتصاديا وتجاريا وعسكريا مزعجا لفرنسا في هذه المناطق الافريقية التي كانت فضاءا تحتكره فرنسا وسط الى حده الأقصى في ليبيا.
تركيا بدورها تتهم فرنسا بدعم الجنرال حفتر وهو ما تنفيه هذه الأخيرة، وهو ما يجعل باريس في موقع حرج في هذه الازمة. الرئيس الفرنسي ايمانييل ماكرون اثناء زيارته هذا الأسبوع للمستشارة الألمانية انجيلا مركيل نفى امام الصحفيين ان بلاده دعمت او قبلت بهجوم حفتر السنة الماضية على العاصمة طرابلس. واعتبر تركيا تتحمل مسؤولية «تاريخية وجنائية» لما يقع في ليبيا. واعتبر ما تقوم به في هذا البلد باللعبة الخطيرة. وهو اتهام خطير، بحديثه عن المسؤولية الجنائية .
فرنسا على لسان رئيسها ايمانييل ماكرون أعلنت انها تبنت موقفا محايدا. وباتت تدعم بشكل كامل عملية السلام التي تشرف عليها الأمم المتحدة. لكن هذا الموقف لم يهدأ من التوتر بين الطرفين حول هذه الازمة خاصة ان تركيا قلبت موازين القوى بدعمها القوي لحكومة فايز السراج والحقت هزائم متعدد بالجنرال حفتر. تركيا من جهتها ترد على كل التصريحات التي تقوم بها فرنسا، وتعتبر باريس مورطة في دعم العمل المسلح ضد الحكومة الشرعية.
الوضع بليبيا شهد انقلابا في التحالفات بين الأطراف المتصارعة مند الإطاحة بالعقيد معمر القدافي في سنة 2011. وسبق لفرنسا مند سنتين ان وجدت نفسها في مواجهة مع جارتها وحليفتها إيطاليا بسبب التدخل في ليبيا، ولم تتردد الحكومة الإيطالية انداك، التي كان يشارك فيها اليمين المحافظ، من نعت فرنسا بالقوة الاستعمارية.
لكن التدخل التركي في شرق المتوسط قلب عدة أوراق بالمنطقة وأصبحت لاعبا اساسيا بها، وسلسلة الدول التي يغضبها التواجد التركي بالمنطقة طويلة نذكر منها مصر التي وضعت خطوطا حمراء حول منطقة سرت والجفرة بالجنوب الليبي، بالإضافة الى اليونان وقبرص اللتان يزعجها قيام تركيا بالتنقيب على الغاز بمنطقة المتوسط قريبا من حدودهما.
الدور التركي بالمنطقة لا يقتصر على ليبيا وسوريا والعراق، بل ان تركيا تهتم أيضا بالقرن الافريقي والسودان. هذه الوضعية سوف تجعل عدة بلدان عربية محاصرة بقوتين اقليميتين وهما ايران التي تدعم الأقليات الشيعية بالمنطقة وتستعملها كحصان طروادة، وبين تركيا التي تريد استرجاع الهيمنة العثمانية على المنطقة. بعد هزيمة الأنظمة القومية العربية بالمنطقة، مع وفاة جمال عبد الناصر، واعدام صدام حسين و موت حافظ الأسد، وهي كلها أنظمة راهنت على القومية من خلال تصور قطري لها. أصبحت اليوم قوى أخرى تؤثر بالمنطقة باسم الأقلية الشيعية، وباسم الإسلام السياسي بتركيا من اجل «توحيد الامة»، والبحث عن موارد جديدة لصناعتها الناشئة. التحرك التركي بالمنطقة يتم بموافقة أمريكية حتى الان ولا احد يعرف الحد الذي تسمح به واشنطن لتركيا، خاصة ان هذا التوسع يزعج حلفاء اخرين ليس لهم نفس التصور بالمنطقة منهم مصر، إسرائيل، اليونان، قبرص بالإضافة الى الامارات والسعودية. دون الحديث عن روسيا التي ليست حليفة لهذا المحور، لكنها تزوده بالأسلحة والمقاتلين وتتفاوض مع الطرف التركي الذي يمثل مصالح واشنطن بالمنطقة حتى الان.
تساؤلات عدة تطرح حول هذه الاستراتيجية الامريكية بالمنطقة والتي لا يسادنها اغلب الحلفاء بمن فيهم فرنسا التي تواجه هذه السياسة، التي يمكن ان تنتهي يوما بمواجهة بين الحلفاء في حالة تهور احد الأطراف في كبح سياسته العدوانية. وهو ما يجعل تساؤلات عدة تطرح حول هذه الوضعية التي أصبحت تهدد المنطقة. هل السماح لتركيا بالتورط في عدد كبير من النزاعات الاقليمية هو من اجل اغراقها في حرب مستنزفة بالمنطقة؟ ام هو تصور جديد لسياسة الامريكية بالمنطقة التي تريد توكيل احد الحلفاء لرعاية مصالحها بالمنطقة؟ هل البلدان العربية المورطة في هذه الازمة لها استراتيجية وأهداف محددة ولصالح أي محور تعمل؟
ويبقى الغائب الكبير هي بلدان الاتحاد المغاربي، التي تجد نفسها امام توثر عسكري وأزمة سياسية على أبواب حدودها، لكنها غير قادرة على التأثير في مسار هذه الازمة او حتى دعم احد اطراف النزاع بشكل واضح. بعد افشال اتفاق الصخيرات الذي نال الشرعية الدولية والليبية والذي حملته الدبلوماسية المغربية والتي كان مصدر الشرعية الوحيد بليبيا، فان الوضع اليوم اصبح يتجاوز الجميع، وأصبح الصراع مستفحلا، يمكن ان تؤدي نتائجه الى ما لا تحمد عقباه بالمنطقة. لكن لو دعمت الجزائر وتونس هذا الاتفاق لتغير الوضع بليبيا. ومبادرة مغاربية موحدة كان ستكون أيضا محو دعم كل الليبيين.
هناك أيضا اطار مجموعة 5+5 لبلدان غرب المتوسط التي تضم بلدانا من ضفتي المتوسط الشمالية والضفة الجنوبية (بلدان الاتحاد المغاربي) التي يمكنها ان تلعب دور التوازن من اجل حل سياسي بليبيا.وفي حالة اشتغال هذا المحور بقوة سوف تكون له كلمة الفصل في هذه الازمة.
لكن يبدو ان الحل الذي يتبلور في الأفق لهذه الازمة المغاربية والمتوسطية، سيكون من خلال اتفاق بين انقرة وموسكو ولتصبح باقي بلدان المنطقة في موقع المتفرج.


الكاتب : باريس: يوسف لهلالي

  

بتاريخ : 13/07/2020

أخبار مرتبطة

كشف مرصد العمل الحكومي عن فشل الحكومة في محاربة الفساد والاحتكار، وعدم العمل على الحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية على

  تحت شعار «بالعلم والمعرفة نبني الوطن»، تم زوال يوم الاثنين 22 أبريل 2024 ، افتتاح أشغال المؤتمر 21  ل»اتحاد المعلمين

يعود ملف ممتلكات الدارالبيضاء ليطفو من جديد على سطح الأحداث، خاصة وأن المدينة تتهيأ لاستقبال حدثين مهمين على المستوى القاري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *