أزمة طلبة الطب في المغرب تعد تجسيدًا واضحًا للتوترات المتزايدة بين الدولة وفئة مهمة من الشباب المتعلم المقبل على سوق العمل. هذه الأزمة تتجاوز البعد القطاعي للتعليم والصحة، لتصبح نقطة التقاء لمجموعة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي تؤثر على صورة الدولة ومؤسساتها في أعين المتتبعين داخل وخارج الوطن.
الأزمة بدأت حين أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار عن خطتها لتقليص مدة التكوين الطبي من سبع سنوات إلى ست سنوات. هذا القرار قوبل بالرفض من قبل الطلبة، الذين طالبوا باستثناء الدفعات الخمس الحالية من تطبيق هذا القرار وتنفيذه فقط على الطلبة الجدد. إلا أن إصرار الحكومة على تطبيق الإصلاح على الجميع أدى إلى تصاعد الاحتجاجات.
الطلبة يرون أن تقليص مدة التكوين سيؤثر سلبًا على جودة التعليم الطبي، حيث سيقلل من فرصهم في الحصول على تدريب عملي كافٍ قبل دخول سوق العمل. في المقابل، الحكومة تدافع عن الإصلاحات وتؤكد أن هدفها هو تحسين الكفاءة الطبية وزيادة القدرة على تلبية الطلب المتزايد على الخدمات الصحية
العبث السياسي: تجاهل الحكومة لأزمة طلبة الطب يشكل تهديدًا لجودة الخدمات الصحية في المستقبل
ما يحدث لطلبة الطب يمكن وصفه بـ»العبث السياسي»، حيث أن القرارات الحكومية المتعلقة بالأزمة تبدو غير مدروسة جيدًا، أو على الأقل لم تأخذ في الاعتبار بشكل كافٍ آراء واحتياجات الأطراف المعنية. الحكومة، التي تتبنى سياسات ليبرالية اقتصادية، تميل في كثير من الأحيان إلى تقليص دور الدولة في تقديم الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة، وهو ما زاد من التوترات في هذه القطاعات. نتيجة لهذا النهج، تركز السياسات على تلبية احتياجات السوق بشكل قد يتعارض مع مصلحة الطلاب والمواطنين، كما يظهر من خوصصة التعليم الطبي أو إدخال الشراكات بين القطاعين العام والخاص في مجالات مثل التكوين الطبي.
الاحتجاجات المستمرة والإضرابات المتكررة لطلبة الطب تضر بسمعة المغرب على عدة مستويات. من جهة، تعكس هذه الأحداث عدم قدرة الدولة على تلبية تطلعات الشباب المتعلم، الذي يمثل شريحة حيوية في المجتمع، ويطالب بإصلاحات حقيقية في التعليم والتكوين. من جهة أخرى، تعكس الأزمة ضعف الحكومة في التعامل مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية، مما يساهم في تكوين صورة سلبية عن قدرتها على معالجة الأزمات الوطنية.
يرى الطلبة أن تقليص مدة التكوين سيؤثر على جودة التعليم، حيث سيقلل من الفرص المتاحة للتدريب العملي الضروري قبل دخولهم سوق العمل. في المقابل، تدافع الوزارة عن الإصلاح على أساس تحسين الكفاءة والاستجابة للحاجة المتزايدة للخدمات الصحية.
التناقض بين الأهداف الصحية ونقص الأطر البشرية
النظام الصحي في المغرب يعاني من نقص حاد في الأطر الصحية، حيث تشير التقديرات إلى وجود عجز يقارب 32,000 طبيب و65,000 ممرض. هذا النقص الكبير يشكل ضغطًا هائلًا على النظام الصحي، ما يزيد من الحاجة إلى تكوين أطباء وممرضين جدد بسرعة.
ومع ذلك، تتناقض إدارة الحكومة للأزمة مع هذه الحاجة الماسة. الطلبة يرون أن الإصلاحات المقترحة تهدف إلى التسريع في سد النقص في الأطر الصحية، لكنها تتجاهل ضرورة الحفاظ على جودة التكوين الطبي. ويعتقدون أن تقليص سنوات الدراسة قد يؤدي إلى تقليص وقت التدريب العملي، مما سيؤثر سلبًا على كفاءة الأطباء الجدد عند دخولهم سوق العمل.
الأزمة تعكس تناقضًا بين أهداف الحكومة لتحسين النظام الصحي عبر إصلاح التكوين الطبي، وبين السياسات التي تتجاهل مطالب الطلبة المتعلقة بضمان التكوين الجيد. الطلبة يرون أن الإصلاحات تهدف إلى معالجة النقص في الأطر الصحية على حساب جودة التعليم والتدريب الضروريين لضمان تقديم خدمات صحية فعالة.
غياب الحوار وتكرار السيناريو في القطاعات الاجتماعية
أزمة طلبة الطب في المغرب ليست معزولة عن الأزمات المتكررة في قطاعات حيوية أخرى مثل التعليم، الصحة، العدل، والجماعات المحلية. في كل هذه المجالات، غياب الحوار الفعّال بين الحكومة والفئات المتضررة يعتبر عاملاً رئيسياً في تفاقم الأزمات. الحكومة ترفض فتح قنوات حوار جادة مع مختلف الأطراف المعنية، معتمدة على سياسات متعنتة لا تستجيب لمطالب المتضررين، مما يزيد من تعقيد الأوضاع في مختلف القطاعات.
في قطاع التعليم، تشهد الجامعات والمدارس احتجاجات مستمرة، لا سيما مع الأساتذة المتعاقدين الذين يعانون من ظروف عمل غير مستقرة. في قطاع العدل، يواجه المحامون، القضاة، وكتاب الضبط مشاكل متعلقة بظروف العمل والإصلاحات القضائية. أما في الجماعات المحلية، فالموظفون يطالبون بتحسين الأوضاع وتوفير الموارد الضرورية لتسيير العمل، وهو ما يساهم في تزايد التوترات في هذه المؤسسات.
أسلوب وزير التعليم العالي: الصرامة دون تنازلات وبأي ثمن
وزير التعليم العالي، الذي شغل سابقًا منصب عميد كلية الطب بمراكش، معروف بتبنيه أسلوباً صارماً في اتخاذ القرارات، وعدم التراجع حتى يرى نفسه منتصرًا. هذه الصلابة في إدارة الأمور، والتي ميزته كعميد، تبدو أنها تتكرر الآن في تعامله مع أزمة طلبة الطب. يعتقد البعض أن التعنت في موقفه وصل إلى حد فرض القرارات بأي ثمن، بما في ذلك استخدام العنف كما حدث في الاحتجاجات الأخيرة لطلبة الطب.
الطلبة يشعرون أن الوزير لا يستجيب لمطالبهم ولا يفتح قنوات حوار جادة لحل الأزمة، ما دفعهم لمواصلة الاحتجاجات والإضرابات لمدة تجاوزت تسعة أشهر. وفي الوقت الذي تلتزم فيه الوزارة بتطبيق إصلاحات التكوين الطبي وتقليص مدة الدراسة، يرى الطلبة أن هذه الإصلاحات تتم على حساب جودة التعليم وظروفهم الأكاديمية والمهنية.
أزمة طلبة الطب: أزمة وطن وليست مجرد أزمة فئوية
أزمة طلبة الطب في المغرب لم تعد مجرد مشكلة قطاعية تخص الطلبة وحدهم، بل أصبحت تمثل أزمة وطنية تعكس التحديات الأوسع نطاقًا في النظام التعليمي والصحي. يعاني النظام الصحي المغربي من نقص حاد في الأطر الطبية، وهو ما يفرض تحديات على جودة الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين. تأخير تخرج دفعات جديدة من الأطباء بسبب هذه الأزمة يزيد الفجوة بين العرض والطلب في الخدمات الصحية، مما يضع التصعيد الأخير واستخدام العنف.
في التصعيد الأخير، نظّم الطلبة اعتصامات سلمية، لكن السلطات واجهتها بالقوة المفرطة، ما أدى إلى إصابات في صفوف الطلبة واعتقال العديد منهم. هذه الحادثة أعادت النقاش حول تعامل الحكومة مع الاحتجاجات السلمية وحق المواطنين في التعبير عن آرائهم بحرية.
ما يتعرض له طلبة الطب من عنف سيظل وصمة عار على جبين الحكومة التي أثبتت فشلها في إدارة الملف. اللجوء إلى القوة لتفريق الاحتجاجات يعكس عجزًا واضحًا عن التعامل مع الأزمة بطرق حضارية وديمقراطية. إذا استمر هذا النهج، ستتفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية في المغرب.
في ظل هذه الأحداث، يتضامن المجتمع بأسره مع طلبة الطب الذين يواصلون صمودهم في مواجهة تعنت الحكومة. مطالبهم ليست سوى حقوق اجتماعية ومهنية مشروعة، لكن الحكومة ترفض فتح حوار جاد وتلجأ إلى القمع بدلًا من الاستجابة لمطالبهم.
الخلاصة
أزمة طلبة الطب في المغرب تمثل أزمة وطنية بأكملها، وليست مجرد مشكلة قطاعية تخص فئة معينة. المسؤولية تقع بشكل أساسي على عاتق الحكومة التي ترفض الاستجابة لمطالب الطلبة، مما يهدد مستقبل النظام الصحي ويضعف الثقة بين الدولة والمجتمع. استمرار العنف ضد الطلبة سيؤدي إلى دفع العديد منهم للهجرة بحثًا عن فرص أفضل، وهو ما سيشكل خسارة فادحة للنظام الصحي المغربي.
الحكومة تتحمل المسؤولية الأساسية عن استمرار الأزمة نتيجة غياب الحوار الفعّال وتعنتها في اتخاذ القرارات. استمرار استخدام العنف ضد الطلبة سيزيد من تعقيد الوضع، وسيدفع بالكثير منهم إلى الهجرة، مما سيفاقم النقص الحاد في الأطر الصحية ويعرض النظام الصحي المغربي لخسائر جسيمة.
في ظل حكومة الكفاءات، يتعرض طلبة الطب في المغرب لقمعٍ متزايد لمجرد مطالبتهم بحقوقهم الاجتماعية والمهنية الأساسية، وهي حقوق تُعتبر في دول أخرى جزءاً لا يتجزأ من النظام التعليمي والمهني. إن عدم الاستجابة لمطالب هذه الفئة الحيوية يعكس استهتارًا واضحًا بحقوقهم الأساسية ويكشف عن نقص في الاهتمام بتطوير القطاع الصحي، الذي يعتمد بشكل كبير على هؤلاء الطلبة ليصبحوا الأطباء الذين سيخدمون المجتمع في المستقبل.
طلبة الطب هم الركيزة الأساسية لمستقبل الصحة العامة في الوطن، وهم من سيتحملون مسؤولية رعاية وعلاج المجتمع في السنوات القادمة. تجاهل مطالبهم، سواء المتعلقة بتحسين بيئة التعليم أو التدريب العملي، أو حتى توفير الشروط المادية والمعنوية لمزاولة المهنة، يعد إهمالًا واضحًا لمستقبل النظام الصحي في بلادنا. تعنت الحكومة ورفضها التراجع عن قراراتها، رغم المطالب المتكررة، يزيد من تعقيد الأزمة ويترك أثرًا سلبيًا على جودة التعليم الطبي ومستقبل الخدمات الصحية.
من المؤكد أن ما يتعرض له طلبة الطب اليوم من عنف وقمع سيظل وصمة عار على جبين هذه الحكومة، التي أثبتت فشلها في إدارة هذا الملف. الهجرة الجماعية قد تصبح الخيار الأخير لهؤلاء الطلبة، مما يمثل خسارة فادحة للمنظومة الصحية الوطنية. إذا كان هناك مسؤول حكومي يتسم بالعقلانية، فعليه التدخل فورًا لإنهاء هذا الظلم الواقع على طلبة الطب وضمان حقوقهم المشروعة قبل فوات الأوان.
كل التضامن مع طلبة كليات الطب الذين لا يزالون صامدين في الدفاع عن حقوقهم المشروعة في ظل عدم جدية الحكومة في التعامل مع هذا الملف. إن الاستجابة لمطالبهم ليست مجرد تلبية لمطالب فئة معينة، بل هي استثمار في مستقبل المنظومة الصحية الوطنية التي تعد واحدة من الركائز الأساسية للدولة الاجتماعية.
* عضو اللجنة الوطنية
للتحكيم والأخلاقيات