أزهارٌ بين الشقوق والحروق

إلى : أطفال غزَّةَ.
أطفال فلسطين
اسْتَذْأَبَ الوحشُ الرِّعْديدُ
هذا الوحشُ المملوء ريحا كريهةً ودماملَ
اسْتَذْأَبَ كثيراً
لأنك يا غزَّةُ عَزْلاَء
هل أنتِ حقّاً عزلاءُ؟.
قفزتْ عيونُ البومِ المتورِّمةُ
وهَطَلَ الكبريتُ والفوسفورُ
لمْ تُذْرفي دمعاً، ولم ترْتَعبي
ظللتِ شاديةً
تكمنين للذئب في
ثنيات الظلال المجروحة
وحشائش الخرائبِ
تكْتُبينَ العجائبَ تِلوَ العجائبِ.
لكنني أسألُ:
هل أتممتم يا أطفالي
( يا زُغْبَ الحواصلِ )
تمارينَ البارحةَ،
أم سهوتم حين غازل عصفورٌ
ذو رأسٍ أغبرَ، شبابيكَكم
التي بلَّلها ندى الصباحْ؟
ستزوركم زغرودةٌ كاذبةٌ
ورشاشة راصدةٌ
وطيّارةٌ رَعْناءُ
وأنتم ترفرفون كالفَرَاش
في عيون الأقاحْ
محافظُكم في الدواليب مثل
ناسكةٍ تنتظرُ
وأقلامُكُم الملونةُ في الهواء الثخينِ
يؤرْجِحها ضَوْعُ الياسمينِ.
أضَأْتُمْ الأرضَ،
أَنَّ مِنْ أنينِكم حَجَرٌ
وتفتَّتَ وجه السماء.
كأنكم ما انكمشتم حين سَرْسَبَ
الدمُ مسكاً على وِشاح المذبح، وجُرْن الخديعة،
ما مَرَرْتُمْ بالمعنى الخاثر،
ما توَقَّيْتُم شبح الطلقة الغادرة
في طلقة عاثرةْ
نجمةٌ سائرة
في ركب السحاب
وفي نداوة البلاد.
ليالٍ بلا نجمٍ على طحلب الديار
وجليدٌ على المقاعد الخشبِ،
وأنتم تُوَقِّعون نشيداً، يا أطفالي،على وتر الغصة
والوطن الغُرابيّ.. وطنِ الندمْ
وترْعَشون من ألمْ.
مَنْ أحرقَ ريشَكمْ
واجتاح شرفة العدمْ؟
للرَّحمِ غدٌ باسمٌ
وللصّيصانِ يدٌ وقَدَمْ
وللمُتاح من الوقت
مُتَّسَعٌ للشدو والغناء.
أنَا سمعتُ الضحيةَ تقول للجلاد،
وقد تأَرَّجَ بضحكتها الفضاءُ،
ـ هل أيقظك سَليلُ الغزالةِ
على منديل زوجك المرتجفة
من عواء الريح، وهل أوصيتَ
الصف الثاني باغتيال جرس المدرسة
واعتقال ناطورة العين إلى
السماء الأخرى الفائضة عن العدِّ؟
حَسِبْتُ الذكاءَ شرعةً لديكَ
لكن الخرافةَ تَشْطِبُ أزاهيرَ
الشتاء على ساعديكَ،
وتنام على الرصيف الباردِ
لا وقتَ لديها للتعديل والإضافةْ.
وهل أبصرتم في الجَزْماتِ
بيْضةَ الدّيكِ،
وفي الخُوَذِ، نتانةَ الخرافةْ؟
وماذا عن الشجر الذي
زَرَّرَ أوراقَه على دخان الصلوات
وارتمتْ جذورُه تنزفُ
طيوفا لأحلامكم،
وأنتم تلوذون بالأسوارِ
هربا من الأشرارِ.
ليالٍ عصيّاتٌ خشِيتُ عليكم فيها الرَّجَّةَ
والمعبرَ الذئبَ والطيارة الفاجرةَ
فانْداحَ البياضُ بيْرَقاً
والنهارُ فيلَقا بين أياديكم،
والشَّرَقْرَقُ بيْدَقاً إلى المُقَلِ.
ليالِ ألِيمَاتٌ
لَسَعَتْ أمهاتَكُمْ اللهفةُ والدمعةُ
فسعَيْنَ على قلوبهن زاحفاتٍ
ونَدَفْنَ ضحكاتكم الأنصع من
لَوز الحكْي المنور في نَيْسانْ.
أتُراكم رأيتم إلى ضحْوَةٍ بارككم
فيها ربٌّ كريمٌ،
وآباءُ جَمّشوا آباطَ الحريرْ
ورَتَّقوا الصريرْ
بإبرٍ في الفكَّيْنِ
وَحَراشفَ في اليدينِ.
وها إنكم تمشون خِفافاً كالطيوفِ
في شَهْقة الخطْوِ
سَرَّكُمْ سُنْدُسُالبراري
سَرَّكُم رذاذُ الصباحِ
سَرَّكُمْهمسُ المرايا وأسنانُ عَكّا،
وشفاهُ غَزَّةَ
وبيتُ لاَهْيا
ومخيم جَبالْيا.
سرَّكُمْ ثُغاءُ العَرَصات، وزُجاجُ العُشْبِ،
وهُتافُ الضحايا.
للشجر أراجيحُهُ
وللذئب الضَّجَرُ
وأُسطرُلاَبْ المِبْوَلة.
ولكم مائدةُ السماء وسَمْنُالخوابي
ومابِي
سوى حُمّى المتنبي
تقرأُعقابيلَ الغربانِ
وتقرعُ من خَوَرِ وخُلْفٍ
مزلاجَ بابي.
أنْخسُ حِمار جُبْني
يَشْمَسُ لا يَريمُ،
وأبكي مهزوماً
كأبي عبد الله الصغيرِ.
تقولُ فاخِتَةٌ محترقةٌ في المَدَى:
ـ وما يُبْكيكَ والبكاءُ لا يفيدُ؟
أقولُ: ( إنما أبكي لهذا، لأن البكاءَ لا يفيدُ ).
فهذي الصرخاتُ
تطفو فوقَ عظامنا
تثقب رؤوسنا
وما بقيَ فينا من شهامة وروح.
( هل بقيَ فينا نزْرٌ من شهامة وروح؟ ).
نمشي.. نتعثر بأبدان الصبيان
وبأشلاء دُمَاهُمْ
دِمَاهُمْ الزكيَّةُ تشهد على نِداهُمْ.
إنه الفوسفورُ يهطل
ـ صاعقا فُجائياً ـ
كالَحِدَأَةِ المُدَجَّجَة بألفِ منقار.
فَبِمَ نُوَدِّعُهُم،
وبأيِّنشيدٍ نُغْريهم،
وأيُّ طيرٍ يكتب على معبر رَفَحْ
ومخيّم الشاطيء، ومشافي غزَّةَ،
وطاولات المدارس الفاغرة،
وبطون المساجد المبقورة
قيامَتهُمْ؟
بأيّ نشيدْ
بل، بأيّ عيدٍ نُمَنّيهمْ
وما بقٌوا.
لكنهم باقونَ
أزهاراً نديَّةً
تَنْبَثقُ من بين الشقوق والحروقِ،
وآتونَ
على أجنحة الريح الخضراءِ
على خيول الفتح
وفي ركابهم الفجرُ
ملائكةً ملفعين بالنورِ
مجللين بالوعد والغدِ.
وكنتُ قد أبحرتُ في يَمِّ يأسي
شَقَقْتُ رَمْسي
وقلتُ: وداعا غزَّةُ، وما من بأْسِ.
مرَّت الريحُ مزمجرةً
فتجعَّدَ ماءُ ظني
وانكسر الليلُ على نصال الليلِ
مِزَقاً تناثر على
عُشْبِ الذكرى
وظَمإ الحقولِ.
وهاهمْ أحفادُ يَشُوعَ بْنِ نونٍ
يَدُكّون عظامي أمامي
فتخضرُّ غزَّةُ العزَّةُ
في ثقوب المزمارِ
وتسيل كماء الكوثر
على زمني
آآآهٍ.. يا وطني
دعْني أجْمَعْ ما تفَرَّقَ من دمي
البحرُ مَيْتٌ في فمي
والنوارسُ تحمل المِلحَ
إلى جرح الجهاتِ.
فيا أيتها النائمةُ في بُهْرة الضوء
يا عنقاءَ الدهورِ
قومي من خرابكِ
قومي
واخرجي
صرْخَةً من ركود الزمان.
ومن شقوق الدمار والحريقْ،
زهرةَ بيلسانْ
في عُرْوة المكانْ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 28/06/2024