كيف يمكن تقديم كتاب بالكثافة والمعطيات والأحداث والشخصيات والأفكار التي يتضمنها السِّفْر الذي يقترحه علينا الأستاذ عبد الواحد الراضي؟ ما هي أشكال التقاطع، أو التقارب، أو التضارب ما بين السياسي والمثقف فيه؟ وكيف يمكن الحديث عن الذات داخل مناخ ثقافي يُعلي من شأن الجماعة ويعطي الأسبقية للكل على الجزء؟ وهل تسعف الكتابة السير ذاتية على استجلاء وقائع وصور المغرب الذي عاشه في تجسداته الواقعية أم أنها تتأثر بمنسوب ما من المسبقات والأحكام القبْلية والشخصية؟
قبل استجلاء بعض عناصر الجواب على هذه الأسئلة لابد من القول إننا أمام نصّ يتخذ من الذات محوره ومن الذاكرة الشخصية مُنطلقه ومن الحكي أداته. يطرح على القارئ المتتبع لأحوال البلاد قضايا من طبيعة نظرية شائكة، من قبيل العلاقة بين الذات والموضوع، بين الذاكرة والواقع، وبين نمط الحكي والكتابة.
السيرة الذاتية ومفارقات الذاكرة والحكي
يعلن صاحب الكتاب منذ غلافه أن الأمر يتعلق ب «سيرة حياة». أي أنه يدرجه في سياق «السيرة الذاتية». ومعلوم أن صيغة «السيرة – الذاتية» تتضمن لفظتي «السيرة» و«الذات». تحيل الأولى على الطريقة والمسار والهيئة، في حين أن الذات تختزل هوية الحاكي أو الكاتب بوصفها «أنا « واعية بذاتها. وتشير السيرة إلى ذلك المسار الحيوي الذي عاشه الفرد الحاكي أو الكاتب، في سياق من التسلسل المُختزِن للتنوع الوجودي والسياسي والحياتي. وهكذا تتحدد بين المسار والأنا علاقة معقدة يتشابك فيها الراوي بالمغرب الذي عاشه، بين الأنا ونمط حضور هذه الأنا في الواقع. .
بل يمكن أن يلتقي في سياق فعل الحكي أو الكتابة مع إمكانية رواية حياة جديدة. فالذات حين تقرر سرد سيرتها تواجه مسألة شروط إمكان «إعادة اكتشاف للذات، لإعادة بناء ولإعادة تكوين»(1). وهنا يطرح هذا التأليف الجديد للأنا سؤال التعبير. فالحكي، المستند إلى التذكر والتجربة الشخصية، قد يكون أصعب من العيش نفسه؛ إذ يلتجئ الراوي إلى السرد الشفوي و »إملاء» بعض تفاصيل حياته وذكرياته وتجاربه، ويُحوِّل كل ذلك إلى نص منسوخ ومخطوط. والظاهر أن هذا المؤلف شهد أكثر من مسار، بدأ بتسجيل عشرات الأشرطة الصوتية، كما يقول صاحب الكتاب، وتمّ تفريغها في «نص»، خضع، بدوره، إلى تحرير وإلى إعادة قراءة، وإلى تتميم، وإلى إغناء، «عدّة مرات»، ثم قام أصدقاء بقراءته و»أثروه بملاحظات واقتراحات مفيدة وأساسية» (ص14). ومنهم الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، الذي اطلع على محتويات الكتاب «ولا سيما الجوانب التي تتصل بشخصه». فضلا عن تعزيز الكتاب بعشرات من الصور التي تُقدم، هي بدورها، معلومات وحكايات خاصة فيها ما يعزز الكلام المُحرَّر، وفيها ما يبرز أحداثا ومواقف تقدمها الصور بلغة مختلفة في دلالاتها السيكولوجية والتاريخية والسياسية.
كما يطرح الانتقال من الشفوي إلى الكتابي قضية أخرى، تتعلّق بحالة القلق التي يمكن أن تنتاب السارد أو الكاتب حين يتطلع إلى تكسير المسافة بين الأنا الراوية والأنا الكاتبة والأنا المعيشة، أي بين الحياة كما عيشت وبين رهانات تَمثُّلها، وطيقة صياغتها كتابة. وهي مسافة يصعب تجاوزها لأنها تورط الذات، أحيانا، في أحكام وتقييمات، وقد تسقط ما هو كائن على ما كان. فالسيرة الذاتية تفرض على صاحبها أن «يعترف ويعترف لذاته بكل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة حول مسار لم يكن يرغب فيه في بعض الأحيان (2)« . فكيف يكمن، إذن، استحضار ذلك الشخص الذي كانه، بنقائصه وخصاله، بمغامراته وتجاربه؟ وفي نفس الآن، ما هو الأسلوب الأنسب لاستعادة بعض مكونات حياته، واستجلاء حقائق معيش ما انفك يمضي ويحضر في الزمان الشخصي والاجتماعي؟
لا تلتقي الرغبة في البوح بما مضى، دائمًا، مع هاجس الاعتراف بكل ما حصل، وعبد الواحد الراضي يقرّ بأنه «يصعب أن يحكي المرء حياته. إنه يحكي فقط ما هو ممكن، أي ما يستطيع أن يستعيده حين تسعفه الذاكرة وتسنده الوثائق»(ص11). ويعترف بأنه طيلة مساره لم يكن «يُدوّن يوميات». ومن هنا فإن هذا النوع من الكتابة السير- ذاتية يصعب إخضاعها لمنطق قراءة عقلانية صارمة، أو النظر إليها من زاوية اعتبارها تجهر بالحقيقة التامة والمحضة، حيث يتداخل فيها الواقع والرغبة، العقل والمخيلة، الإمكان والحكي المحسوب … الخ. وإذا كانت السيرة الذاتية عبارة عن «حكي استرجاعي نثري يتخذ شخص واقعي من وجوده الخاص موضوعا له، حين يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته على وجه التخصيص «(3)، فإن هذا التعريف يطرح اعتبارات شكل اللغة والمواضيع المطروقة وموقع السارد ووضعية الكاتب. ثم إن هناك كتابات سير- ذاتية أو تحسب على هذا الجنس من الكتابة، لا تستجيب للمعايير التي يحددها هذا التعريف، أو لأحدها. فالمذكرات أو السيرة الغيرية أو الرؤية الشخصية أو القصيدة الذاتية أو اليوميات الحميمية أو المحاولة الشخصية … إلخ، قد تلبي بعض الشروط التي حددها التعريف، لكن السيرة الذاتية، وحدها، هي التي توفر كل الشروط، ومنها أن يقدم نصها حالة من التماهي بين المؤلف، السارد والشخصية(4)، تتمثل في استعمال الأنا المتكلم.
ويعبر عبد الواحد الراضي عن وعي حاد بهذا الرهان حين يتساءل: « كيف يمكننا أن نوفق بين نظرة موضوعية إلى الأحداث والوقائع وأفعال التاريخ وحاجة المرء إلى نظرته الشخصية (لكي لا أقول الذاتية)؟ كيف يمكننا البحث عن الحقيقة بدون أن نكون على مسافة نقدية أو في تناقض مّا مع الإخوة أو الرفاق أو الأصدقاء أو الحلفاء؟» (ص 10). ذلك أن صاحب الكتاب ليس شخصًا عاديًا، لأنه ذات تحكي أو تكتب، وتنشر كتابتها، أي تنقلها من الحيز الشخصي المحدد إلى المجال العام. فالمؤلف يتحدد باعتباره شخصًا واقعيًا، مسؤولا اجتماعيًا وسياسيا ومنتجًا لخطاب في نفس الآن(5). ومهما كانت أنماط «الميثاق السير- ذاتي، فإنها في مجملها تظهر عناية خاصة بما يسميه «فيليب لوجون» بمسألة «التوقيع»، باعتبارها تجليا لذاتية تتطلع إلى التجسد في نص محكي أو مكتوب. وإذا كانت الهوية، في هذا المجال، تتحدد في المؤلف والسارد والشخصية، فإن السارد والشخصية وجهان يحيلان على «داخل النص، في حين أن المؤلف، بوصفه مسؤولا عن توقيعه، فإنه، وبحكم «الميثاق الأوثوبيوغرافي» يحيل على ذات التلفظ «(6)…
يعمل النص السير ذاتي على الرجوع بالملتقي إلى زمن مضى. ويتخذ بذلك، طابعًا «مرجعيًا»، لأنه يَعدُ بتقديم معلومة حول «واقع» خارج عن النص، أي في وضعية يقبل فيها إخضاع ذاته إلى المراجعة. ولذلك فإن هدفه لا يتمثل في إتباع وجه الاحتمال بقدر ما تحركه الرغبة في المماثلة مع الحق. ليس «فعل الواقع» وإنما صورته(7). أي أن كل النصوص المرجعية، ومن بينها أنماط الكتابة السير- ذاتية، تتضمن ما يسميه «لوجون» «ميثاقًا مرجعيًا»، سواء كان ضمنيًا أو صريحًا، لأن النص الأوثوبيوغرافي يحكي ما يعتبر صاحبه أنه قادر، وحده، على تقديمه قياسًا إلى نموذج ما. والنموذج، هنا، يحيل على الواقع الذي يسعى النص إلى التماثل معه.
ما بين الحكي والتحليل
ومع أن الأستاذ عبدالواحد الراضي يُنبّه، منذ البداية، إلى أن هذا الكتاب «ليس بمؤلف تاريخي، وإنما، كما يقول، يعمل على استعادة معالم حياة شخصية واكبَتْها وقائع التاريخ وأحداث وطنية ودولية» (ص12)، فإنه، مع ذلك لا يتردد في القول بأنني «أردت من خلال تجربتي الشخصية أن أسعى إلى تقديم عدد من عناصر الإخبار والتحليل، والتفكير، والفهم الخاصة بهذه المرحلة الأساسية» (ص12).
هل يمكن القول إن كتاب «المغرب الذي عشته» يكثف حكاية صاحبه كما حكاها ونقلها، بوفاء، داخل ثنايا النص الذي يعرضه علينا؟ هل تسمح لنا قوته المرجعية باعتماده كوثيقة ترصد تفاصيل سيرة حياة، وتعكس أحداثا تاريخية ترويها الذات الساردة؟
تتقاطع أنماط متعددة من الكتابة في «المغرب الذي عشته »، السرد التاريخي والسيرة الذاتية، ورؤى وتحاليل ومواقف.. إلخ. كما تتداخل اليوميات بالمذكرات أو بالذكريات. يحكم التذكر متن الكتاب من أوله إلى آخره. وهو تذكر يأتي في
أواخر حياة زاخرة بالتجارب واللقاءات والأسفار والمواجهات. ومن يكتب المذكرات لا بد من أن تفرض عليه ذاكرته عملية الانتقاء، حتى ولو كان هدفه إعلام المتلقي بما كان شاهدا عليه من أحداث ووقائع. وهنا تواجه المرء مشكلة ليست بالهينة تتمثل في إمكانية التمييز بين ما يرجع إلى الذكرى وبين التخيل، بين النظر والواقع. أما إذا كانت المذكرات تحيل على وقائع تاريخية حدثت فعليا، فإن الرهان الذي يطرح، في هذه الحالة، لا يتمثل في الأنا، بل «في نظرة شخص التَقَى بالتاريخ في لحظة ما، وتشابك تاريخه الشخصي مع التاريخ التاريخي، أي التاريخ الكبير»(8).
وسواء تعلق الأمر بسيرة ذاتية محضة أو بمذكرات، فإن «الميثاق الأوثوبيوغرافي، بكل ما يفترضه من تعاقد معنوي بين المؤلف أو السارد، والمتلقي، يصير ميثاقا للأصالة والصدق أكثر مما يستجيب لمعايير الحقيقة».
لقد اتخذ عبد الواحد الراضي من ذاته موضوعًا للمعرفة، وإطارًا لاستحضار وقائع كان فيها عنصرًا مركزيًا. وباستعراضه للتجارب التي عاشها مع الأصدقاء والرفاق أو الخصوم، وضع نفسه في محكمة الضمير الذي حركه لاستذكار ما مضى ولإعادة التعرف على الأحداث التي شاهدها، أو كان شاهدًا عليها أو شارك في صنعها.
تداخل كبير بين الذات والجماعة، وبين الماضي والحاضر. وكتاب «المغرب الذي عشته» بوصفه كتابًا مرويًا، أي منسوخًا اعتمادًا على سرد شفوي، بقدر ما يجعل من الماضي والتجربة الشخصية محور انشغالاته، يتخذ في نفس الآن، من الحاضر الزمن المعاصر للتلفظ والحكي. ويغدو الحاضر كأنه حاضر تاريخي يكسر المسافة بين الأحداث وزمنيتها. وبسلوك الراضي خطابًا مباشرًا حرًّا، يشعر القارئ كأن السارد، يتحدث بصوت يمكننا سماعه، حتى ولو أنه تحول إلى نص مخطوط.
من جهة أخرى، لا يكتفي عبد الواحد الراضي بحكي مساره السياسي المحض، بل إن المثقف فيه، بله الباحث يحضر، بقوة، في العديد من فقرات الكتاب؛ إذ ولو اعتبره «سيرة حياة» فإنه يتضمن العديد من المعاينات والحدوس ذات الطبيعة «الأنثربولوجية» أو «الإثنولوجية»، سواء في تقديمه للمجتمع الذي ترعرع فيه أو حتى في ممارساته وتجاربه السياسية. ففي سرده لمراحل طفولته الصعبة ولتموجات تنشئته يتحدث عن الألعاب، والطرق التقليدية في التربية، وأدوار الجامع والفقيه في القبيلة، وطقوس المجتمع وعاداته، في الأفراح والأحزان، والحضور البهي للأم من حيث شكل لباسها، وآداب الضيافة والاستقبال.. والإعداد واستعمال الطيوب والعطور والأبخرة وأعواد الندّ، ورشاشات ماء الزهر.. وما إلى ذلك» (ص21). ويصف مواقف وردود أفعال أفراد القبيلة لظهور الراديو وجهاز الغراموفون، الذي يلاحظ أنه «لم يكن مجرد أثاث، وإنما كان ثورة ثقافية صغيرة داخل البيت والعائلة والقبيلة» (ص24). كما أن في ذاكرته «صور الأحصنة، ذلك الشغف بالخيل وركوبها، وإجادة فنون الفروسية، وعناوين الزهو والفخر بسُرْبات الخيل والمنافسة في اختيار أنواع السروج وانسجامها». ويعتبر عبد الواحد الراضي أن البادية آنذاك، «والبيت بما فيه وما حوله، بمن فيه وما يتردد عليه، يوميا، مرصدًا مفتوحًا للملاحظة الشخصية والاكتشاف» (ص26)، ويعاين أنه كان يعيش، كما يقول، «نوعا من الواقعية الاجتماعية المبكرة… وأعني بالواقعية أساسا الحاجة الملحّة والاضطرارية إلى التكيّف مع الواقع». (ها نحن نلاحظ أن الراضي لا يتذكر ويحكي فقط، وإنما يتسلل المثقف فيه ليخرج عن منطق الاستعادة والسرد).
صحيح أن الأستاذ عبد الواحد الراضي ينبه إلى أنه لا يلعب «دور الإثنوغرافي»… وإنما يتحدث «من زاوية آثار هذه الطقوس في نفسي وفي تشكيل مخيّلتي» (ص20)، لكن صفحات كثيرة في الكتاب تظهر الوعي المتنامي للسارد بالفوارق ما بين المجتمع التقليدي ومظاهر الحداثة، ويحكي عن تطور الوعي بها حين بدأ الاتصال بتجلياتها من خلال المدرسة العمومية، التي سمحت للطفل عبد الواحد الراضي بإدراك النمط التعليمي والتربوي الجديد الذي ساعدنا، كما يقول «على استيعاب فكر الحركة الوطنية، وما معنى أفقها السياسي؟ وما معنى الاستعمار؟ وما معنى الحرية؟». كما أثار انتباهه القيمة الكبرى التي تمنحها المدرسة العصرية للفرد، حيث «لم تكن التراتبية خاضعة للبعد الطبقي أو الإثني أو العائلي، وإنما للجدارة». وأنه فهم، في مدينة سلا، «أن الاختلاف الديني أو الثقافي أو الاجتماعي لا يبرر ما كنت أسمعه من خرافات» عن الآخرين، وخصوصا عن اليهود، وأن هذا الشعور، كما يقول، جاء «في اللحظة التي كنت أحاول فيها إدراك الفرق بين البادية والمدينة، بين المسيد والمدرسة العصرية، بين تربية وأخرى، بين عالم وآخر» (ص32).وكيف أنه عاش نوعا من «الثورة الذهنية والاجتماعية» في المدرسة الفلاحية في ضواحي سلا، واكتشف عالما جديدا، وتعلّم «التسامح، ومحاربة الأحكام الجاهزة، وحس المسؤولية، وكيف أخدم الآخرين، ثم كيف أعيش نمط حياة جديدة… والاعتراف بمحاسن الفرد والجدارة والاستحقاق» (ص61). لقد أتى هذا الشعور في سياق ثقافي يتميز بركود كبير، وبغلبة التقليد والمحافظة، بحيث «لم تكن هناك حالة من الاستنارة شائعة بالمعنى الذي سنعرفه فيما بعد»، وكان الشباب مثلي في حاجة إلى من يتجاوب مع قلقه وأسئلته، لكن المجتمع كلّه كان مُغلقا ومُحافظا ومنكفئا على نفسه، ولم تكن تعتر على من يجيبك خارج نمطية التفكير السائدة» (ص66).
بخصوص الواقعية والتفاعل مع الكبار
لما حصل عبد الواحد على الباكالوريا اجتاحه شعور كبير بالخروج من المغرب لاستكمال دراسته. وقرر الشاب التوجّه إلى فرنسا، باعتبارها «نموذجا ثقافيا وعلميا وحضاريا»، وإلى باريس بوصفها «ساطعة الأنوار وموقع جذب كوني»، وأن يعيش، بالضبط، الحياة الجامعية للسوربون. وفي الوقت الذي اختار المئات من الطلبة التوجّه لدراسة الحقوق، يقول، «كنا ستّة أو سبعة فقط من أبناء جيلي من اخترنا التوجه نحو كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وأذكر منهم: عبد الله العروي، محمد الناصري، ابراهيم بوطالب، المرحومة الباتول البدراوي، أحمد الناصري الشرقاوي الفاطمي، ثم التحق بنا عبد الكبير الخطيبي ومحمد القبلي». وقد اختار التخصص في علم النفس الاجتماعي مُوجَّها بجملة أسئلة يلخصها الطالب عبد الواحد الراضي في ما يلي:» ما هي الميكانيزمات أو القواعد التي تربط العلاقات بين الناس؟ ما الذي يتحكّم في الإنسان وفي حياته ومصيره؟ في الوقت الذي كان الناس يردّون أسباب كل الأحداث والمجريات إلى أنواع من القدرية والخرافة» (ص148).
ومعلوم أن هذه المجموعة من الطلبة، وغيرهم، هم من سيشكلون النخبة التي ستساهم في مغربة وتنشيط جامعة محمد الخامس، علميا وثقافيا. بل إن هؤلاء، وبعد إغلاق معهد العلوم الاجتماعية الذي كان يديره عبد الكبير الخطيبي في أواخر الستينات، هم من سيتعرض لنوع من العقاب «السياسي» بنقلهم إلى مؤسسات جامعية أخرى، وكان منهم، بالإضافة إلى الأسماء المذكورة، محمد برادة، واسماعيل العلوي، وأحمد اليبوري، وعبد الجليل الحجمري، ومحمد بوطالب..»(ص 329).
ولعل هذه الخلفية الثقافية التي واكبت عمليات استعادة الوقائع والأحداث التي عاشها صاحب الكتاب حضرت، أيضا، بقوة، وهو يتناول تنشئته وانخراطه في معمعة السياسة؛ إذ منذ التهمة التي وجهت للطفل عبد الواحد من طرف الدركي الفرنسي السكران بسيدي سليمان، بدعوى أنه يرتاد منزل الوطنيين، ويلبس قميصا ألصقت عليه راية مغربية، مرورا بلقاء الكبار في مدينة سلا: «عبد الرحيم بوعبيد، وبوبكر القادري حين يخطبان، ومحمد الوديع الآسفي الشاعر حين يلقي قصائده»، والتحاقه بالشبيبة المدرسية لحزب الاستقلال التي كان يؤطر خليتها في ثانوية الليمون مولاي المهدي العلوي…إلخ اقنتع الراضي الشاب أن «الوطنية كانت مرتبطة بالأخلاق»، وترسّخ لديه الوعي بأن «من يستخف بالمعطى الإنساني في العلاقات السياسية» فهو مخطئ (ص160).
ويرى عبد الواحد الراضي أن التقدم للانتخابات في منطقته الأصلية ونجاحه في كل الاستحقاقات يعود إلى ما يسميه، في الكتاب، تفاصيل؛ وهي، في ظنّي وفي الواقع عوامل تفسيرية منها:
أولا؛ «بالنسبة للذين يفكرون في الشأن الانتخابي بمنطق قبلي، كنت في نظرهم، المرشح الأثير لأنني الوحيد من بين المرشحين الآخرين الذي كنت «ولد القبيلة»، وأن الظاهرة القبلية… لها أثرها الملموس في اختيارات الناس ومواقفهم»؛
ثانيا؛ كنت أمثل، لدى الفئات المتنورة والمتعلّمة «صورة المناضل الحزبي الذي يمكنه أن يكون ملائما لأفق الانتظار؛
ثالثا؛ لدى الفئات التي كانت تنتبه إلى وضعي الاعتباري وسيرة الحياة العلمية والثقافية..؛
رابعا؛ بالنسبة للجيل الجديد كانوا ينظرون إلي كواحد منهم» (ص 217).
وفي خضم المعترك الانتخابي والسياسي عاين عبد الواحد الراضي، ومنذ الانتخابات المحلية في يوليوز 1963، كيف انخرطت الإدارة في «إفساد أخلاق العمل السياسي في المغرب والذي سيصبح له تاريخ… وكان ذلك هو شهادة ميلاد الفساد السياسي والأخلاقي الذي امتدت عواقبه إلى يومنا هذا» (ص 225). ويلاحظ، بكثير من المرارة، ما جرى بالملموس من اعتداء على إرادة المواطنين، منذ التدشين الأول للعمليات الانتخابية في المغرب، وهو المؤمن بأن الديمقراطية والسياسة أساسها الثقة التي يعتبرها «العنصر الخاص الذي تنهض به وتقوم عليه المادة الإنسانية ككل، والذي يشكل السرّ الكبير بين الكبار، من أجل أفعال تاريخية كبرى. ذلك السر الذي يحصّن مسارات التاريخ الأساسية ويبتعد بالدول عن أسباب اليأس أو الانتحار، ويوفر الشرط الأهم لكي تعود المصائر من بعيد» (ص 474).
ولأنه آمن بالواقعية وبالممكن، منذ بدايات انخراطه في الفعل السياسي، فإنه لا يتردد في توجيه النقد الواضح لكل من لا يدرك هذا الشرط التأسيسي للعمل السياسي؛ إذ أنه «عمل متعدد الأساليب، كما نعلم. هناك الفاعل السياسي الذي يبني موقفه وفعله على أساس سياسة الممكن، وكنت دائما في تفكيري وخياراتي مع هذا الأسلوب. وهناك بعض الإخوة الذين كانوا يعيشون السياسة كأسطورة، أي السياسة كممارسة مثالية رومانسية، والمثالية تخلو من أي بعد واقعي، ولذلك فهي تسبغ على الفعل السياسي طابعًا أسطوريًا» (ص 398-399).
ويبدو أن الأستاذ الراضي وبالرغم من كل «التفاؤل التاريخي» الذي حركه يعتبر أن إفساد العمل السياسي هدّد مقومات العمل الديمقراطي في المغرب، بل إنه يعتبر أن ما جرى سنة 1998 من تناوب، لم يكن تناوبا نهائيا باعتبار أن الحديث عنه يفترض، كما يقول، «أنك أصبحت تتوفر على سلطة، وأنك تقود حكومة تمارس الحكم فعليا. ولكن تلك الحكومة لم تكن تملك سلطة كاملة، بحكم دستور 1996 نفسه… صحيح كان علينا أن نفتح الباب لأفق مختلف يتخطى المأزقية السياسية التي دخلت فيها علاقة الحكم باليسار، ومعنا تحديدا… لكن السياسة، وقد قالها سي عبد الرحمن بكل وضوح ليست فيها ضمانات.. السياسة لا تخلو من قدر من المخاطرة، ولكنها مخاطرة محسوبة والفاعل السياسي لا يمكنه أن يفعل شيئا إن لم يخاطر، ومعناه أنه قد ينجح وقد لا ينجح» (ص654). ويرى أن المغرب حين أفسد « التعددية جرى المساس بأي مشروع للتناوب»، بل وتمّ « تعميم الانتهازية واللاكفاءة والوصولية والتزوير والغش حتى باثت هذه الظواهر تصبح كما لو أنها سلوك عادي». (ص658). ولأننا لم ندخل، في المغرب، في ما أسماه ب»الروتين الديمقراطي بالمعنى النبيل للتعبير، أي أن نُدخل الديمقراطية في ثقافتنا السياسية، في مسلكياتنا السياسية وفي رؤيتنا للعالم»، فإن «انتفاضة» الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي بعد ما جرى في 2002 تبدو في منتهى الدلالة والقوة، وتعبر عن «شجاعة سياسية» حين جهر بنقد ذاتي صريح وبنقد سياسي واضح للفاعلين الأساسيين في الحقل السياسي الوطني. وينتهي الأستاذ الراضي بالقول: إن «الخصم اليوم هو هذا الانحراف في المسلكيات السياسية في البلاد التي تحدث عنها سي عبد الرحمن، خصوصا داخل حياتنا الحزبية والنقابية وفي مكونات مجتمعية أخرى» (ص 694-695).
لا جدال في أنه يصعب تناول كل المواضيع والقضايا والأحداث والشخصيات التي أتى على ذكرها الأستاذ عبد الواحد الراضي في هذا الكتاب. فهي غزيرة وغنية وموحية وبليغة. وقارئ الكتاب يلاحظ، بسهولة، أن الرجل ترعرع وكبر مع الكبار. احتك بشخصيات استثنائية طبعت تاريخ المغرب المعاصر. من المهدي بنبركة، وعلال الفاسي، الذي يحمل له تقديرا عاليا كقامة فكرية، وكزعيم سياسي كبير، (بل ويكن له احتراما خاصا حيث يذكر كيف كان يقبل علال الفاسي الاجتماع مع باقي أعضاء مكتب النقابة الوطنية للتعليم العالي في مقر «الاتحاد المغربي للشغل» في الوقت الذي كان من مؤسسي «الاتحاد العام للشغالين بالمغرب» المنافس له)، وعبد الرحيم بوعبيد، والحسن الثاني، وعبد الرحمن اليوسفي…
يتداخل في كتاب «المغرب الذي عشته» اعتبارات الذات، ومقتضيات البوح بحيثيات الوقائع والشخصيات، وشروط الحرص على التأريخ، والمعاينة السياسية والثقافية. ولذلك فإن الراضي يعي، وكما ترى «جين غاردنر» أنه «لا يبدو التاريخ كتاريخ عندما تعيش فيه». ولذلك، كما يقول، «يُحمَل الماضي دائما إلى الحاضر عندما نتوقف في لحظة من لحظات العمر كي نتحدّث قليلا عن حياتنا، بما هي خطوات مشيناها ووجوه كثيرة عشنا تحت نظرتها اليقظة، بقربها أو معها، وراءها أو بجوارها أو أمامها، حسب الأشخاص والمواقع والأوضاع والسياقات والظروف والأدوار» ( 536).
هوامش:
1-Jean philippe Miraux, L’autobiographie, écriture de soi et sincérité, Ed. Nathan, Paris, 1996, P 11
2-Ibid, P. 11
3-Philippe Lejeune, Le pacte autobiographique, Ed. du Seuil, Paris, 1996, P.14
4-Ibid, p. 15
5-Ibid p. 23
6-Ibid, P. 35
7-Ibid, P. 36
8-Jean Philippe Miraux, op cit, P. 14