أسئلة الزمن الراهن على محك البحث التاريخي..

بين رحلة امبارك بودرقة ومشرح الطيب بياض

 

لايزال مجال البحث التاريخي الوطني المتخصص في قضايا الزمن الراهن يثير أسئلته المسترسلة حول إشكالات مركزية في البحث وفي بناء هويته المخصوصة، مثل إشكالات التسمية، والأدوات، والموضوعية، وحدود التماس بين نزوات الذات وبين صرامة البحث.
لا يتعلق الأمر بسجل خطي لأحداث ولوقائع لازالت ترخي بظلالها السميكة على تفاصيل الواقع القائم. ولا يتعلق الأمر -كذلك- بتدوين متفاعل مع إفرازات تطورات معيشية تؤثر بعمق في واقعنا المشترك، سياسيا وحقوقيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا. وفي المقابل، يختزل الكتاب مسار تطور حقل الدراسات التاريخية، وطنيا ودوليا، بالانفتاح المسترسل على جهود تفكيك إفرازات الواقع القائم، عبر السعي نحو فهم الميكانزمات، ونحو استيعاب النظم المرتبطة بالتطورات الطويلة المدى بالمفهوم البروديلي، ونحو الارتقاء بالوعي المشترك الكفيل بالتأصيل العلمي لطفرة الانتقال من الانبهار بعطاء الذاكرة الجماعية، نحو إدماج الحس النقدي في جهود ترصيص عطاء الذاكرة التاريخية.
لقد قيل الشيء الكثير عن مهاوي الذاكرة الجماعية لمغاربة الزمن الراهن في علاقتها بصرامة الذاكرة التاريخية المتطلعة نحو تقليب الوقائع والشواهد المادية والرمزية. ومع ذلك، ظلت الأسئلة المرتبطة بهذا المسعى تكتسي كل عناصر الراهنية، وكل محفزات الإثارة العلمية لدى المؤرخ الساعي للتحرر من ضغط اللحظة ومن ضغط تدافع الأخبار والعناوين والتعاليق والمواقف والإيديولوجيات. وكان لابد للمؤرخ أن يختار عزلته، قصد ترشيد تعاطيه مع الموضوع، وقصد تعميق المسافة التي تبعده عن صانع القرار، بنفس القدر الذي تبعده -فيها- عن المتلقي المنتشي بفتوحاته وبنرجسياته وبأحلامه وبيوطوبياته التي تؤطرها الخطابات الشعبوية الزاحفة. اختار المؤرخ الطريق الصعب لكن المنتج، البطيء لكن المؤثر، الهادئ لكن الفعال، المنزوي لكن المُؤسس. فكانت النتيجة، انبثاق معالم توجه وطني أكاديمي أخذ يتبلور داخل الجامعة المغربية وداخل دوائر البحث والتفكير، بأفق نقدي نجح في تثبيت الإواليات المنهجية الضرورية لتنظيم الاشتغال على تلاوين الزمن الراهن وعلى أسئلته الحارقة.
في إطار هذا المسار العام، يبرز اسم الأستاذ الطيب بياض، كواحد من ثمار «المدرسة المغربية» التي أضحت تفرض أدواتها الإجرائية الدقيقة في البحث وفي التدوين وفي التركيب، مستثمرة خصوبة الرصيد المنجز خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي، ومستلهمة لنتائج الزاد المنهجي والإبستيمولوجي الذي راكمته/ وتراكمه أرقى مدارس البحث التاريخي على الصعيد العالمي. وقد أوجد هذا المنحى عدة تعبيرات عن جوهره داخل حصيلة منجز الطيب بياض، عكستها إصداراته المسترسلة، إلى جانب إشرافه على تأطير أجيال باحثي مغرب اليوم داخل الجامعة وداخل المنتديات الأكاديمية الوطنية المتخصصة. توج الأستاذ بياض هذا الملمح العلمي الأصيل، بإصدار الجزء الثاني من كتاب «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة- من مذكرات امبارك بودرقة (عباس)»، مع عنوان فرعي «من حلم الثورة إلى فضاء حقوق الإنسان»، وذلك سنة 2023، في ما مجموعه 467 من الصفحات ذات الحجم الكبير. تنساب مضامين الكتاب في شكل حوار مسترسل مع المناضل الحقوقي امبارك بودرقة، غطى حلقات مساره خلال مرحلة المنفى، ثم مع انبثاق انخراطه في النضال الحقوقي الوطني المعاصر. ومعلوم أن الأمر تجاوز الحديث عن تجربة «عباس» كفرد فاعل في وسطه وفي محيطه، إلى التوثيق لتحولات كبرى شملت الرفاق ومجموع الفاعلين الذين احتك بهم سواء داخل المغرب أم خارجه. وبما أن الأمر يتعلق بتوثيق رصين يقدم مادة خصبة خام لاشتغال المؤرخ المتخصص المسكون بهواجس التفكيك والنقد والاستثمار، احتوى القسم الأول من الكتاب على مدخل نظري أوضح -فيه- الأستاذ الطيب بياض أسس رؤيته العلمية في إنجاز «الحوار» وفي عقلنة استنطاق مضامينه وفق العُدة الإجرائية العلمية التي بلورها الطيب بياض في سياق اشتغاله الأكاديمي على هوية البحث في إبدالات التاريخ الراهن، نظريا ومنهجيا، مما أكسبه الكثير من عناصر الجرأة في اختراق حقل الألغام الذي يجثم على قضايا الراهن المغربي.
يقول الطيب بياض بهذا الخصوص: «بيد أن القراءة الفاحصة لهذه التجربة الخاصة ضمن المسار العام لتاريخ المغرب الراهن في علاقته بالذاكرة وحقوق الإنسان، تقتضي ألا تبقى الأرصدة الوثائقية التي خلفتها السنوات الموشومة في الذاكرة الجماعية للمغاربة بسنوات الجمر والرصاص، في غرفة انتظار مؤرخ الزمن الراهن. والأمر نفسه يسري على كل ما رافق هذا التاريخ القريب والساخن من مذكرات وشهادات وإبداعات، تحتاج إلى الاستثمار المنتج لاستخراج المادة العلمية منها من أجل بناء معرفة تاريخية رصينة، تُدون تاريخنا المعاصر بقسط وافر من الموضوعية…» (ص.12).
تطرح هذه «الموضوعية» إشكالات منهجية عويصة، ترتبط أبرزها بقدرة المؤرخ على تحصين ذاته ضد مهاوي أشكال التدافع الحالية، وضد نزوع دغدغة عواطف «الجمهور» المتعطش لكتابة تاريخية تحسن توظيف عناصر التماهي والإثارة. يقول الأستاذ بياض بهذا الخصوص: «أعتقد أن الموضوعية لم تكن يوما مرتبطة بالمسافة الزمنية، بل بعُدة المؤرخ وزاوية معالجته وتمكنه من أدوات صنعته، وانحيازه لانتمائه الأكاديمي أولا وأخيرا. فقد يكون صاحب نزوع هوياتي ضيق ويكتب عن أسلافه القدامى المنتمين لزمن بعيد بكثير من التحيز والخلاصات الجاهزة، أي بقليل من الموضوعية. ولنا أن نتصور مثلا معالجة مؤرخين من خلفيتين إيديولوجيتين متباينتين لموضوع النزال بين عقبة بن نافع الفهري وكسيلة بن لمزم الأوْربي. هل يسعفهما هذا العدد من القرون الذي يفصلنا عن الحدث في التعاطي معه بموضوعية؟ وبالمقابل، قد يكون حريصا على صفته الأكاديمية، متسلحا بأدواتها التي تحجم «اختياراته»، ليكتب عما جرى بالأمس القريب بتجرد أوفر وموضوعية أكثر. فينزع نحو المسافة المنهجية المحصنة من الانزياحات الإيديولوجية والانتقائية في تفصيل الأحداث على المقاس لخدمة مُسبقاته وأحكامه الجاهزة. فتكون بذلك مسافة المنهج أضمن للموضوعية من مسافة الزمن…» ( ص ص. 16-147).
وعلى أساس هذه الرؤية العلمية الثاقبة، بدا واضحا نزوع الباحث المتخصص نحو استثمار عناصر التنوع والاختلاف الثقافي والهوياتي، قصد تحويله إلى عنصر إغناء وإثراء لانتظارات المجتمع، بشكل يسمح بتحصين أطياف هذا المجتمع دون الانزلاق نحو الانغلاق على يقينيات الهويات الخاصة، أو «الهويات القاتلة» حسب التعبير الأثير لأمين معلوف، بما يفرزه من تشنج ومن اندفاع ومن استسهال للأحكام وللخلاصات، بعيدا عن أبجديات التمحيص والتدقيق، وقريبا من استيهامات الذات ونزواتها الطافحة وغير المتحكم فيها. لذلك، يبدو المؤرخ أكثر ثباتا في تريثه المنتج، وفي سعيه نحو توسيع مفهوم الوثيقة ومفهوم الشواهد، وفي قدرته على بلورة حس نقدي مستوعب للسياقات التاريخية ولحدود الفعل ولسقف الأمانة في الشهادات وفي المرويات وفي مجمل الشواهد المادية والرمزية الدالة على الحدث أو الفاعلة فيه أو المترتبة عنه.
انطلق الأستاذ بياض من إدراك عميق لجسامة التعامل مع ثقوب الذاكرة الجماعية، ومن نزوات الذات في تطويع الوقائع وفي تكييفها مع مواقف الفاعل المباشر في الأحداث أو مع رؤى السارد للشهادات وللمذكرات وللمرويات. لذلك، كان لابد من تأطير «الحوار» بضوابط وبكوابح تحد من غلو مجمل الانزياحات غير المتحكم فيها، وبانفتاح على السياقات الكبرى المهيكلة للأحداث قصد استحضار عناصر المقارنة والتشريح والتفكيك والتدقيق. ولم يكن للطيب بياض من خيار إلا تعزيز الحوار مع امبارك بودرقة بسلسلة كبيرة من الوثائق الغميسة، مما شكل -في الحقيقة- كتابة تاريخية موازية لتفاصيل السرد الوارد في «الحوار». يقول المؤلف بهذا الخصوص: «يتيح تتبع تجربة عباس الحقوقية الإطلالة على سفوح ظلت ظليلة من ذاكرة المغرب الراهن في علاقتها بحقوق الإنسان، بعد أن غشتها شعارات العملين السياسي والمسلح. يظهر الفعل الحقوقي في البداية ثاويا في خلفية هذه اللوحة التي رسمت معالم المسار السياسي لمناضل اتحادي خبر السلاح والتنظيم السري والاختيار الثوري، وتدريجيا يحتل نضاله الحقوقي واجهة اللوحة. لعل ما يميز بوح الحقوقي امبارك بودرقة (عباس) وهو يتحدث في هذا الكتاب عن تجربته الحقوقية بتقاطعاتها المتعددة، أنه جاء مسنودا بإشهاد الوثائق، كما حصل مع تجربته في الحكي عن أحداث 3 مارس 1973. مما يعني ترسيخا لنمط جديد في كتابة المذكرات في المغرب، يُلزم الذاكرة بالتزود بالبراهين والحجج التي تُثبت صدقية حكيها، قبل ولوج مختبر المؤرخ بغرض التأطير في أفق إنتاج ذاكرة تاريخية تحظى بالمصداقية». (ص.40).
هل استطاع الكتاب بلورة ضوابط هذه المصداقية؟ وهل نجح المؤرخ في تطويع جموح الفاعل السياسي والحقوقي؟ وهل استطاعت المادة الوثائقية تفسير منغلقات السرد ومحاصرة مهاوي الحكي؟ لا شك أن رؤية الباحث المتمكن من أدواته قد نجحت في تقديم «نموذج بديل» عن سيل المذكرات المستنسخة، حيث تغيب الوثيقة وتحضر الاستيهامات، حيث تتضخم الأناة في سعيها لاختلاق الوقائع ولمركزة البطولات ولتبرير الانتكاسات. تتيح رؤية الأستاذ الطيب بياض إمكانات واسعة لتعميم الوعي بالمنطلقات الإجرائية العلمية الكفيلة بتثمين حصيلة المنجز المتراوحة أبعاده بين «بوح الذاكرة» من جهة، وبين «إشهاد الوثيقة» من جهة ثانية.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 21/07/2023