منذ البداية وجب أن نعترف أ ن كتابنا هذا ليس كتاب تاريخ محض، إنما هو محاولة يمكن إدراجها ضمن مجال الدراسات الثقافية التي حاول الأنجلوساكسون تطويرها – منذ ظهورها بعيد منتصف القرن الماضي – وذلك بدراسة مختلف الظواهر الثقافية اعتمادا على مناهج علوم مختلفة ومتعددة، كالتاريخ والأنثربلوجيا وعلم الاجتماع وعلم الأديان والآداب .
إنه محاولة للجواب على أسئلة مؤرقة .
لعل أهمها: لماذا تفتخر كل الشعوب بتاريخها وتنقب عما يمكن أن تجده عبر الحفريات الأركيولوجية ومختلف اللقيات حفظا لهويتها؟ إلا هذا البلد الأمين الذي يحاول في ثقافته الرسمية أن يحصر تاريخه بل والأحرى أن يوقفه في حدود القرن الثاني الهجري.
هل تَرى تلك الثقافة أن التحقيب هنا لا يهتم إلا بما يسمى الدولة الحديثة؟ الأوْلى، إذن، الحديث عن الدولة المغربية وليس الموريتانية Moros أو Mores أو المراكشية Moroeccos منذ سميت كذلك، أو حين حاول الفرنسيون تأسيس مفهوم جديد للدولة الحديثة ومنح المملكة الشريفة اسم Royaume du Maroc للحديث عن المملكة المغربية وسموها على طريقتهم و بصياغتهم؟ وقالوا اختصارا Maroc، أو حين تم وضع أول دستور مغربي (محض) بعيد الاستقلال .
المشكل، من هذا المنظور، هو مشكل هوية ثقافية تتعلق بمواطن مغربي يرى أن ماضيه لا يتجاوز تأسيس الأدارسة لإمارتهم، أي قدوم المولى إدريس الأول رفقة خادمه إلى المغرب الأقصى ونزولهما ضيفين على قبيلة أوربة (إن كان النطق صحيحا) ونتعرف من خلال التاريخ الرسمي على اسم زعيمها وابنته كنزة . معضلتنا أننا نلوك هذا في مقرراتنا ومناهجنا كنوع من الوحي المنزل دون طرح تساؤلات من قبيل: كم كان عمر سبط الرسول الأعظم إدريس بن عبدالله حين قدم إلى المغرب؟ أليس لديه أبناء؟ نتساءل هكذا ونحن نعلم أن أغلب القدماء كانوا يتزوجون وهم في سن معينة، أو على الأقل يتخذون جواري ويمارسون الجنس مع ما ملكت الأيمان .
معضلتنا أننا لا نعلم أبناءنا طرح الأسئلة من هذا النوع! وما زلنا ندرس في أقسامنا ك ما من المعلومات التي صارت متاحة بنقرة زر ، و لا نعل مهم طرق التحليل وآليات التفكير القائمة على العقل و المنطق .
مشكلتنا، أن أغلب المؤسسات تريد ترك الأمور على حالها.
2 ـ إمارة النكور
ظهرت هذه الإمارة في تمسمان ( منطقة جبال الريف) ونزلها صالح بن منصور الحميري (المعروف بالعبد الصالح) واختلفت الروايات حول أصله فابن خلدون والخطيب يرونه يمنيا بينما يراه اليعقوبي من نفزة . وما يجعلنا نضعها في المرتبة الثانية هي تبعيتها للأندلس الأموية .
على أي .. لقد استقر الرجل هناك ـ كما قيل ـ بعد أن أقطعها له الوليد بن عبدالملك (حوالي 91 هـ ) و بذلك تكون أول إمارة في المغرب الأقصى بعد ثورة البربر. وحين ارتدت قبائل صنهاجة و غمارة عن الاسلام طردوه ،فولّوا مكانه رجلا منهم يسمى داود ويلقب بالرندي .. ولما تابوا ، أعادوا صالحا ، وبقي بينهم إلى أن توفي حوالي سنة 132 هـ .
وتقع أهم مدن الإمارة بين وادي نكور و وادي ورغة (أوغيس) وسيعمرها سكان العدوة الإيبرية بعد المجاعة التي عرفتها الأندلس ، و تمزغ أغلبهم .
بعد وفاة صالح خلفه ابنه المعتصم . ثم تولى بعده ابن أخيه سعيد بن إدريس الذي تمرد البرانس في عهده ، وهو الذي بَنَى مدينة نكور حوالي 123 هـ لتصير مركزا لإمارة بني صالح .
ثم تولى بعده ابنه صالح بن سعيد الذي واجه تمردات عدة ، منها تمرد قبيلة مكناسة التي امتنعت عن دفع الضرائب . ثم تمرد شقيقه إدريس الذي هزم صالحا و زحف نحو نكور إلا أن الأهالي تصدوا للمتمردين و تمكن صالح من دخول المدينة متخفيا في جوف الليل و ألقى القبض على شقيقه فسجنه ثم قتله .
جاء من بعده ابنه سعيد بن صالح (وهو أصغر أولاده) وتمرد عليه الصقالبة بسبب رفضه أن يقاسمهم الغنائم، فخلعوه ووَلّوا مكانه أخاه عبد لله وعمه الرضى (المكنى بأبي علي). وتصدى لهم سعيد وسكان المدينة و هزمهم وألقى القبض على شقيقه عبد لله وعمه الرضى، فنفى أخاه إلى مكة وهناك توفي ، بينما أبقى على عمه لأنه زوج ابنته .
لقد كانت إمارة بني صالح (نكور) بين مطرقة الفاطميين (الشيعة) في شرق شمال إفريقيا وسندان الأمويين في الأندلس (السنة). وكان الفاطميون يمنون أنفسهم لتدخل نكور في طاعتهم ، وحين رفض بنو صالح هاجمهم الفاطميون وهرب بنوا صالح إلى الأندلس . لكنهم سيعودون إلى نكور بمساعدة الأهالي وبايعوا بن سعيد الذي حكم الإمارة مدة عشرين عاما حتى توفي.
لقد تولى السلطة بعده ابن عمه المؤيد عبد البديع بن صالح بن سعيد الذي قتله موسى بن أبي العافية أمير مكناسة حوالي 319 هـ وخرب المدينة (حسب وصف ابن حوقل).
وهوجمت نكور حوالي سنة 323 هـ من طرف الفاطميين من جديد إلا أن أهل نكور قاوموهم وقتلوا عامل الفاطميين . و بايعوا موسى بن المعتصم بن صالح بن منصور (الملقب بابن الرومي)، وقد تمرد على هذا الأخير ابن عمه عبد السميع بن جرثم فلجأ ابن الرومي إلى أهله بالأندلس . وانتفض من جديد أهل نكور على عبد السميع و قتلوه، فجاؤوا بجرثم بن أحمد الذي استقامت له الأمور، ليخلفه بعد ذلك أبناؤه .. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، بغض النظر عما يقوله المؤرخون، ما السبب الذي يجعل أهل نكور يدافعون باستماتة عن مدينتهم و أمرائهم ضد الهيمنة الشرقية المتمثلة في السلطة الفاطمية، وهيمنة الأندلس الممثلة في بني أمية ؟
وفي نفس الوقت يتعاملون مع الأدارسة بنوع من التوقير الذي تفرضه أصولهم الشريفة (العلوية الفاطمية) ، إذ لم تنته إماراتهم حسب بعض المؤرخين حتى جاءهم يعلى بن أبي الفتوح الأزداجي و أخرج بني جرثم حوالي سنة 410 هـ كما يرى ابن خلدون :
« .. وغلبهم على نكور و خربها و انقرض ملكهم بعد ثلاثمائة و أربع عشرة سنة «
3 ـ إمارة سجلماسة
وهي الإمارة المنزوية في صحراء المغرب الشرقية، وكانت ملجأ للهرب من الصراع الداخلي الأندلسي للانتجاع في هذه الأرض . وكما ترى بعض المصادر ، فقد كان فيهم أبو القاسم سمجو بن واسول المكناسي .. أبو اليسع .
وجدّ مدراركان صاحب ماشية ، و كثيرا ما ينتجع موضع سجلماسة. فاجتمع إليه قوم .. فلما بلغوا أربعين رجلا قدموا عليهم عيسى بن مزيد الأسود و ولّوه أمرهم ، و شرعوا في بناء سجلماسة سنة 140 هـ .
يقول البكري: « … وبعمارتها خلت مدينة ترغة و بينهما يومان ، وبعمارتها خلت زيز أيضا. و مدينة سجلماسة مدينة سهلية ، أرضها سبخة حولها أرباض كثيرة و فيها دور رفيعة ..وسورها أسفله مبني بالحجارة و أعلاه بالطوب ، بناه اليسع أبو منصور ابن أبي القاسم من ماله (يقصد الخاص)، وكان بناؤه سنة 199 ، وارتحل إليها سنة 200 ، وقسمها على القبائل … وبها..و هم بنو مسّوفة من صنهاجة .. وملَك بنو مدرار سجلماسة 160 سنة . وكان فيها أبو القاسم سمجو بن واسول المكناسي . . أبو اليسع المذكور . وجدّ مدرار لقي بأفريقية عكرمة مولى ابن عباس و سمع منه ، وكان صاحب ماشية وكثيرا ما ينتجع موضع سجلماسة .. فاجتمع إليه قوم من الصفرية ..»
وذكرت مصادر أخرى أن مدرارا كان حدادا من ربضية الأندلس ، وخرج عند وقعة المربض و نزل منزلا قرب سجلماسة . ويبدو أنها هجرة من فتنة لشخص يريد أن يفر بدينه كما جاء في الحديث الشريف « يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال و مواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن «.
نزل بذلك الموضع و بنى فيه خيمة و سكنها ، وجاء البربر و سكنوا حوله . فكان ذلك أصل عمارتها .و أول من وليها عيسى بن مزيد مدة 15 عاما ، كما يقول البكري: « .. ثم أنكر أصحابه الصفرية عليه أشياء . فقال أبو الحطاب يوما لأصحابه في مجلس عيسى : السودان كلهم سرّاق ، حتى هذا و أشار إلى عيسى .. ثم ولوا أبا القاسم سمغو بن (نزول) بن مزلان المكناسي ، فلم يزل واليا عليهم إلى أن مات فجأة في آخر سجدة من صلاة العشاء سنة 168 هـ و كانت ولايته 13 سنة .
و وليها ابنه أبو الوزير إلياس ابن أبي القاسم ، إلى أن قام عليه أخوه أبو المنتصر اليسع فخلعه سنة 174 هـ فولي أبو المنتصر وكان جبارا عنيدا فظا غليظا، فظفر بمن عانده من البربر، وأخذ خمس معادن درعة، وأظهر الصفرية ، وبنى سور سجلماسة على ما تقدم . و توفي سنة 208 هـ .
وولي ابنه مدرار المنتصر بن اليسع (و مدرار لقب) ، فلم يزل واليا إلى أن اختلف الأمر بين ولديه ميمون (المعروف بابن أروى بنت عبدالرحمن بن رستم ) ، وابنه (الآخر) ميمون أيضا (المعروف بابن ثقية ) فتنازعا الأمر بينهما، و تقاتلا ثلاثة أعوام ، و مال مدرار مع ابن الرستمية. فأخرج ميمون بن ثقية من سجلماسة وولى ابن الرستمية ..»
لقد خلع ابن الرستمية أباه بعد هذا ، مما دفع أهالي سجلماسة الذين تم استفزازهم أن يلجؤوا لابن ثقية الذي رفض التواطؤ معهم ضد رغبة والده . فاستعادوا مدرارا الذي استدعى ابن الرستمية المخلوع. مما أغضب أهل سجلماسة .
ويقول البكري: «.. فحاصروا مدرارا ، و خلعوه ، وقدموا ابنه (ابن ثقية) وهو المعروف بالأمير ، فلم يزل عليهم واليا إلى أن مات سنة 263 هـ .. وفي إمارته ، مات مدرار أبوه مخلوعا»
« و وليها محمد بن ميمون الأمير إلى أن توفي سنة 270 هـ ..فوليها اليسع ابن المنتصر ابن أبي القاسم إلى أن فرّ عنها لما تغلّب عليها أبو عبد الله الشيعي سنة 297 هـ . وولى عليها الشيعيُّ إبراهيمَ بن غالب المزاتي ، فقتله أهل سجلماسة ومن كان معه من رجال الشيعي بعد خمسين يوما.
و وليها واسول ، وهو الفتح ابن الأمير ميمون .. و توفي.. فوليها أخوه أحمد إلى أن حاصره فيها مصالة بن حبوس و افتتحها عنوة فقتله و ذلك في المحرم سنة 309 هـ ، و ولى مصالة أمرها المعتز بن محمد بن سارو بن مدرار إلى أن توفي سنة 321 . و وليها ابنه أبو المنتصر سمغو بن محمد و هو ابن 13 سنة (وكانت) تدبر أمره جدته ، فمكث كذلك شهرين .
وقام عليه ابن عمه محمد بن الفتح ابن الأمير، فحاربه وتغلب عليه وأخرجه، فتملك سجلماسة. وكان محمد ابن الفتح سنيا على مذهب المالكية، يحسن السيرة ويظهر العدل إلا أنه تسمى بأمير المؤمنين .. وتلقب بالشاكر لله، وضربت بذلك الدراهم والدنانير، فمكث كذلك إلى أن قربت منه عساكر أبي تميم معد مع قائده جوهر الكاتب ، فخرج بماله و ولده وخاصته وصار بتاسجدالت (تاسكدالت ) وهو حصن منيع على اثني عشر ميلا من سجلماسة.
ودخل جوهر سجلماسة سنة 347 هـ ..»