منذ البداية وجب أن نعترف أ ن كتابنا هذا ليس كتاب تاريخ محض، إنما هو محاولة يمكن إدراجها ضمن مجال الدراسات الثقافية التي حاول الأنجلوساكسون تطويرها – منذ ظهورها بعيد منتصف القرن الماضي – وذلك بدراسة مختلف الظواهر الثقافية اعتمادا على مناهج علوم مختلفة ومتعددة، كالتاريخ والأنثربلوجيا وعلم الاجتماع وعلم الأديان والآداب .
إنه محاولة للجواب على أسئلة مؤرقة .
لعل أهمها: لماذا تفتخر كل الشعوب بتاريخها وتنقب عما يمكن أن تجده عبر الحفريات الأركيولوجية ومختلف اللقيات حفظا لهويتها؟ إلا هذا البلد الأمين الذي يحاول في ثقافته الرسمية أن يحصر تاريخه بل والأحرى أن يوقفه في حدود القرن الثاني الهجري.
يبدو لي أننا سنتحدث عن واقع اللغة في هذا القرن من وجهة نظر شخص ـكما يبدو ـ ينأى بنفسه عن ذلك الصراع الجاري (الآن) حول اللسان ، في بلد تحاول كل فرقة أن تبرز بشوفينية واضحة أن لغتها هي الأقدر على تحدي مستقبل العلوم ، و ترى أن وجودها رهين بوجود لسانها . ونحن نعرف أن حضور لغة ما رهين بمدى سيطرتها السياسية و الدينية و بالتالي لن نخرج بهذا عما يراه ابن خلدون الذي حاول فهم حركة التاريخ .. والذي يرى التاريخ علما يبدو في ظاهره مجرد أحداث و أخبار إلا أن باطنه عبارة عن نظر و تحقيق و تعليل وربط بين الأسباب و النتائج .. وهو يحاول بذلك ـ أي من خلال قراءة الأحداث ـ تفسير قيام الدول و سقوطها ، و فهم ضرورة الاجتماع الإنساني بعد مقارنته المجتمعات البشرية شرقا و غربا من خلال دراسة مجتمعه . يقول مارمول :
« .. إن الأفارقة القدماء الذين يسمون شلوحا أو برابرة ـ ولو أنهم مشتتون عبر إفريقيا كلها ـ .. فإنهم مع ذلك يكتبون و يتكلمون كلهم لغة واحدة تسمى لغة (أبي مالك) مخترع النحو العربي ، ولا يمنعهم ذلك من التكلم أيضا لغة البلاد التي تختلف كثيرا عن غيرها من اللغات ، ولو أنها تحتوي على بعض الكلمات العربية التي أدخلت فيها بواسطة هؤلاء الشعوب الذين جاؤوا إلى إفريقيا في مختلف العصور .. و اللغة التي يتكلمون بها حاليا مكونة من العربية و العبرية و اللاتينية و اليونانية و الأفريقية القديمة (يقصد الأمازيغية) .. و تحمل اللغة التي يتكلمون بها الآن ثلاثة أسماء تكاد تدل على نفس الشيء ، مع أن البرابرة الأقحاح يختلفون في النطق و في مدلول كثير من الكلمات ، فأقربهم جوارا للعرب و أكثرهم اتصالا بهم يمزجون كلامهم بالعديد من كلمات لغة (أبي مالك) التي هي أشرف اللغات ، ويمزج الأعراب كلامهم كذلك بعدد كبير من الكلمات الأفريقية . ويتكلم أهل غمارة و هوارة الذين يعيشون في جبال الأطلس الصغير (يقصد جبال الريف) لغة عربية فاسدة ، وكذلك جميع سكان مدن بلاد البربر المقيمين بين الأطلس الكبير و البحر ، لكن سكان مراكش وجميع أقاليم هذه المملكة سواء منهم النوميديون و الجيتول المقيمون بجهة الغرب يتكلمون اللغة الإفريقية الصافية المسماة الشلحة و تامازيغت ، وهما اسمان قديمان جدا . أما سائر الأفارقة البرابرة القاطنين في الجهة الشرقية المتاخمة لمملكة تونس و طرابلس الغرب إلى صحاري برقة فإنهم يتكلمون جميعا لغة عربية فاسدة ، وكذلك الذين يعيشون بين جبال الأطلس الكبير و البحر ، سواء كانت لهم منازل قارة أو لا . بالإضافة إلى زواوة و لو أن لغتهم الرئيسية هي الزناتية ، بحيث إن الذين يتكلمون اللغة العربية الفصحى بأفريقيا قليلون ، لكنهم جميعا يستعملون في كتابتهم الأصلية لغة (أبي مالك) التي تُقرأ و تُكتب عادة في كل بلاد البربر و نوميديا و ليبيا ..»
إننا هنا ـ بما أننا نمارس التعليم و التعلم ـ نحاول فقط أن نبرز ـ للأجيال اللاحقة و بعض من ارتضى لنفسه التخصص في هذا المجال ـ ملامح الطريق و علامات التشوير في هذا الخضم المتلاطم من الأحداث و الأخبار ، ذلك أنه مهما كان علو طموحاتنا فلن نبلغ المقصد ما لم يكن هناك تراكم كمي في هذا المجال ـ وأقصد مجال طرح أسئلة جديدة ـ و البحث بشكل جدي في ما هو اجتماعي انطلاقا مما هو تاريخي لوضع ، و لما لا ، نظرية ذات بعدأنثروبولوجي تحدد قوانين لفهم واقعنا أولا و لفهم واقع المجتمعات الإنسانية . فالنظر إلى الأحداث بمنظور خلدوني أو كونفوشيوسي أو مكيافيلي في إطار ديني (إسلامي إن شئنا) سيمكننا من فهم ميكانيزمات العملية الاجتماعية ، مما يكون في صالح وضع خطط تنموية قائمة على استراتيجيات تعليمية لبلوغ أهداف قائمة على منطق معين .. و الله ولي التوفيق