أسلمة المغرب .. حسب ما قيل – 9 – عملات برونزية لممالك الأهلية منذ عهد سيفاكس

منذ البداية وجب أن نعترف أ ن كتابنا هذا ليس كتاب تاريخ محض، إنما هو محاولة يمكن إدراجها ضمن مجال الدراسات الثقافية التي حاول الأنجلوساكسون تطويرها – منذ ظهورها بعيد منتصف القرن الماضي – وذلك بدراسة مختلف الظواهر الثقافية اعتمادا على مناهج علوم مختلفة ومتعددة، كالتاريخ والأنثربلوجيا وعلم الاجتماع وعلم الأديان والآداب .
إنه محاولة للجواب على أسئلة مؤرقة .
لعل أهمها: لماذا تفتخر كل الشعوب بتاريخها وتنقب عما يمكن أن تجده عبر الحفريات الأركيولوجية ومختلف اللقيات حفظا لهويتها؟ إلا هذا البلد الأمين الذي يحاول في ثقافته الرسمية أن يحصر تاريخه بل والأحرى أن يوقفه في حدود القرن الثاني الهجري.
هل تَرى تلك الثقافة أن التحقيب هنا لا يهتم إلا بما يسمى الدولة الحديثة؟ الأوْلى، إذن، الحديث عن الدولة المغربية وليس الموريتانية Moros أو Mores أو المراكشية Moroeccos منذ سميت كذلك ، أو حين حاول الفرنسيون تأسيس مفهوم جديد للدولة الحديثة ومنح المملكة الشريفة اسم Royaume du Maroc للحديث عن المملكة المغربية وسموها على طريقتهم و بصياغتهم؟ وقالوا اختصارا Maroc، أو حين تم وضع أول دستور مغربي (محض) بعيد الاستقلال .
المشكل، من هذا المنظور ، هو مشكل هوية ثقافية تتعلق بمواطن مغربي يرى أن ماضيه لا يتجاوز تأسيس الأدارسة لإمارتهم ، أي قدوم المولى إدريس الأول رفقة خادمه إلى المغرب الأقصى ونزولهما ضيفين على قبيلة أوربة )إن كان النطق صحيحا ( و نتع رف من خلال التاريخ الرسمي على اسم زعيمها وابنته كنزة . معضلتنا أننا نلوك هذا في مقرراتنا ومناهجنا كنوع من الوحي المنزل دون طرح تساؤلات من قبيل: كم كان عمر سبط الرسول الأعظم إدريس بن عبدالله حين قدم إلى المغرب؟ أليس لديه أبناء؟ نتساءل هكذا ونحن نعلم أن أغلب القدماء كانوا يتزوجون وهم في سن معينة، أو على الأقل يتخذون جواري و يمارسون الجنس مع ما ملكت الأيمان .
معضلتنا أننا لا نعلم أبناءنا طرح الأسئلة من هذا النوع ! و ما زلنا ند رس في أقسامنا ك ما من المعلومات التي صارت متاحة بنقرة زر ، و لا نعل مهم طرق التحليل وآليات التفكير القائمة على العقل و المنطق .
مشكلتنا، أن أغلب المؤسسات تريد ترك الأمور على حالها .

 

التأْريخ لتلك الفترة
1 ـ الكتابات

هكذا نرى أن أغلب (نقول أغلب ، ليس كل) من كتب في شأن موريتانيا لم يكونوا يصلون إلى المنطقة بل يكتفون بما قرأوه أو سمعوه .. هكذا يكون أغلب الذين يدعون المعرفة بتاريخ المنطقة هم في حقيقة الأمر مؤرخون وجغرافيون أو سياسيون حاولوا تجميع ما كتب من أقوال الأوائل دون تمحيص لما يتم ترديده .
ففي عهد جوبا 2 كان هناك :
ـ كتاب نيقولا الدمشقي Nicolas de Damas «مصنف الأخلاق العجيبة « «recueil de moeurs extraordinaires “ كان لليبيين ،في بعض أجزاءه، منه نصيب إلا أنه لم تصلنا سوى فقرات .. وهي في معظمها صدى لهيرودوت ـ حسب كزيل ـ ..
ـ وهناك كاتب آخر في نفس العصر و هو سترابون Strabon الذي أنهى مصنفه الضخم في الجغرافيا (رغم ما يحتويه من أخطاء) فعل ذلك لاهتمامه بالعدو القرطاجي. هو لم يزر بلاد البربر ، ورغم ذلك يتحدث عنها نقلا عن الآخرين ولم يتحدث عن عصره إلا فيما يخص وفاة جوبا 2 وخلفه بطليموس (ابنه من كيلوبترا)
ـ كتاب لسالوست بعنوان (حرب يوغرطا )
ـ (حرب أفريقيا ) كتاب آخر
ـ مصنف ميلا Mela: أصدر جغرافيته حوالي 14 ميلادية غير أنه اعتمد على مصادر قديمة و كان كاتبا أكثر منه مؤرخا وتحدث عن ضريحي فيلين و جوبا 2 الذي قال (عن هذا الأخير) أنه كانت له عاصمة اسمها يول Jole ثم سماها القيصرية و تحدث عن مستعمرة رومانية أنشئت في زيلي على المحيط في موريتانيا . ذلك أنه (ميلا) من تنجنتيرا Tangentera المدينة الإسبانية التي نُقل إليها أهل زيلي في عهد أغسطس .
(يفهم من هذا أن سكان شمال المغرب يُنقلون إلى جنوب إسبانيا (و العكس صحيح) و ذلك حسب التقسيم الإداري لروما .. الحديث هنا عن شمال المغرب حين تم إلحاقه بولاية البيتيك بجنوب إسبانيا الحالية)
انطلاقا مما سبق ، يجب أن نحذر مما يصلنا نقلا عن أولئك الذين يتحدثون جزافا ، ونعتمد أشياء أخرى غير النصوص التاريخية و المصنفات الجغرافية المكتوبة ..
ولكن ، إذا اعتمدنا بقايا البناء و الآثار نجد أن أغلب المدن في شمال أفريقيا سويت بالأرض نظرا للطريقة التي يتم بها البناء. وهذا بخلاف البناء بالطوب كما في بلاد ما بين النهرين و على ضفاف النيل .. فدك الطين المخلوط ، بالتبن أو غيره، بين لوحين لا يمكن أن يدوم طويلا ما لم يتم ترميمه فما بالك إن تمّ تخريبه ، و لم يتبق لنا من تلك الحقب غير بعض المقابر (وهي عبارة عن مدافن (أكوام من أحجار) لا يمكن التأريخ لها إلا بالتقريب، نظرا، للاختلافات الواردة في هذا الشأن من طرف الباحثين (حول التيميليس Timulus Libyques) وما لم يتم التركيز على هذا النوع من (أركيولوجيا ) المقابر وما تحتويه من أثارات ، ودراستها دراسة علمية دقيقة، سيكون ذلك من باب الوطنية الكاذبة والسياحة الترفيهية الباحثة عن الخصوصية الظرفية التي تُفرض على الأنظمة فرضا.
إن طريقة البناء المغاربية طريقة من السهل أن يصيبها التلف بعد مرور سنين ما لم يتم البناء بالحجارة (كما هو شأن تازوطا في دكالة حاليا)
ولهذا ـ في رأينا ـ يسهل على الباحثين أن يدرسوا الفترة الرومانية على باقي الفترات نظرا لسهولة البحث (نوعا ما) عما خلفه هؤلاء سواء ككتابة أو كآثار عمرانية أو تحف أثرية وفنية أو كل ما يدخل تحت صنف التراث المادي، كالنقوش الصخرية أو التذكارية ذات الكتابة التي استطاع البعض تشفيرها و فهم محتواها ..

2 ـ النقود كدليل مادي

من الطبعي ، إذن، أن يتم البحث عن شيء آخر ملموس لإثبات مدى صحة المقاصد والنوايا والتأويلات ، لذا يتم اللجوء إلى المسكوكات (النقود المسكوكة) التي قيل في شأنها الكثير ..
فمن بين عملات الممالك الأهلية التي يمكن التأريخ لها ما صدر منذ عهد سيفاكس في نهاية القرن 3 ق.م (من البرونز وعليها اسم الملك بالبونيقية)
وتجدر الإشارة إلى أن أغلب المسكوكات التي وُجدت ـ لملوك أهالي ـ كانت من البرونز و الرصاص و هي أقل قيمة من المسكوكات الفضية أو الذهبية التي كانت نادرة..
وفي موريتانيا كانت تنقش على بعض العملات صورة سمكة (بالرغم من أن الأمازيغ لا يأكلون في أغلبهم الأسماك وكانت أغلب مدنهم بعيدة نوعا ما عن الساحل (فهم لا يحترفون مهنة الصيد ، وأغلب الصيادين في موريتانيا كانوا من كادس الإسبانية واستغلوا السواحل الإفريقية للمحيط الأطلسي )، مما يعني أن التأثيرات الخارجية واضحة ولا أدل على ذلك معامل التمليح وصناعة الكاروم و معامل الأرجوان التي أقامها الفنيقيون (ربما) ومن جاء بعدهم في أماكن مختلفة (شمش مثلا Shemsh) حتى زمن يوبا 2 الذي قيل أنه أنشأ معامل أخرى في الجزر الفرفيرية Iles Purpuraires (الصويرة و جزيرتها) ..
وهكذا تم إيجاد مجموعات نقدية في مدن مختلفة حاولت الاستقلال المادي و المعنوي في القرن 1 ق م رغم أنها استوحت نظمها من المؤسسات القرطاجية ، وحملت شعارات لمنتجات كانت عصب إقتصادياتها فنجد في بعضها إما عنقود عنب أو سنابل قمح أو نحلة أو حصان أو سمكة ، بكل من مدن : مليليا و تامودا و تينجي و لكسوس و شالا.. كما نجد في بعضها حروفا تشير إلى تلك المدن بلغة بونيقية جديدة .

3 ـ المور حسب
ما وُجد لحد الآن

منذ سنة 406 ـ كما يشير ديودور ـ نجد أن القرطاجيين أتوا بجنود من المور والنوميديين إلى صقلية لمحاربة روما .
ما فهمناه من الإشارات ـ بعد ذلك ـ أن الممالك الأفريقية حاولت ـ كلما استطاعت ذلك ـ أن تنسل عن جبة القرطاجيين على ما يبدو وتعطي لنفسها أهمية أمام الدخيل الرومي ، وهذا ما أدى إلى تحالفات يفرضها الظرف والحال فكان مسينيسا كملك نوميدي يرفع شعار « أفريقيا للأفارقة « ـ كما يرى تيت ليف ـ
وبعد عودته (مسنيسا) من إسبانيا هيأ له الملك الموري باكا أو باكاس BAGA ـ BAGAS نحو أربعة آلاف (4000) فارس ليعبروا به موريتانيا حتى يلتحق بمملكته و يتجاوز القبائل الموالية لسيفاكس رغم أن المصادر تتحدث عن علاقة هذه الأخير بقرطاج التي تزوج منها صفونزب Sophonisbe التي سيتزوجها مسنيسا بعد انهزام سيفاكس و غضب شيبيون و خلفه روما التي لم تكن سياستها تهتم له و لا للأفارقة ..
المهم أنه عبر به و أوصله إلى مملكته ، وهذا يدل على مدى قوة هذا الملك الذي تذكره المصادر في نهاية القرن الثالث ق م ، و الذي هيأ هذا العدد من الفرسان ليعبر بملك جار إلى مملكته في أمان من هجمات القبائل التي لم يستطع لا ماسينيسا ولا سيفاكس السيطرة عليها.
أما يوكرتا بعد ذلك ، وقد كان في الأصل ـ كما هو شأن أغلب الأفارقة ـ قائدا عسكريا تحث إمرة «شيبيون الإيميلي» كقائد لروما في شبه الجزيرة الإبيرية. صار ملكا لما استولى على العرش ، لكن مزاجه المتقلب كان دائما سببا يعبر عن شخصيته (كما يرى أغلب المؤرخين) ، فقد قتل ابن عمه و غريمه «هيمبسال « ، و نكل ب «أدربال» و وتخلى عنه كوضا . و لجأ ابن عمه الآخر ماسيفا Massiva إلى روما حيث تم اغتياله بأمر منه ، حين ذهب إلى روما للدفاع عن شخصه أمام مجلس الشيوخ ، وإرشاء بعض النبلاء الذين نصحوه بالعودة الفورية إلى إفريقيا حسب ما شار إليه أندري جوليان. ويتحدث المؤرخون عن قوله الشهير وهو على وشك الخروج من روما:
«مدينة للبيع مصيرها الهلاك إن وَجَدت من يشتريها«
كان يوكرتا يعتمد على صديق له يسمى « بُدْمِلْقرْطَ « وظهر ذلك جليا ـ كما تقول المصادر ـ في:
ـ التخطيط و السهر على اغتيال ماسيفا ـ Massiva ـ بروما .
ـ رئاسة الوفود التي كان يرسلها يوكرتا لروما ..
لهذا، ونظرا لمكانته، سيتصل به القنصل الروماني «مالتوس»، وحسب ما ذكره صالوست فإنه جُبِل على الخبث و المكر و النفاق و الخداع (شأن الأفارقة جميعهم كما يرى ذاك بعض الغربيين) . و قد رأى بدملقرط ـ ببعد نظره ـ هزيمة الأكليد يوكرتا وشيكة ، لذلك وسوس له بإعطاء الرومان ما يطلبونه ليوقفوا الحرب ، منها : دفع الضريبة (ألف وزن روماني من الفضة) ، و تسليم ما يملكه من فيلة ، وبعض الخيل ، وأيضا تسليم الخونة الذين انسحبوا من صفوف جيش الرومان و التحقوا بجيشه إلا أن هؤلاء الأخيرين حين بدأت لعبة العطاء ، و خوفا على أنفسهم ، انسحب أغلبهم للمملكة المورية التي كان على عرشها صهر يوكرتا الأكليد بوكوس ..
ويشير صالوست في مؤلفه في خضم حديثه عما يعرف تاريخيا بمؤامرة ( باجة) في الفقرة 67 إلى 69 إلى أمر مهم .
كان يوكرتا يريد الإيقاع بالحامية الرومانية التي خلفها ماتلوس بباجا .. وقد صادف ذلك عيدا دينيا يقدسه الأفارقة ( وأظنه رأس السنة الأمازيغية أو ما يسمى « إض إينّايْرْ» )، وحسب المؤرخ الفرنسي ج كاركوبينو فهو عيد سيريس Cèrès إلهة الفلاحة، وهو عيد يعرف ببهرجته و دق الطبول و مآدبه و خموره .. وقد تم استدعاء الحامية العسكرية للحفل ، فعات فيهم الأهالي تقتيلا ، ولم ينج منهم سوى قائدهم دون ذكر السبب .. وهذا على حد قول صالوست وبلوتاركPlutarque .
وقد أدى ذلك لسقوط العديد من المدن بعد هجوم الرومان عليها كتاهلا Tahla .. مما اضطر يوكرتا للاتصال بالملك الموري . و بعد كر و فر ، أحجم القائد الروماني بعد ذلك عن خوض المعارك ضد جيشين واضطر للاتصال ببوكوس ..
وحسب المصلحة دائما ما كان قبل ذلك من التحالف مع ملك موريتانيا «بوخوس القديم» عبرالمصاهرة إلا أن هذا الأخير ـ كما قيل ـ سلمه إلى الرومان . الذين أخذوه إلى روما حيث تم تعذيبه وقتله . ويقال أنه تم قطع أذنه لالشيء سوى لأخذ القرط الذي كان فيها ،كما تذكركتب التاريخا لروماني . وأخيرا قسمت روما الأراضي التابعة له .


الكاتب : عبد الله خليل

  

بتاريخ : 12/04/2022