أسير عاشق وعاشق أسير

بلاغة بورتريهات «جان جينيه» في لوحات الفنان عبد الله بلعباس

 

يحتفي الفنان المغربي عبد لله بلعباس بمجموعة من الشخصيات الفكرية والسياسية، بتوظيف البورتريه تقنية تعبيرية، تعيد بناء صور هذه الشخصيات من خلال مواضع، تنتصر للذاكرة، وتشف عن إبداعية، تتسم بالبساطة والشغف، لكنها تخفي عشقا، يتخذ الجمال موئلا، والأدوات الفنية وسيلة لتحرير الأبعاد الإنسانية في الشخصيات المرسومة، وإعادة بعثها، لتتحول إلى أيقونات مجردة، تستحقّ أن تخلد، وأن تمرّ أرواحها المتمردة إلى الأجيال المقبلة.
تستحق تجربة الفنان عبد لله بلعباس أن تدرس، باعتبارها إبداعا فريدا في العالم العربي؛ لأنها توظّف ذاكرة الفنان الثقافية والفكرية، وتحفر في الذاكرة الجمعية، متوسلة الغرابة منظورا، والمألوف تجسيدا. وفي لقاء الغريب والمألوف، تتقابل اللوحات، لتعلن عن ميلاد رؤية جديدة في التشكيل، تستند إلى البورتريه، وسيلة خطابية، للإمساك بالذاكرة المهدورة. قد تبدو اللوحات متقشفة في أدواتها، ولكنها سخية بعواطفها وتأملاتها، وتسكنها حياة كتاب ومفكرين، تحلّ أرواحهم، في روح المبدع، فيبعثها حية ترزق، ويمنحها ولادة جديدة.

ليس اختيار عبد لله بلعباس لشخصيات فكرية وثقافية وسياسية اختيارا تلقائيّا. ولعل انتقاء الفنان لشخصيات محددة، يعد في ذاته اختيارا واعيا بالقيمة الجمالية التي يمكن للوحة أن تسعها تعبيرا. ومن هذا المنطلق، ينتصر عبد لله بلعباس للذاكرة الثقافية التقدمية والحداثية؛ ذلك أن الوجوه المعروضة، هي مستمرة في الحياة، من خلال إبداع بلعباس، وهي أيقونات، تخلصت من أجسادها، وتحولت إلى أرواح، تسكن ذاكرة المبدع، فيسعى إلى إكمال حياتها، بما يملك من قدرة على تجريد وجودها، ومنحها الحياة الأبدية. فما معنى أن تفتح عينيك على أيقونة؟

أن تفتح عينيك على أيقونة…

في رواية قسطنطين جورجيو «من السّاعة الخامسة والعشرين إلى السّاعة الأبدية»، يقول السارد: «دائماً ما تصوّرتُ الذّاكرة الإنسانية في شكل شريطِ تصويرٍ ضوئيّ، تنطبعُ عليه، كما في فيلم، صورُ الحياةِ كلُّها، من المهد إلى اللّحد. العينُ، كالكاميرا، تسجّلُ تلقائياً كلّ ما يمرّ في مجال عدستها. ولا تحفظ الذّاكرة من الصور والمشاهد إلّا بالمهمّ. أمّا بقيّة الشّريط، فيُلقى به، كما يلقى بشريط تصويرٍ عديم الفائدة، إلى مهاوي النّسيان. تتخلّص الذّاكرة من محتواها كما يُتَخلَّصُ من محتوى حاويات الأزبال».
تشتغل الذاكرة بالانتقاء والحذف والترتيب والنسيان…، ولعل اختيار عبد الله بلعباس لشخصيات محمد شكري ومحمد زفزاف وإدريس الخوري وإدمون عمران المالح وجان جينيه… لتكون مدار إبداعه، يعكس انتقاء، يعبر فيه الفنان عن إحساس بالجذوة التي يمكن النفخ فيها، لإطلاق شرارة صور إنسانية، وجدت في ذات المبدع تعاطفا، يستطيع بواسطته، أن يعيد التعبير عما يمور في مشاعره تجاه هذه الشخصيات المتفردة.
ليس غريبا أن يجد بلعباس في شخصية الكاتب المتمرد جان جينيه أيقونة لموضوع لوحاته؛ فجان جينيه وجد مكانته في الوجدان الإنساني والعربي، لإبداعه المتفرد من جهة، ومن جهة أخرى لمواقفه من القضايا العادلة، ومنها القضية العربية، ذلك أن الكاتب انتصر للثورة الجزائرية، وانخرط في فضح جرائم الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني، وقضى سنوات طويلة متنقلا بين دول عربية كثيرة. يقول إدوارد سعيد عن جان جينيه: «لم يعرف القرن العشرون كاتبا آخر، تعايشت عنده أخطار الكوارث الكبرى مع الرقّة الغنائية في ردّ فعله العاطفي عليها، بمثل هذا الكِبَرِ، وتلك البسالة».
يُكبر الفنان عبد الله بلعباس بسالة جان جينيه، ويهتم بتفاصيل رقته الغنائية، وهو ما يتجسد في اتخاذ البورتريه الوجهي فضاء للاشتغال، حتى لكأن جينيه يقابلنا سافرا، ويتأملنا… فيستثير حواسنا، وينبهنا إلى المأساة التي لا زلنا نعيشها في عالم ممزق.
يتأسس استلهام جينيه على ما كتبه جينيه، ولا سيما سيرته الأخيرة «أسير عاشق»، وفيها يعبر جينيه بوضوح عن علاقة الانفصال، مع الفكر الغربي، والحلول في قضايا الإنسان، يعبر جينيه عن هذه العلاقة، بلغة الرسام، فيقول: «عندما يشفّ رسم عن عيوب كثيرة، فإن الرسام يمحوه، وتُدعُّ ضربتان أو ثلاثٌ بالممحاة الورقة من طراز «كانسون» بيضاء تماما؛ وهكذا، فما إن مُحيت فرنسا وأوروبا حتى أصبح هذا البياض القابع أمامي، والذي كان بالأمس يضم فرنسا وأوروبا، فضاءً للحرية راحت تنخطّ فيه فلسطين التي عِشتها… أكانت هذه الانتفاضة، التي بقيت خارجة على القانون زمنا طويلا، تأمل أن تتحول إلى قانون تكون سماؤها هي أوروبا؟ حاولت أن أقول ما صارت عليه؛ أمّا أوروبا، التي صارت تشكل لديّ أرضا مجهولة، فقد باتت ممحوة».
ينتزع عبد الله بلعباس جان جينيه من وحل الجدل الذي شغل النقاد حول شخصه، وحول كتاباته، ويمنحه فضاء اللوحة، ليحتفي بالبطل احتفاء الاعتراف، بروح الإنسان القلق والمبدع والمتمرد، يرجع إليه بساطته، وتمرده، وعنفوان عاطفته المنكسرة أمام هول المآسي التي شهدها، ويعيد من خلال البورتريه بناء هويته الأصيلة، مثقف إنساني، منتصر للحرية في أسمى صورها.
البورتريه، في نظر جارد جويل طامين، تقنية خطابية في الأصل، وهي التي يمكن أن توحد البلاغة بباقي التخصصات الأخرى. وتختزن هذه التقنية إمكانات حجاجية وتأثيرية قوية؛ لأنها تمكن من الإيجاد، والترتيب، والسرد. ولكن خاصية البورتريه عند الفنان عبد الله بلعباس هي الذاكرة أداة وغاية.

البورتريه: الذاكرة

يقول جان جينيه في «أسير عاشق»: «لنتوقف قليلا عند الحقيقة المعروفة في أن الذاكرة ليست بالشيء الموثوق منه. تعدل، لا عن مكر، الأحداث وتنسى التواريخ وتفرض ترتيبها الزمني الخاص، وتتناسى أو تحول الحاضر الذي يكتب أو يسرد. تفخّم ما كان عاديا: فأكثر إمتاعا لكل واحد أن يكون شاهدا على أحداث نادرة لم يتحدث عنها أحد من قبلُ. من عرف واقعة فريدة، فذّة، نال حصّته من هذه الفرادة الاستثنائية. من هنا رغبة كل كاتب مذكرات في البقاء وفيا لخياره الأول… يريد كاتب المذكرات أن يعبّر عما لم يره أحد… وإننا لمحظوظون، ومن مصلحتنا أن نوهم بأن رحلة الأمس تستحق عناء ما نكتبه الليلة… إنّ كاتب المذكرات يطمح إلى أن يكون مغني ذاته، دون أن يعترف لنفسه بذلك إلا لماما… أكان هوميروس سيكتب الإلياذة لولا غضب أخيل؟ أكنا سنعرف غضب أخيل لولا هوميروس؟ ولو أنّ شاعرا رديئا غنّى أخيل، فما كان يا ترى سيعرف عن هذه الحياة المجيدة والقصيرة…».
تحتاج البطولات الإنسانية إلى شاعر يصورها للأجيال المقبلة، شاعر مجيد، يلتقط الصور المتلاحقة في اللحظات التي يشع فيها نور الإنسانية، أو يخفت فيها. لم يرتب جان جينيه مذكراته ترتيبا خطيا، يصور بطلا، تتلاحق في مسيرة حياته الانتصارات. اختار الفوضى نسقا لنقل اللامرئي. وكان شاهدا شهيدا.
لم ينس الفنان عبد لله بلعباس شهادة جينيه على مجزرة صبرا وشاتيلا، تلك الشهادة الإنسانية التي يقفز فيها الشاهد بين الجثث، عاجزا عن تصوير الرعب والكارثة. يفتح بلعباس عيني جينيه، بل يفتح من خلالهما عينيه، وعيوننا جميعا على الاستثناء الذي صرخ في وجه البشاعة والإجرام والتمثيل بالجثث.

عينا الأسير العاشق

يرسم إدوارد سعيد بورتريه لجان جينيه، مستحضرا لقاءه معه، فمنظر جينيه ذاته، على حد تعبير سعيد «عميق التأثير»، وهو «أشبه بتمثال نحته جياكوميتي»، ويركز سعيد الوصف على عيني جينيه، فيقول: «ولن أنسى تحديقة عيني جينيه الزرقاوين الثقابتين التي يبدو أنهما تخترقان المسافات، وتحدجانك بنظرة ملغّزة، وحيادية محيّرة».
انتقى الفنان بلعباس من جينيه عينيه، ركز هذه النظرة الملغزة، الحيادية، المحيرة… ومثلها تمثيلا جماليا، يخترق المسافات. فالعينان مركز الثقل في سلسلة لوحات سردية بلعباس لجينيه، وفيها يبرز حذق رسام البورتريه، في تحريك مواضع العينين في اللوحة. ولهذا، يمكننا القول أن البورتريه الحركة، ينم عن رغبة شديدة من الفنان، ليتقمص روح الموضوع ذاته، ويجعلها تنطلق بدون قيود. يجعلها شاهدة، لا شهيدة. يتلاشى التعاطف تدريجيا، ليحل محله صوت الذاكرة الأسيرة والمهدورة.
وصفت ليلى شهيد الكاتب جان جينيه في حميميته، وفي لحظات ضعفه وفوضاه، باحثا عن ملجأ يختبئ فيه من ظلم العالم. جسد جينيه القدرات المذهلة السحرية للفوضى التي لا ترضى النظام المختل في القيم الإنسانية. يمتلك بلعباس حسّ الشخصية، فيحول عينيها إلى أداة لتصويب الفكرة، «عينان فقط، هما كل ما في اللوحة»، هذا تعبير جميل لاستلهام العيون في اللوحات للأستاذ أحمد بوزفور، ولم أجد أبلغ من التعبير عن حضور العينين في إبداع بلعباس غير هذا المقطع من القصة الجميلة «البكاء» لبوزفور:
«قلت لها:
-العينان في اللوحة… عيناك؟
-نعم… وعيناك أيضا، وعينا كل إنسان.
-لماذا البكاء إذن؟
-إنه سؤال أكبر مني. لا أستطيع الإجابة عنه.
-نعم. وأنا لم أطرحه لتجيبي عنه. طرحته للتأمل فقط.
-أنا تأملت وأنا أرسم. إنه دورك الآن… فتأمل».
العينان دعوة للتأمل، البصر عين البصيرة. والفنان ينفذ من العينين إلى عقل المتلقي وحواسه، تلك بعض من تأملات بوزفور القصصية التي تصدق على عيني جينيه في لوحات عبد لله بلعباس. جينيه الشاهد الحزين على مآسي القرن العشرين، لا يملك إلا أن يدعونا إلى التأمل. والفنان عبد الله بلعباس يُشهر جنون الشهادة من العينين، مكمن السر، ففيهما المواجهة والاعتراف والتلاشي… وفيهما يركز الفنان جماليات التذكر، انظر وتأمل وتذكر…
لم يختر جان جينيه موقف الحياد في عدد كبير من القضايا الإنسانية في القرن العشرين، يقول إدوارد سعيد عن هذا الموقف:»كان عاشقا للعرب، وهو أمر لم يعتده العديد منا من كتاب ومفكرين غربيين، وجدوا العلاقة الخصامية مع العرب أشد ملاءمة لهم- وهذه هي العاطفة المميزة التي تسم آخر أعماله الأساسية… «الستائر» ملتزمة بتأييد الثورة الجزائرية في ذروة النضال المناهض للكولونيالية، و»الأسير العاشق» تعبير عن دعمه للمقاومة الفلسطينية… بحيث لا يجد المرء أي مجال للشك في موقف جينيه».
أحاط جان جينيه بورتريهات جان جينيه بمعاني الحب والاحترام والرقة، ووطن فيها عاطفة تعبّر عن الفكر المستتر وراء الوجه، وهذا جليّ في الصور غير المألوفة، التي تحس فيها بلعباس، يقرأ جينيه منفعلا، تحسس تعابيره، كما لو أنها يتلقاها أول مرة.

على سبيل الختم

وقفنا على بعض من خصائص البورتريه عند الفنان المغربي عبد الله بلعباس، ملتمسين أوجه الغرابة، في التعبير الجمالي للرسام عن شخصيات حفرت في ذاكرته، وأثرت في وجدانه تأثيرا عميقا. واكتفينا بتأمل لوحات جان جينيه، غير أن قراءة ضافية لاتجاه بلعباس الجديد في إعادة بناء الذاكرة الثقافية والفكرية، يمكن أن تنصف هذا المبدع الذي يجرب الممكن في القبض عن مستحيلات مجازات الذاكرة. ينطلق اختيار عبد الله بلعباس لبورتريهات الشخصيات، انطلاقا من الأثر الذي تركته في ذاكرته، وهو أثر فكري وعاطفي ووجداني؛
-يركز بلعباس في البورتريه على الوجه وما يحمله من ملامح ومظاهر خارجية، ولكنه يوجهها توجيها فنيا للتعبير عنها، انطلاقا من مواقفها وكتاباتها؛
-تعدّ شخصية جان جينيه ملهمة للفنان؛ لكن استلهامها فنيا وتعبيريا، يتأسس على الأثر الذي تركته شخصية جينيه المتمردة في نفسية المبدع، وتحديدا أثر المقروء… وهذا ما يفسر استثمار الملصقات المكتوبة في اللوحة، غير أن هذا الأثر يختفي تدريجيا، ليعيد الفنان روح الشخصية، وكأنه يسعى إلى جعلها «أيقونة»، تتجرد من وجودها الدنيوي؛
-اعتمد الفنان تنويعا في تقديم شخصية جينيه، وهذا التنويع، يهدف إلى خلق صور لامتناهية، وتعبير عن عدم الاستكانة إلى لحظة، يمكن تثبيتها، وهذه الحركية تشف عن ذاتية بلعباس الذي لا يكف عن تجريب ذاكرته، هذا التجريب، ليس عفويا البتة، بل هو اختيار واع، بأن بورتريهات الشخصيات التي تسكن ذاته، تستحق أن تتحوّل إلى شخصيات/ذاكرة، وأن تعبر إلى الأجيال المقبلة، لأنها قرينة الوجود الإنساني، الذي يختزن قيم الحرية، والتمرد، والتغيير… وهي تجل للجمال الذي يسمو إنسانيا، ويتدفق تعبيرا، تاركا أثرا على الأرض، تمثل اللوحة التي تقتنص قبسا من القديسين الذين رحلوا…

لائحة المصادر والمراجع:

-محمد آيت حنا، القصة والتشكيل، منشورات وزارة الثقافة، 2012.
-سلامة موسى، تاريخ الفنون وأشهر الصور، كتاب الدوحة، 2015.
-قسطنطين جورجيو، من السّاعة الخامسة والعشرين إلى السّاعة الأبدية ، ترجمة: محمّد آيت حنّا (تصدر عن دار كلمات سنة 2023).
-إدوارد سعيد، عن الأسلوب المتأخر، ترجمة فواز الطرابلسي، دار الآداب، بيروت، 2015.
-جينيه، جان، أربع ساعات في شاتيلا، ترجمة محمد برادة، مجلة الكرمل، العدد 7، 1983.
-جينيه، جان، أسير عاشق، ترجمة كاظم جهاد، دار شرقيات، القاهرة، ط1، 1997.
-Joëlle Gardes Tamine, La rhétorique, Éd, Armand Colin, Paris, 2000.


الكاتب : إبراهيم العدراوي

  

بتاريخ : 21/07/2023