وَلستُ براضٍ أَنْ تَمَسَّ عَزائِـــمـــي فُضالاتُ ما يُعْطي الزمانُ وَيَسلُـــبُ
غرائبُ آدابٍ حَباني بِحفْــظِــــهـــــا زَمَاني، وصَرْفُ الدَّهر نِعْمَ المؤَدِّبُ
تُرَيِّشنا الأيامُ ثُمَّ تَـــهِــيـــضُــنـــــا ألاَ نِعْمَ ذا البادي وبئسَ المُعَــــقِّـــبُ
(الشريف الرضي)
الآنَ وقد انْفَضَّ السّامرُ، وأَدْخَل في الجِراب، نايَهُ الزّامرُ، وعاد كلٌّ إلى خيمته غانماً أو مُغْتَمّاً ناقما، فَرَحاً يطير أو تَرَحا يتعثر ويسيرُ؛ الآنَ وقد طوت الوزارة حقيبتها الموسمية التي نشرت أوراقها وكنانيشها أسبوعا كاملا، و «فاز « من فاز، واكتأب من اكتأبَ، ماذا بقي من المعرض؟ ماذا استنتجنا، وماذا استنتج الزائرون والمدعوون، والمارون والعابرون؟، ماذا استنتج المبعدون والمقربون من المعرض الدولي للنشر والكتاب؟، وماذا علينا أن نقول ـ بكل الهدوء المطلوب، والوعي المرغوب ـ بكل حرف نضعه، وكل سطر نخطه، مدركين لكل فكرة نُداوِرُها ونَتَعاورُها، ونعتقدها، ما لم تُدْحَضْ، ويظهرْ خطلها، و» تحاملها «، أو يتجلى تهافُتُها وخَبْطُها؟
ماذا علينا أن نقول، وإنْ قلنا: هل من مُنْصتٍ ومن سامع، ومن محاور موضوعي، ومن مجيب يشرح ويفسر ويعلل، ويحاول الإقناع من دون لف ولا دوران، ومن دون زيف ولا زلفى، ولا تقنيع ولا تمييع. إِنْ هي إلا « معركة « ناعمة في خصوص ثقافتنا، معركة لا بد منها لكي نتقدم ونحيا.
فهل أصبحت ثقافتنا في المزاد، موقوفة ومقصورة على أسماء وأصواتٍ بأعيانها، ما انْفَكَّتْ تُدْعَى وتُسْتَدْعى في كل معرض، وفي كل مناسبة؟. وهل يُزَايَدُ على الثقافة؟، من يزايد عليها؟ وأين؟، وأي ثقافة قابلة للمزايدة والمزاودة، ما لم تكن ثقافة الريع، وثقافة الفضفضة، وثقافة الاستهلاك والطلقة السريعة، و»خفة الرِّجْل «والقلم، والقفز والنط كما في لعبة الحجلة، أو محاكاة لحيوان الكونغورو؟
أهي الشماتة؟ فَمَنْ يَشْمَتُ في مَنْ؟. أهي الشطارة؟ وعلى من، ولفائدة من؟، أم هي الحقارة في أظهر وجهها؟، وتلك هي المسألة، وذلكم هو السؤال الذي لا يمكن أن أجيب عنه.
بلى، إنما نعني الثقافة الحقة، الثقافة الجادة والمسؤولة الخارقة والمخترقة التي لها أعلام وكُتّابٌ ومفكرون ومبدعون ( إناثا وذكورا ). الذين ينتجون خارج ّ المؤسسات «، وبعيدا عن « العرض والطلب «، وعن الجلبة والضجيج والعجيج. يكتبون في صمت، تُجَللُهم أقْباسٌ عُلْوية، وتكلؤُهم مهابة الحرف واللغة والفكر، والسمو الروحي، وتُرَاقِصُ كتاباتِهم، المُلْهِماتُ، وَ»وصيفات سلفادورْ دالي «.
ذلك أنه ليس في مقدور ولا في طوق كائناً من كان، أن يُخْرِسَ الصمت الذهبي الصائت، ويمحو البياض الفضي النابض، وعذب الكلام، وجمال وجلال الإبداع والفن، بالتغييب والإبعاد، أو بالتنقيص والتعصيب. ليس في مقدور أحد ان يتصدى للكاتبات والكتاب الجادين « المحترقين « الذين ولَّدوا بدائعَ، وأنتجوا روائعَ، أن يتصدى لهم ولهن بالرفس والعفس والطمس عند حجبهم وتحجيبهم من الظهور والتجلي في مناسبة ثقافية ولو اكتست بُعْدا دوليا، وارْتَدَت فستانا زاهيا كونيا، لأنهم ـ أَيْ الكتاب الحقيقيون ـ هم التجلي الساطع، والبريق اللامع، وهم الضوء والرهان، وهم المستقبل والآتي، وهم الهوية المغربية ثرية ومركبة ومتحركة فاعلة ومتفاعلة في الزمان والمكان والتاريخ، تعانق الأغيار، وتصدح آناء الليل وأطراف النهار مع الحساسين والأطيار.
فتلك العوْرَةُ التنظيمية ( لا بالمعنى اللوجستيكي )، والتدبيرية، بل العَوْراتُ ـ فالسوابق طوارقُ ونواطقُ ـ لا يمكن أنْ تُخْفى وتُوَارى حتى ولو خَصَفْنا عليها كوْماً معتبراً من أوراق التوت، أو أوراق دَوَالٍ عريضة ومجْفورة، ولا يمكن أن تُنْسَى وتُتَخَطَّى في غمرة ومُضْطَرَب استدعاء « بضعة « أفراد / أسماء « جديدة « لتأثيث المشهد العام، وذر الغبار في العيون، وخلط « أوراق الكوتشينة «. إذ المشهد الثقافي المغربي يعاني، وقد ضجر أيَّما ضجر من الأسماء التي تجيء أو يُجَاءُ بها كل موسم منذ المعرض الدولي الأول الذي جرى تنظيمه بالدار البيضاء سنة 1987 إلى يوم الناس هذا. بل، إن هناك من يُجاءُ به دوما مثل الزكام حتى ولو كفَّ عن الكتابة والنشر، وجَفَّ منبعُه ومَعينُه، ولم يعد القلم يطاوعه، والملهمات عَرَضْنَ عنه وهجرنَهُ لأنهن تُقْنَ إلى الشُّبوب المُوّار، والدم الفوّار، والعطاء الدائم، والنسغ المُهْراق المغذي، والحب المتواصل، والاستدعاء المواظب.
لسنا حمقى، ولا مُبْغضين. ولسنا في عِداد المجانين والحاقدين. فليس بمستطاع أحد أن يبخس الناس حقوقهم ووجودهم أو ينالَ من تاريخهم ونبوغهم وأدوارهم. غير أنَّ الشيء إذا زاد عن حده، انقلب إلى ضده. والماء إذا فار وطغى، فاض واندلق مهتاجا ثم خيطا رفيعا، ثم .. لا شيءَ. وإذا سَكَنَ طويلا، أَنْتَنَ. ألاَ تنتعش الثقافة وتحيا وتتطور بالحوار المثمر، وبالمقارعة الفكرية البناءة، وبالنقد الموَجّه، وبالصراع الأخوي الإيجابي، وبالجدل الخلاَّق، والديالكتيك الهيجلي والماركسي؟. بغير هذا، تغدو الثقافة غديراً آسناً، كثيراً نقيقُه، زَنِخَةً رياحُه، مُسْتَنْقَعاً ـ بالأحرى ـ يَضُرُّ ويُؤْذي أكثر مما ينفع ويُجْدي؟.
وإذاً، سأُنْهي هذه الكلمة بما قاله الشاعر محمد بنيس في الفقرة الأخيرة من مقالته الموسومة ب: ( المغرب اللاثقافي ):
( … لا شيءَ من هذا المغرب اللاَّثقافي يَعْنيني أو يُغْريني. أنظُرُ إلى ما يحدُثُ، وأستحضرُ تاريخ الثقافة المغربية الحديثة. أستمرُّ في فعل ما يُقْنِعُني، وترتضيه نفسي، حُرَّةً، مسكونةً بالمجهول وبالمستحيل، فَرِحَةً بالصداقات البعيدة والقريبة التي تَعْضِدُ وتنتصر للقليلِ، الأعزِّ: الكتابةَ ).
إحــــــالــــــة:
« المغرب اللاَّثقافي « مقالة كتبها محمد بنيس في ( القدس العربي )، على هامش المعرض الدولي للنشر والكتاب المنعقد بالدار البيضاء يوم الثلاثاء 12 فبراير 2008.
( القدس العربي ـ السنة 19ـ عدد: 5822 ـ 22 فبراير 2008 ).