مجرد استحضار واستذكار جبران خليل جبران مثلاً، يملأ القلب انشراحاً وانتشاءً، والعقلَ التماعاً وبريقاً، والنفس حبورا ومرحاً، والجسمَ اهتزازاً وارتعاشاً تلك الارتعاشة الروحية اللذيذة العذبة الدفينة التي تَنِدُّ عن الوصف، وتَتأبَّى عن الإحاطة. فهل يعودُ ذلك للطفل الذي لا يزال فينا لأنه أبو الرجل فيما قال الشاعر البريطاني وورْدزْ وُورثْ. نقفز فرحاً وخفة ونحن نذكر هؤلاء وغيرهم كما نقفز على كِبَرِنا ونحن نرى قوس قزح يخضب بالألوان هامات الجبال، وسفوح الوديان والتلال، وقُنَن الأشجار.
ويشبه جبران في هذا الحضور الباسق الرائق العميق في الدفائن وقرار الأعماق، ودفاتر الأيام البنفسجية العَطِرَة العابقة، يشبهه: أحمد شوقي، وأبو القاسم الشابي، ومعروف الرصافي، وحافظ إبراهيم، وطه حسين، ونجيب محفوظ، عربيا، ورِتْلٌ من محفوظات الفصول الدراسية الباكرة. وبودليرْ ورامْبو، وفيرلينْ، وهُوجو، ولاَمارتينْ، وجاكْ بريفيرْ فرنسيا، وشكسبير إنجليزيا، وثيرفانتيسْ وغارسْيا لوركا إسبانيا. فما السر في ذلك؟، هل لأن هؤلاء وغيرهم ـ وهم قليلٌ في كل حال في معمورة تعج بالملايير. غيرهم محسوب معدود، محدود، متعين يرتبطون بطفولتنا الغضة، وأحلامنا المجنحة، وبدهشتنا الطرية، ببراءتنا الخضراء، باندفاعنا المشاغب الجميل، وبإقبالنا على اللعب والطيش والحياة، بانكماش ومحدودية مصادر المتعة والمتاع والمعرفة التي كنا نستمدها ونستقيها بكل هناءة وسرور، من كتب قليلة معروضة في الأسواق، وأماكن المتلاشيات، والأشياء المستعملة والخردوات، ومن « التّْرانْزِسْتور» الذي كان يحمل أبدياً بطاريةَ الفرس الأبيض على ظهره الصغير كما حملت أرملة الشاعر معروف الرصافي، الضامرة المرضع، صغيرتَها في القر والحر، وفي الليل والنهار. ونستمدها من المذياع الخشبي الثقيل ذي الستارة المثقبة البيضاء أو البيجْ الغامضة بحسبان، أو المُخَرَّمَة بالملمترات الدقيقة، والمسافات الرقيقة؟
قرأنا، بشغف غير مسبوق، جبران خليل جبران، ولطفي المنفلوطي، وجرجي زيدان، ويوسف السباعي، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وإحسان عبد القدوس، وفؤاد القصاص، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، وشعراء الأرض المحتلة ( توفيق زياد ـ معين بسيسوـ فدوى طوقان ـ سميح القاسم ـ محمود درويش.. الخ). كما أحببنا ـ في ذلك العمر الرافل البعيد ـ بالزاكْ وفلوبير، وإميلْ زولا، وفكتور هوجو، وستندالْ، وسارْترْ في مسرحه العبثي، وفي روايات «دروب الحرية»، وألبيرْ كامو، وألفونسْ ضودي، وأنْدْريه جيدْ، وأناتولْ فْرانْسْ، وغيرهم. وبالمِثْلِ، لم يغب عنا لحظةً، جمال وروعة فرقة « البيتلز»، و» الرولينغْ ستونْ»، وأساطين « الجازْ»، و»بوبْديْلانْ»، و»نينا سيمونْ:، و» ناس الغيوان»، و» أوسمانْ» الأمازيغية. والفنانون الهائلون والهائلات: «جونْ بايْزْ»، و» جاكْ بريلْ»، و» بْراسَنْزْ»، و» إيفْ مونتانْ»، و»لْيو فِيري»، والحاجة الحمداوية، وفاطنة بنت الحسين، و»سَرّاباتْ» الشيوخ الوجديين والجزائريين، والمناضلة الزنجية العظيمة: أنجيلا ديفيسْ، من يذكرها الآنَ؟، وكذا ـ بطبيعة الحال ـ كبار باصِمِي القرن الماضي عربيا بشدوهم وشجي ألحانهم، وبهيّ موسيقاهم، وعذب أصواتهم، وعميق إحساسهم، كـ: محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وفريد الأطرش، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، ومكاوي، وأم كلثوم، واسمهان، وفيروز، ونجاة الصغيرة، وسعاد محمد، والفنانة نازك، وأحمد البيضاوي، وعبد السلام عامر، وعبد القادر راشدي، ومحمد بنعبدالسلام، وعبد الوهاب الدكالي، وعبد العادي بلخياط، ومحمد الحياني، ومحمود الإدريسي، ونعيمة سميح.. الخ.. الخ. إِنْ هي إلا أسماء، نعم، لكنها من طينة خاصة، وجوهر ذهبي نادر، لا تبرح تسكننا، وتقيم فينا. تعذُبُ كل يوم وتحلو، وتسْمُقُ كل هنيهة وحين، وتتنامى سطوتها الجمالية، وحضورها الحي المتحرك المِرْنان، ودبيبها المنعش كلما مرت ببالنا، او سمعناها ـ مصادفة أو قصداًـ بعدما أصبحت متاحةً، طوع اليد والعين والأذن، وباقي الحواس والوجدان بفضل الانترنت، واليوتيوب، والفيديو، والوسائط التكنولوجية الأخرى.
إن لنا فيها بكل تأكيد ـ مع أننا نؤمن بالتطور والتجديد ـ عزاءً وسلواناً وسط النشاز المعمم، والرداءة « الفنية» المهيمنة، والتفاهة الرائنة، والنباح بدل الصداح الذي يخفي ويواري عُوارَهُ، ضجيجُ الآلات الموسيقية، والصراخ والصخب والنّط والقفز الذي لا يخضع لميزان ولا لمقام، ولا لمبرر، ولا لِدَوْزَنةَ ولا لإيقاع مدروس بالمعنى العريض لمفهوم الإيقاع. زِدْ على هذا، الكلام السائب الكثير الذي يطلق عليه شعر وما هو بشعر ولا بسرد فني بديع، ويتسمى أصحابه شعراءَ أو ساردون مثيرون، وما هم كذلك. ولكنها قلة حياء وعَمَاء، وانعدام قيم ونُبْل، واستخفاف بخطورة وهيبة ما نقبل عليه من كلام ينقل إحساسا وفكرا ورؤيةً وروحاً، وموقفا من الأشياء والعالم والناس. بعضُ هذا هو ما دعا الكثيرين هنا وهناك من التوقف عن الكتابة، واستمراء العزلة، وإغلاق الباب في وجه العطاء والكتابة والفن، إيثاراً وصونا للجمال والجلال من الخدوش والنموش، والندوب.
من جهة أخرى: لطالما تساءلتُ، وأتساءل دوماً: لِمَ غاب عن طفولتنا وصبانا، أسماءُ أعلامٍ في الأدب والفن والشعر مغربيا؟ فنحن ـ أنا على الأقل طفلا ـ لم يطرقْ سمعي أبداً اسم شاعر مغربي أو روائي أو قاص ذَكَراً، فكيف بالأنثى كاتبة ومبدعة حينها ( لا سمح الله )؟ عَبَرَ تلقينا المدرسي على عهد الطفولة والصبا، مثل سحابة صيف، اسمُ المختار السوسي في قصيدة يصف فيها صباحا ثلجيا، واسم محمد بن إبراهيم شاعر الحمراء الساخر الشهير من خلال قصيدته الذائعة الرامزة: « بين شاعر فقير وفأر»:
نلتَ عطفي وحنَاني ثم فارَقْتَ مكاني
يا تُرَى هلْ تِهْتَ عني أمْ نَهاكَ الأبوانِ
كنت لي خيرَ أنيس نَشِطٍ في كل آنِ
ليس لي زرعٌ وزيتٌ وطعامٌ في جِفانِ
أهو تأخر أدبي وثقافي عن المشرق والشام فترتئذ؟ أم لأن الشعر المغربي قَصُرَ عن إدراك شَأْوَ الشعر المشرقي لانغماسه الفقهي، وتخشبه اللغوي، لكن: ألم يكن لدينا عبد المجيد بنجلون، وعبد الكريم بن ثابت، وعبد المالك البلغيثي، وعبد القادر حسن، ومحمد الحلوي، ومصطفى المعداوي، وعبد الكريم الطبال…الخ؟ ألم تكن أشعارهم منقوعة في ماء الرقة والعذوبة واللغة الرومانسية، فلماذا طُمِروا، وبَرَز من بين الأشجار: وجه الشابي وشوقي وحافظ، والرصافي وغيرهم؟
أصداء أصوات غافية .. الأحياءُ أبداً: صُنَّاعُ لغةٍ وجمالٍ، وبُناةُ مساكنَ رمزيَّةٍ

الكاتب : محمد بودويك
بتاريخ : 30/05/2025