أصداء أصوات غافية .. الشاعر محمد السرغيني: الطفلُ أبو الرَّجُلِ

إليه وهو يكتب، الآن، قصيدته الكبرى

تهيبتُ، دوما، الاقترابَ من « كتاب « الشاعر السرغيني، المخبوءِ والمستورِ بين الظل والشمس، حتى لا يحرقني، ولا يريني فَهاهَتي وَعيّي وجهلي.
تهيبت عمرانه اللغوي، وشوكه المعرفي المستكن في قطيفة الإلماع الشعوري، والدفق الإحساسي، والفيض الصوفي، المدفون في طيات فِراء لجِراء نمور بيضاء، وفهود رقطاء، ولبؤات صهباء تذرع الاستوائيات، والهضاب الزرقاء، والحقول الثلجية، والضفاف المخضرة، في أقصى القطب والجغرافيا، ومنتهى الوهاد والقمم. لم يكن موطوءا، أبدا، عمل السرغيني الشعري، أتحدث هنا عن عمله «بالجمع»، بدءاً من: « بحار جبل قاف «، إلى « الكائن السبإي «، إلى « وجدتك في هذا الأرخبيل «، و « من فعل هذا بجماجمكم»، إلى « احتياطي العاج «، و» من أعلى قمم الاحتيال «، و» وصايا ماموث لم ينقرض «، إلى « تحت الأنقاض.. فوق الأنقاض». كان عمله هذا الجامع الوسيع الخصيب، نبعا ثريا فياضا، يزركش الشعر بمطلقيات أخرى، ومؤثثات حافة تسنده وتنشره، وتوسع حدقاته. فكأن الشعرَ في شرعة السرغيني، قاصرٌ إذا عومل ضمن حده التجنيسي، وخطوطه المرسومة، و» حذائه الصيني «، مثلما تعاور على ذلك، وكرسته أحقابٌ وممارساتٌ وتقاليدُ عجلى. فهو يسنده ليعطيه ما فصل عنه، ويوصله بما كان له في الشعريات الأولى، وما ينبغي أن يعاد ويستعاد. ولعل في صنيع أبي تمام، وشيخ المعرة العظيمين بما لا يحد، بعضا من هذا الفهم، ونَزْراً من هذا المأتى على رغم بقائهما رهينيْ محبس العمود، وسجينيْ جزمة الوزن والعروض. ولنا في ما أتاه أدونيس، وأنجزه محمد عفيفي مطر، وبدر الديب، ومحمد آدم، تضمينا للتلاقي والتقاطع، مع الاحتراس من التعميم والتشريك.
لا يمكن، بحال، أن نفهم شعر محمد السرغيني، والفوز بلذة منه وفيه، ولا يفوز باللذة إلا الجسور على حد تعبير الشاعر سَلْمَ الخاسر، واختلاس مسرب إلى عين زرقاء ترفرف تحت رموشها السوداء الوطفاء الساحرة، فراشات من ضوء، وإلى صفصافة عاشقة حانية، يهدهدها نشيد متوارٍ بين الأوراق، لا يمكن فتح مسرب فيه، كما أقول، إلا بمصاحبة الموتى والأحياء الذين يصخبون في دارته الشعرية، وقراءتهم بالحتم، أو قراءة بعضهم في الأقل.
ففي تجربة السرغيني الشعرية الشامخة، اللاَّسعة واللذيذة ، في آن، يحضر هيرودوتْ شيخ المؤرخين طُرَّاً، وتحضر ملاحم الإغريق العتيدة، والشاعر فرجيلْ، وأوفيدْ، والكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد، ومقالب « الصَّذوقيين»، و» الفرّيسين» اليهود، والأساطير، والمتن الخرافي، وشعراء العصور واللغات، والمتصوفة، والفلاسفة ك: أفلوطينْ، وابنِ سينا، وابنِ رشد، وملتونْ، والمعري، وابنِ عربي، وأبي حيان التوحيدي، وابنِ سبعين. كما يحضر التشكيليون والموسيقيون والمغنون العظام من كل دوحة ولغة ونسب. وتَحْضُرُ العلوم المختلفة من طب وهندسة، وآلة، وسحر، ومخترعات قديمة وحديثة، وفلك، ورياضيات، وتنجيم، وكيمياء، وفيزياء. وتحضر الجوامع والصوامع والأبواب والجسور، والمدافن، والمقابر.
والعالم، في منظور السرغيني، على عظمته، ضئيلٌ، والكون، على وَساعَته، ضيقٌ. والأرض، على امتدادها أو لولبتها العظيمة، إسفنجةٌ تَنْعجن في يد الزيّات، إذ يختطفها بمهارة صقر، ويطفئها في « جفنة» زيت. والإنسان عابر سبيل ميتٌ مادام سيموت: عقباه التحلل والتذرر والهباء. لكنه بهيٌّ في هبائه، عسيرٌ على السهل، مُحاذٍ للتل، قريبٌ من الجبل، أرضيٌّ وسماويٌّ معاً، طائرٌ في الأجواز، عالقٌ بالمجرات البعيدة، ذاهبٌ وآيِبٌ خلال العصور، ومشدودٌ، على رغم كل هذا، إلى السفح والوتد، والأسباب المهترئة، مشدود، بكلمة واحدة إلى: الطين والوحل.
وَها هو ذا، ها هو الآنَ، في ذروة جماله وجلاله، ورهبة صمته وسفره، يكتب قصيدته الكبرى، غاديا إلى طفولته، ورائحا منها مثل طائر السيمرغ، مترحلا ساريا بين الصبا والشباب، والكهولة المكتهلة، وصولا إلى الشيخوخة الذهبية حيث يحيط به مباركا وهاتفا ومنشدا: تاريخ فاس وعبق ميتافيزيقاها، وجموع الشعراء حاملي مرايا العصور، وصنَّاجات الدهور، يشقشقون بآي المديح، وعبارات التبجيل والتكريم، وقد حَبَّروا بدم الشعر الأخضر المُهْراق، عمراً سرغينيا ملفعا بالبهي الشهي، ومكتنزا بالعطاء العلمي، والخلق الإبداعي، والحضور الراسخ المهيب.
هو الآن في برجه الذهبي، وعزلته المهيبة، عزلة اختارته ولم يخترها هو المعروف المشاء، والمعلم المشهود له بالمخالطة والمنافذة، والمواشجة، والرأي السديد، والعلم الغزير. يعيش عزلة الشعراء الملكية، ولو أنها عزلة الشيخوخة الظالمة كما سماها الراحل الكبير عبد الكريم غلاب. بعد أن ملأ الحوض، وبذر البذار، وغرس الغراس، وأشعل شمعة أبدية الذبالة دمعها لا ينفد، في معتم الغاب، ومظلم الدروب والحواري، ومدلهم الأيام والأحقاب، وفي مآقي الشعر العميق المرفود بالثقافة والمعرفة العريضة، وثاقب النظر والاستبصار.
نبدأ أطفالا صغارا لا نلوي على مجريات الحياة المعقدة الموتورة، ودنيانا الفانية الغارقة في الشد والجذب، الممرورة في التفاهات والخزعبلات، والمنغصات. ونعود، من حيث لا نحتسب، إذا امتد بنا العمر، إلى تلك الطفولة المشربة والمضمخة بكل ما هو ضحك ولهو وغناء ولا مبالاة. وقد عاد محمد السرغيني إلى الطفولة الجذلى اللاَّهية سويا، لا يهتم بما يدور من سفاسف الأمور، ولا بالسباق نحو الريادة والقيادة والزيادة، وقد نال منها حظا عظيما، ونصيبا وافيا عميما، وغنم غنائمَ لم يغنمها غيرُه عددَاً ومثلا.
وليس أعظم من أن نعود في شيخوختنا وقد هزلنا، ونال منا الدَّهر والكَسْرُ والوَعْثاء والعياء الوجودي، وعبء أحمال الحياة، وأثقال المعاش، إلى الطفولة الرائقة من دون أن يهدنا المرض، وتنهشنا الأوجاع، أن نعود أطفالا أغْراراً تملؤنا البهجة، ونَغَصُّ في كليتنا بماء اللاّمبالاة، وعدم التفكير في ما هو آت. وتلك نعمةٌ لا تعادلها نعمةٌ، نعمةٌ أن نعودَ إلى بدْئنا، إلى مجيئنا، وتَخَلُّقنا خطوة.. خطوة، وتشكلنا عَلَقَةً.. علقة، ومُضْغةً.. مضغة حتى نتماهى بالقصيد الخام، القصيد الجُذْمور، القصيدِ الطفولي البريء الهنيء الخُلْو من مكر المساحيق، وثعلبية البلاغة، وذئبية التحكيك والتجويد، إذ أن القصيد الطفولي المقصود هنا، هو الذي يشدنا إلى التراب، إلى الصلصال، ملفوفا في مشيمة النشوء والتكوين، محفوفا، بما لا شك معه، بباقي الأُسْتُقْساتْ، عَنيتُ: الماء والهواء والنار.
هكذا يكون، وقد كان، مصيرُ الكبار الجديرين بالحياة الأبدية، الحقيقين بالمباركة والإكبار، أن يعودوا كما جاؤوا أطفالا شعراءَ مغسولين من دَنَس المادة،، مخفورين بقدس الروح والمثال. ومحمد السرغيني حلقة ماسية في سلسلة التُّرابيين الفانين، لكن الجديرين بالذكر والتذكر، والتاريخ السائل كالنهر الخالد، والأبد السرمدي.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 10/03/2023