أصداء أصوات غافية .. العالم أعمى من دون شعرائه !

ماذا يستطيع الشعر فعله هنا والآن؟. ماذا بمقدوره أن يضيف إلى عالم تبنى طريقة أخرى عنوانُها ومحَجَّتُها: تكنولوجيا الصورة والرقمنة والمعلوميات، والذكاء الاصطناعي.ونَهْجُها: القوة في كل شيء.. في الاقتصاد.. في السياسة، وفي الرأي الواحد والوحيد، مما أفضى إلى العولمة مُبلَّرَة في تصدير قيم معطاة ومعلبة؟. ومن ثمة، هل يستطيع مع الإبداع عموما، أن يسهم في فك الحصار عن كوى الضوء الباقية التي تفضح الطغيان والغطرسة، وتشييء الإنسان؟.
هل بمكنته أن يلقي الحصاة، وينفذ إلى ما وراء الدوائر والأشكال، ويَسْبِر، بالتصميم والإرادة، العتمات والمجاهيل، ليرجم بالورد والعطر والندى، طيور الدم والسماسرة، ومشعلي الحروب؟. ألا تقودنا هذه الأسئلة –بعيدا عن الإضمار والإلغاز- إلى الكلام عن رسالة الإبداع، وبالتالي، إلى مراجعة ما تكرس من مفاهيم متجاذبة متنابذة عن كيفيات وماهيات الإبداع؟، وطرق التواصل و التوصيل، وأسس التلقي والاستقبال؟.
لكن، أليس لهذه الرسالة من أقنية أخرى، ومجالات تفعيل وتصريف مختلفة، لعل أهمها الصحافة والإعلام والمقال والتعليم.؟. ثم، كيف تَشَكَّل الشعر، وانْبَنَى وتبلور في العصور السحيقة حتى نعود إلى النشأة وإلى الطفولة البشرية !. وهل للشعر حدود إبستمية مرسومة بالطباشير، وذائقة موروثة متفق عليها، ومعايير مقعدة نركن إليها غِبَّ الخلاف والاختلاف؟. وفي الألسن والجغرافيات المختلفة كلها، ألم يعتبر الشعر الحق سحرا، وضوءا منفلتا هاربا متمنعا على القبض؟. أليس خلود الآثار الشعرية الباذخة المخترقة للأزمنة والأمكنة، تلك التي تلتمع في ليل الحضارات حداثة واختلاجا ترتعش كلما لمسناها، وتسكرنا بالطيب كلما فَرَكْناها، متأتيا من ديمومته وبحضورها، وجمرتها المتوهجة، ومائها الزُّغْرُب الدافق، وضوئها المتلألئ الملفوف في مَشيمة من أثير وهواء ونور؟ !
أي رسالة بَلَّغَتْ تلك الأشعار فادحة الجهد والمعاناة والوحي والنحت والبناء، إن لم تكن رسالة الجمال والمحبة والخير والسلام، والرعشة الأشهق بالحياة من أجل الحياة؟ !
ومن الغريب أن تستمر كثير من الدعاوى المعطوبة –في ظني- مطالبة بالوضوح، وتقريب المأتى، والإنصات إلى الواقع المنكسر من أجل عكس نتوءاته وتضاريسه في النص، وفقا لعمود يابس، وصور تكلست بفرط الاستعمال والوَطْء، وبلاغة عجوز بَلْهَ حَيْزَبون تتكئ على مَنْسَأة منخوبة ومهترئة، ولغة تهتف قبل أن تفكر، وتُبَوِّقُ بالشعار والخشب والانتصار الوهمي الاستمنائي على عدو موهوم.
يحدث هذا عندنا –في العالم العربي- ويسري التصور إياه، وذلك مكمن الخطورة –إلى مناهج التربية والتعليم، مما يترتب عنه، فصام معرفي ولغوي وفني، في آخر المطاف، وتتحدر منه: فئوية اجتماعية منقسمة متذررة تختلف في الثرثرة والميوعة، أكثر مما تختلف، في الواقع، على مشروع مجتمعي واضح أو مغبش المسالك والشعاب والأهداف؛ وتلك أحد مطبات السياسة التعليمية، وجريرة أصحاب القرار، سدنة الماضوية والبالي والمتآكل، وأعداء التطور والانفتاح والتفاعل الحي بين بني الإنسان.
ألم ينتبه هؤلاء السَّدَنَة.. حُرَّاس الغبار، إلى أن الحداثة تغلغلت فينا نحن الهاتفين بها كما تغلغلت فيهم –الكارهين لها- وإنْ على إيراد واستيراد ومجلبة؟. المهم أن الأمور أخذت طريقها وأصبحت ملء السمع والبصر والحياة والمعيوش، المهم أن نواصل التحديث الواعي والتجديد بعيون واسعة يقظة منتشية لاَ عَشْوَاءَ ولا مُنْبَهِرة، وأن نرهف السمع، ونرهف القراءة والمتابعة لنستحق راهننا بَلْه عصرنا ووجودنا.
لقد آنَ أَنْ يعمق الشاعر اتصاله الحميم بالعالم، بالإنسان، بالأسئلة المطروحة، بكينونته وأبعاد هذه الكينونة، بالتجارب الكونية في الفلسفة والعلوم، كما في الفكر والإبداع عموما. ذلك أن هناك تجارب بالغة الغنى والثراء والإدهاش شعرا ونثرا وتشكيلا وموسيقى. ولا يظن اُمْرؤٌ أننا نقطع الحبل أو نرومه مع تجربتنا التراثية الشعرية والفكرية المضيئة، وكيف السبيل إلى ذلك، وهو دمنا ونبضنا الذي به حياتنا؟ !
سيظل الشعر ضرورةً وجوديةً وجماليةً ما ظلت الحياةُ، لأنه ضؤوها، وأحد أنساغها، وبما أنه كذلك، فإن قسطا من الاعتكاف والاستغراق فيه، وإعلان المحبة والعشق له، موصل إلى التقاط رَعْشاتِه واختلاجاته، وَمُفْضٍ إلى أغواره وقيعانه حيث الوجودُ والذاتُ مسطوران، والقلق العاتي مستعلن ونابح، والماء مندفق وسلسبيل. كل شعر لا يقول الوجود والقلق والحب والموت بالمعاني كلها، والأنا المشطور المذبوح والمتجدد، والذات في انسحاقها اليومي وتراجيديتها، مآله الخسران والنسيان في غمرة التبدلات المَهُولَةِ، والإبدالات المتسارعة، والزحف الزمني. ذلك أن ما يبقى هو الجوهر في الشعر – كما لا نحتاج إلى بيان- هو الاستجابة الأولى والأخيرة لنداء الذات وإيقاعها، ونداءات الشعر وأجراسه. وإذا كان الشاعر العظيم «هولدرلن» قد قال: «إن اللغة أخطر النعم»، فقوله هذا مدعاة إلى التسبيح، وتمجيد هذه النعمة الخطيرة، والحرص –كل الحرص – على صيانتها وصونها لإمدادها بالجهد والحب والشغف والمُدارَسَة.
ثم علينا أن نتمثل قول الشاعر الخالد «رامبو» الذي أدرك باكرا عمق إضافاته للشعرية العالمية، وأدرك قيمة ابتداعِه التاريخيِّ :
«ابتدعتُ أزهارا جديدة ونجوما جديدة، ولغاتٍ جديدة».
وختاما، أسوق للاعتبار والتدبر مقولة الشاعر الأوكراني فيتالي كوروفيتج:
«لقد قُدِّرَ للكُتَّاب، في عالمنا السريع التغيير، أن يكونوا عيونَ كوكبنا، فالعالم أعمى من دون شعرائه، وليس هناك ما هو أكثرُ إخافةً من هذا النوع من العَمَى !».


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 02/05/2025