أصداء أصوات غافية .. الكتابة الصوفية: عين النقطة ولغة الروح

يطمح الشعر إلى ما به تنجاب عن الواقع، حُمَيّا الصراعات والاقتتال والاحتراب، والكراهية والحقد، إلى سريان المحبة والتسامح، والاختلاف الغني الخلاق بين الثقافات والحضارات، إلى استنبات قيم الحق والعدل والخير والجمال في أركان وأطراف المعمورة. مطيته في ذلك، الحلم والمراهنة على آدمية الإنسان بوصفه مزيجا من طين ونور، وحس وحدس وشعور، مادة وعقل، وعنوان هشاشة طبيعية ووحشية في آن، ما فتئت تهذبها الأديان والفنون والآداب والأخلاق، والقيم الحضارية المتأصلة المشبعة تثاقفا، واحتكاكا، وتصويبا وتثقيفا.
ويطمح – من جهة ثانية – إنْ لم تكن الأولى، إلى النظر إلى الواقع بمسبار العين الثالثة التي تحدث عنها الفيلسوف نيتشه، أو بالعين المجردة وحسب، العين اللاقطة، المتوهجة، والمتسللة إلى مفارقات الأشياء والعلائق، المكثفة والمختزلة، أوالباسطة المُفَصّلة للوقائع والأحداث التي تقع عليها، فتحولها إلى ما ينبغي أن تكون عليه، أي إلى حلم متوفز، وطوبى لاَزَوَرْدية.
كما بِمُكْنَةِ الشعرـ باعتباره ذوب المواجع والأحزان والأفراح، ونبض النفس والإحساس والشعور، وحاصل المعاناة والتجربة الروحية، والخبرة الحياتية ـ أن يرتقي ويسمو عن الأرضي، عن الزائل، والمادي الحيواني، ويرنو ـ بالتالي – إلى الأعلى، إلى السماء، إلى الملكوت الأعظم المترامي، وإلى شجرة الخلد.
ولم يكن الشعر أو الكتابة بعامة لدى الصوفية، بِدْعاً من كل هذا، وخروجا على ما قدمنا، وإن كانت الكتابة تَبَنَّكَتْ على أيديهم، صعيدا أعلى، وقُنّة تصويرية، ورمزية أبعد، وأعوص، وأغرق في المجاز والاستعارة والرمز. وما ذلك إلا لأنها كتابة نفس متشوفة، وذات محترقة، وأنا مشروخة ومتشظية، وتطلع مستحيل، ورُنُوٍّ هوائي وأثيري يكاد يفارق التراب على رغم غوص قدميه فيه. ما يعني أن الصوفية العرفانية وهي تشرئب بجماع بدنها وروحها إلى المتعالي، ظلت مشدودة إلى الواقع. وربما أن سبب اتقائها وتجاهلها، وتعمد نسيانها في الأعصر الثقافية العربية الفائتات، يكمن –أساسا- في هذا، في تلك المفارقة والغرابة والإدهاش الذي خطته ورسمته، واجترحته حتى تماهى مع لغة الوجد والإشراق، ولغة القرآن.
ومن ثم، فالفضل في رفع الحُجُب عنها، بما هي لغة أخرى، كتابة مثيرة لاَتَني تتجدد عند كل قراءة، وتنهض مُدَوْزَنَة مثقلة بنفائس الثمار الذهبية المُدلاة من أشجار المعرفة الغيبية والشهودية، الفضل يعود إلى المستشرقين، وإلى أدونيس من بين آخرين، من ناحية أخرى، الذي صعقه ـ كما يحكي ـ ما قرأه لعبد الجبار النّفّري من «مواقف ومخاطبات»، وهو الكتاب الذي صادفه من دون موعد ولا بحث ذات زمنية بهيجة، وعبر عن شعرية الكتاب الفذة، ولغته النبوئية غير المسبوقة بقوله: (لا أعرف كيف أصف دهشتي حين قرأته. أعرف أنني شعرت، وأنا أقرؤه، أنَّ لِمَا أقرؤه فعل القتل: قتل معظم الشعر الذي سبقه، ومعظم الشعر الذي أتى بعده، هكذا أدركت أنني أمام شاعر عظيم).
هكذا – ومنذ الصعقة الأولى- ينتصر أدونيس للكتابة، للغة غريبة المبنى والمعنى، عارية من المجاز ومدثرة به، بمجاز يعجز المجاز الموطوء عن الدنو منه، ومماهاته. واصفا لغة الكتاب بالشعرية الباذخة، مُطْلِقاً– مُذَّاكَ- فكرة إمكان إنجاز نص شعري من خارج الوزن، نص ينأى بنفسه عن عمود الشعر العربي، فيما هو ينصب أعمدة أخرى شعرية.. لا تتصلب، بلْ تلين، وتتفتت، وتتذرر، وتنصهر كلما اقتربتْ من الشعلة المقدسة، شعلة أن تقول باللغة ما لا ينْقالُ، وأن تكتب بها ما لا ينْكتِب.
إنها كتابة جديدة لها سطوة القتل، أي سطوة المحو.. محو السابق عليها، واللاحق بها من غير طينتها، ومحتدها، وأرومتها، وجينالوجيتها، وأُسِّها الصوفي العرفاني المنقوع في ماء الحدوس والأسرار.
عُرْيٌ في بياض ناصع، مُحالٌ التحديق فيه، كمثل حقل مُزَجّج مثلوج يتراقص بين يدي صحو ماحق، وشمس ذهبية ضاحكة. لغة أشبه ما تكون بذلك المطر الذي وصفه أبو تمام وصفا شعريا بديعا :
مطر يذوب الصحو منه وصحو يكاد من الغضارة يمطر
وبالإمكان، تعميم فعل القتل الأليغوري، والرمزي، والاستعاري، الذي عَناهُ أدونيس، على جل ما كتبه الصوفية، من حيث إن كتاباتهم بَدْءٌ دائم لا يني يبحث عن بدئه، وتعالٍ مُحَلّق ما ينفك ينصعق بشُهُب السامي المتسامي، والعُلْوي السماوي، في جدلية محكمة، وضفيرة معقودة مع جوّانية سحيقة الغور، يغشاها نور العرفان، وضوء الشوق والعطش، والتشوف، والريحان.
لهذا، وبعد الكشف عن مخبوء تلك الدرر الكتابية، والفصوص الشعرية، والنصوص الإنسية – الإلهية، وبعد وضعها رهن إشارة التلقي، وتقديمها للملإ والنخب المثقفة، أمكن الحديث عن مجهول نسبها، وانتسابها وانتمائها، إذ لا بجدة لها ولا سلف، لا قرطاس ولا لوح محفوظ، ولاَ ماضٍ عَضُود، ما يعني أنها انكتبت بالدم الشخصي، والومض الروحي، والإلهام العرفاني، والمجاهدة حتى حدود شفوف العظم، وانخلاع اللحم. وما يعني أيضا، أنها انكتبت في الظلال الخاصة والمخصوصة، والمفارقات، والبياض المُواتي، والاختلافات التي شاءها هؤلاء العارفون، أهل الله والليل والعشق والوجد والشطح، وأهل البصر والبصيرة والحدس، والمعرفة البعيدة الغائرة والمتكثرة.
فكتابة الصوفية.. هي كتابة أحوال ومشاهدات ومواقف، وأسرار، واتحاد، واتصال وفناء. كتابة يبني بها الخيال الخلاق ما يدهش الخيال نفسه، وهي تغوص عميقا في أدغال وسراديب النفس اللّوّامة، وتسبح في الملكوت الأعظم، متحررة من أثقال الأرض، وأصفاد الشهوة، وأعباء الدنيا الفانية، والبدن الصائر إلى فتات ورميم ودثور ونسيان.
ولعل غموضها والتباسها مُتأتٍ من كونها كتابة غواصة، وشعرية عرفانية، تقوم- في أعلى نماذجها- على ما أسْماه المفكر (هادي العلوي)، بالتذاهن الذي يقترن عند الصوفي بالندية حيث ترادف الأنا مع الهو. إنه التذاهن، أو التنافذ التراسلي الذي يجعل من الشعر مقام إشارة حيث لا يدرك المعنى إلا بالمجاهدة والمكاشفة والمحو والقلب. إنها تلك الإشارة التي تمحو المعنى، بل معنى المعنى كما عبر عن ذلك عبد الجبار النفري:
(وقال لي : «إشاراتي في الشيء تمحو معنى المعنى فيه، وتثبته منه لا به»).
وهو طريق الحب الغامر والشامل الذي هو أصل الوجود فيها يذهب الشيخ الأكبر ابن عربي، حب الخروج من الكنزية التي أشار إليها الحديث القدسي : (كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف). لكنه التعريف على التحجيب لا على المكاشفة، لأن في المكاشفة إفشاء وبوحا، ونشرا، ومن ثم، ابتذالا، وتسطيحا،وترصدا وقتلا، وهو ماأوْدَى بالحَلاّج لأنه باح بالسر العظيم والمكنون :
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني فإذا أنت أنا في كل حال
«والحب، لدى الصوفي، فيما يقول آيةْ وَارْهامْ بَلْحاجْ، كيمياء كونية، لها بلاغة التشميل التي ينصهر فيها الكل، وتنصهر فيه. ومن ثم، كانت قوته الإيروتيكية التي لا تقتصر على الأنثى فقط، وإنما الطبيعة والكون بأسره لأنه من جمال الله».
فهذه الكيمياء الكونية التي يتحدث عنها آية وارْهامْ، تحضر كمستويات عرفانية في متنه الشعري هو تحديدا، كما حضرت بلبوسات وهيئات وسمات أخرى في شعرية أقطاب الصوفية كالحلاج والبسطامي وابن عربي والنفري، وابن سبعين، وعبد القادر الجيلي، وأبي مَدْيَنَ، وابن عطاء السكندري، وآخرين، وهي عرفانية تعضدها انشغالات هرمسية.

فالإلهي مداره على موضوعة: «العشبة اللَّدنية». وأما الروحاني فمداره على موضوعة: «أهل الشهود». بينما ينسحب الطبيعي على موضوعة : «عين النقطة».
غير أن الأمر لا يستقيم لهذا التبسيط المُخِلِّ، إذ أن المستويات إياها، والموضوعات المذكورة، تتداخل، وتتوالج، وتتعالق في الكتابة الصوفية.
ومرد ذلك إلى تلازم واندغام هذه الأقانيم الثلاثة في شرعة الصوفي حيث يصطنع المرأة والخمرة، وعناصر الطبيعة المختلفة، ذريعةً إلى الوصول، وسبيلاً لاَحِباً إلى جَسْدَنَة المثاليات، وَرَوْحَنة الماديات بما هي قوام الوجود، والموجود، ودليل على الحضرة الإلهية المشخصنة عبر الجميل والجليل، والفاتن، والآسر : (فالجمال هو التجلي الأسمى، بيد أنه لا ينكشف من حيث هو كذلك إلا لحب يقوم بتحويله. والحب الصوفي هو ديانة الجمال، لأن الجمال سر التجليات، ومن حيث هو كذلك القوة المحولة).
إن الكتابة الصوفية ثاويةٌ–بما لا يقاس- في المتن الشعري الحداثي، داوَرَها الشعراء العرب الأفذاذ، وساروا بها إلى تجديد وصهر، وانخراط في بناء المواقف، حيال الناس والعلائق والعالم، كما ساروا بها إلى معراج لغوي شهودي، وَتوَقُّل عرفاني وميتافيزيقي. غير أن البعض مِمَّنْ لم يصلوا العتبة، ولم يَسْبِروا أسرار اللغة، ويبلغوا مقام الالتذاذ والانتشاء بها، يَدَّعون أنهم يكتبون نصا عرفانيا، نصا صوفيا وغنوصيا، بعيد المأتى، سحيق الغور، يلتمع بضوء وومض المشاهدات، والتوقل والترحل من حال إلى حال، والحال أنهم عند الباب الخارجي يقفون حتى وهم يرصعون كتاباتهم بنتف وشذور من شعر الأقطاب العارفين، والشعراء الواصلين،ويؤثثون مكتوبهم بأسماء مُبدَّدة ضمن النصوص في إطار ما يسمى بالتناص، وهو أقرب ما يكون إلى «التلاص»، إن لم يكن هو هو.
ذلك أن من لا يَتأَيَّدُ بتأييد الحضرة العلية الأرفع، «لا يخرج من ظلمات الحواس، ولا تصفو له شهوات الأنفاس»، حد تعبير الشاعر آيةْ وارْهامْ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 12/07/2024