لكن، كيف نقبض على الأشعري؟، من أين نأتيه، أمن الشعر أم من الرواية، أم من المقالة، أم من السياسة والوزارة، أم من التدبير الإداري، أم من الصحافة والإعلام؟
متعدد الصفات والتسميات والألقاب، غير أن صفة واحدة مركوزة يتسم بها، تلبسه ويلبسها، بل هي جلده، فكيف يخلعها، وعليها مدار كتاباته ومسارات مسعاه الإبداعي والثقافي والنضالي، ومساراته المتقاطعة؟ تلك الصفة هي الشعر. فمحمد الأشعري شاعر في البدء والمنتهى. شاعر في شعره، وشاعر في قصه ورواياته، وفي مقالاته ( أعمدته الذائعة: عين العقل )، وفي آرائه ومداخلاته، وشاعر في لطائفه وطرائفه وقفشاته. وشاعر أولا وأخيرا في إنسانيته وسلوكه وصحبته ومعاشرته. لم يذهب إلى الرواية مقلدا أندادا شعراء تخلوا عن الشعر وتزوجوا الرواية، حتى لا أقول: طلقوا الشعر، بل ظل شاعرا في هذا وفي تلك. ظل كاتبا جامعا بالمعنى الذي يعطيه ستيفان مالارمي وموريس بلانشو للكتابة. بل، أتته الرواية طوعا، هو الذي طَوَّعَ الشعر للحكي والسرد، وطوع السرد للشعر منذ أشعاره الأولى. فالرواية كانت كامنة حاضرة بالقوة بدءاً، ثم ما عتمت أن أعلنت عن نفسها بالفعل قولبةً وقالباً دُفعةً واحدةً أنجبتْ بدائعه: « جنوب الروح»، « القوس والفراشة» المتوجة بجائزة البوكر العالمية، « علبة الأسماء»، و» من خشب وطين» الخ. إنها الروايات البديعة الرفيعة التي يغمرها ماء الشعر. وبغير الماء، تجف عروق الإبداع أكان قصا قصيرا أو روايةً أو شعراً. ماء الشعر، سلاسة في القص، انسياب في الوصف الحاذق، تحكم في دفَّة الحكي والسرد كما يتحكم القبطان في دفة سفينته. أليس الروائي قبطانا يمخر عباب الأشياء والكائنات والعوالم الأرضية والفضائية؟، وانشراح وهواء في البناء والبنينة. إدهاش لغوي وجمال ينبع من سيطرة الأشعري ـ دونما استبداد وطغيان، على أدواته وميكانيزمات حكيه، والسير بها إلى الإمتاع والفائدة والإثارة. ( الإثارة بمعناها الفني والجمالي هنا ). وبذا، فهو يختلف عن غلاَّب بطبيعة الحال، وعن مبارك ربيع، وعن أحمد المديني، وعن بنسالم حميش، وعن الميلودي شغموم. بينما يقترب نسجا وإبداعا ـ مع حق الاختلاف ـ من زكريا تامر، وإدوارد الخراط، وعبد الكريم الجويطي، وفاضل يوسف. وأكاد أقول: إن مشروع الأشعري الروائي / السردي بمفهوم موريسْ تادْيي، يستبطن بحذق ما سماه سيغموند فرويدْ ب» رومانس العائلة «. فالرواية التي تفتقر إلى هذه الموضوعة الاجتماعية التاريخية والنفسية، والشريان الزمني الممتد، يعسر أن ننسبها إلى الجنس إياه. وبالإمكان ذكر روايات نجحت في استبطان ذاك الرومانس الذي يمنح للرواية الجدارة والأحقية في أن تنتمي إلى التاريخ دون أن تنتمي إليه في الآن ذاته. فالرومانس تحقق في روايات بلزاك وفلوبير وستندال، وبروست ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، وعبد الكريم غلاب، وإبراهيم الكوني، وأحمد إبراهيم الفقيه، تمثيلا. رومانس الرواية مع الشعر يُجَمِّلُها ويهبها أجنحة وفيئاً، وشجراً وماء. قالت الروائية الكورية الجنوبية هانْ كانْغْ الفائزة بجائزة مانْ بوكرْ العالمية، وجائزة نوبل في ما بعد العام 2024.» عندما أكتب روايةً، يتكون لدي انطباع بأن القصائد تجتاح عملي «.
سأقول مُجْمِلاً كلامي عن تجربة الكتابة لدى الأشعري: نحن ـ إذاً ـ بإزاء رجل فذ متفرد في إبداعه وثقافته. وبإزاء قامة أدبية بالجمع نعتز بها، إذ أن تجربة الكتابة لديه ( أقول الكتابة لأنها مزج بين الشعر والسرد فإذا هما واحد، إذا هما كتابة)، لم تكن يوما تزجية لوقت الفراغ، ولا أُلْهيةً ولا لَعِبا يختبر بوساطتها، مدى ثقافته، وعلو كعبه في الشعر، والقص والسرد والحياة. ولا كان من كُتّاب « يوم الأحد «. الكتابة الأشعرية منبجسة من روح قلقة حيِّيَة يقْظى، وإحساس وحدس، وعقل ورؤية ثاقبة، ورؤيا ضمت وعجنت وامتصت في تناص بديع، مراجعَ ومصادرَ وأشتات فِكَرٍ وطروس ومتون، لتنتصب تجربة إبداعية، كتابةً فارهة مستندة إلى خبرة منقوعة في اليومي والعابر، في الواقع والحلم، في الحقيقة والمجاز، وفي.. وفي.. وفي، ومتعالقة مع أصداء أصوات شعرية تَهُبُّ سعيدةً من الشرق والغرب، ومن الجنوب والشمال. هكذا أرى إلى تجربة صديقي الكبير محمد الأشعري. وهكذا قرأته وأقرأه. بل، كان من أوائل الشعراء العرب والمغاربة الذين قاربت تجاربهم الكتابية، وأفردت لها قراءة وافية ضافية أزعم أنها أحاطت بمسير شعره، ومسار تجربته، وتقاطعاتها وقطائعها التي شهدت بشكل يدعو إلى الإعجاب والدهشة، تحولا فنيا وجماليا نوعيا ومُلْفِتا. تحَوُّلاً وَشَى ويَشِي، ونَمَّ ويَنِمُّ لا اغتيابا ولكن محبة وإعراباً، عن نجاح الشاعر في صعود المَرْقَى الأسْنَى شعريا، واجتيازِ مضايقِ الشعر التي دُفِع إليها دفعا في مطالع السبعينات كما يجتاز المؤمن الصراطَ الممدودَ في الأعلى المتأرجحَ على نهر «ليثي»، نهر النسيان، والمشدودَ بين الجنة والنار. ويا ويلَ من زَلَّتْ به قَدَمُه.
في تعدد مساراته وتقاطعها، يكمن سر تفرده واحتياز إقامته السنية. أكاد أقول مقعده بين الصّديقين الشعراء الممسوسين والصالحين، وكذا الروائيين الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإلهام والفتح. وأجدني أقول عنه ما لم أقله يوما علانيةً، وإِنْ كنت صرحت به لأصدقائي في مناسبات مختلفة: من بين كل التجارب العربية الفارهة ذات العذوبة والاعتبار اللغوي والفني العالي، والجمالي الرفيع، فإن تجربة محمد الأشعري هي الأقربُ إليَّ، إلى نفسي، وقلبي وحسي، إلى جانب تجربة الشاعر أدونيس على ما بينهما من فرق في البناء والتخييل والتوصيف، والاشتغال على اللغة. وأظن أنه لا غرابة في الأمر، فالأشعار كَ «الضَّرَّات»، تنطح بعضها بعضا، وأن ثراءَها وجمالها ونوعيتها، تستكن في لا اكْتمالها وعدم تكاملها. في فرق الهواء والماء والشعاع. في من يبقى، وفي من يُزاحُ من دون ترصد ولا مكر وتقصد. شعر الأشعري كما سَرْدُه، لذيذٌ. رغوة اللغة الصافيةُ الملتمعةُ كعين ديكٍ في أول الفجر الفضي بشاطئ مهجور. شاطئ لم يطْمِثْ رملَه إنسٌ ولا جانٌّ. لغة ممتعة تنفذ إلى القلب لكنها شوكية مثل الورد الناعم الفاغم الذي يحرسه الشوك اتقاء اختلاس وخطف وترحيل. وما شوك لغة الأشعري سوى نتوءِ الواقع الجارحة التي تُدْمي أقدام الحب الحافيةَ، وتخنق النداءات الجميلة الغافية. أَلَمٌ أليمٌ يتخلل حرير لغته الثمينَ، وزَغَبها الضوئي الشَّعْشَعاني. تَضجَر الصورُ لحظةً بثِقَل ومواجع المرارات التي تَتْرَى، لكنها تنهض ـ بعدئذ ـ مغسولةً بالألق تترقرق باللاّزَوَرْدِ كأمْواه عينٍ مُتَبَجِّسَة في ركن رَكين بين فروج أحراش زاهية، وبين قمصان تلال وجبل زرهونْ. المرأة في شعر الأشعري مُخلَّدة ومُمَجَّدة: أُمّاً وصديقةً وحبيبة وإنسانا. ( آية ذلك: أشعاره الأولى ـ و» كتاب الشظايا»، و» أجنحة بيضاء في قدميها ). مخلدة مُطَوَّبَة عليها من أساور اللغة الذَّهبِ، ودِمَقْسِها الأبيض، وسندسها الأخضر الحريري، ما يرفعها ويُعْليها مختالةً مياسةً تمشي بين الطرائف والبدائع، تَخَتَضُّ حمرة شفقية أو مُرْجانية، تتبعها ناياتٌ وأجراسٌ. المرأة في شعره مصدرٌ ورَحِم وبعث وتجدد وآتٍ. ألم يقل الشاعر لويسْ أراغونْ مادحا حبيبته إلْزاتْرْيولِي، ومثيراً غضب « الفحول»: ( المرأة مستقبل الرجل ). من بين شعراء المغرب المعاصرين، تتبدى تجربة الأشعري الشعريةُ والكتابيةُ بالأحرى، « مُوارِبة «، بالمعنى الإيجابي طبعا. بما يعني: أنها متصلةٌ بالمتن الشعري المغربي في تحولاته وإبدالاته وخصائصه اللغوية، وفتوحاته الجمالية. تخدع بالتشابه الشعري في تنوعه، واللحن الأساس وهو يتشعب ويتوزع إلى مقامات وطبوع بالمعنى الموسيقي، ومنفصلة ـ في الآن ذاته ـ رغم انتمائها إلى الأرض والشمس والسماء والإنسان أولا وأخيرا؛ وإلى أفق التجارب السابقة والمحايثة والمشاءة. غير أنها تنفرد ب «منطقها» الشعري، وب «عقلها الميتوسي»، بتجربة صاحبها الثرية: الشعرية والروائية والسياسية والثقافية والوزارية والإدارية والصحافية والسجنية.ولعل تعددها هو ما يَصِمُها ويَسِمُها ويدمغها بالفرادة والغنى، والمزية والتميز والامتياز. الأشعري مثيرٌ في شعره، وفي سرده من: « يوم صعب « إلى يوم الناس هذا. ومثير في مقالاته الذكية الساخرة الحاذقة التي أدارت الرؤوس، وأصابت في مقتل، أوكار النموس. مثيرةٌ أعماله/ كتابتُه بجمالها. تمارسُ سطوةً على متلقيها مثلما يمارس الجُوري والأورْكيدْ واللّوتِسْ سطوته الجمالية علينا، فيشعرنا بآدميتنا فعلاً، وبأن لنا أرواحا قدسية، وأذواقا هفهافة ومرهفة، نستحق الحياة، ونستحق توصيف الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراس، فينا، بكلامه القائل: « الإنسان مقياس كل شيء «. وإذا كان الإنسان كذلك، فالبرهنة آية بيِّنة على ذلك، أيْ: أنه المبدع المطوّع والسيد في الكون.
تنويه:
الورقة هذه، جزء من مداخلتي في الندوة الاحتفائية النقدية والأكاديمية التي تناولت بالتحليل والحوار تجربة الشاعر والروائي محمد الأشعري الغنية ذات المسارات المتقاطعة. وهي من تنظيم جمعية أصدقاء المعتمد الشاونية العتيدة والنشيطة، تندرج ضمن برنامجها الثقافي: ( في حضرة المعتمد )، كان ذلك يوم الثلاثاء 20 ماي 2025، بالمركز الثقافي – الهوتة ـ وسط المدينة العتيقة ).