أصداء أصوات غافية ..صــرخــــاتٌ من أقصى اليأس والعذاب

ثمَّةَ فرقٌ في المعنى والدلالة، والبعد اللساني، والبناء الصوتي الطالع من أعماق ودفائن الذات، والنفس البشرية، ثمة فرقٌ في المعنى لا في الحالة الناشئة المشتركة من وجوه، بين الصيحة والصرخة. فبينما تفيد الصيحة ـ في أقرب معانيها ـ النداء العالي، النداء التحسسي الموجه والقيامي، والصوت المدوي المباغت والفجائي بغية تحذير أو استنفار، أو إطلاق نَذْر من النُّذُر، فإن الصرخة ـ في أدل مداليلها ـ تعني إطلاق كل ما تختزنه وتنطوي عليه النفس الآدمية من آ لام ومواجع، وفواجع، ولوعات، وارتعابات، عاليا، عالياً حتى تتصادى لها الجهات، وتهتز العقول والوجدانات، ويخْتَضّ الضمير الإنساني إذا بقي فيه نبض ما، وإحساس بشري ما، بأن الأمر جِدٌّ كل الجد. فهي نداء داخلي بشري خائف ومخيف منبثق من الأعماق، يشير إلى ان المصيبة حالَّة أو قادمة، والغيوم السوداء الفحمية، أو الصفراء الكبريتية تهدد بإنزال ونشر حقينتها ومكنوزها بين لحظة وأخرى، أو هي تفعل ولا غوثَ ولا مُغيثَ، ولا طوقَ نجاة.
ولأن الكلام ومختلف التعبيرات اللغوية واللسانية، والفنية والأدبية والفكرية، لا تَفي ـ في أحايين كثيرة ـ بالمراد مهما أوتي مبدعوها ومُحْدثوها ومفكروها، من آي التعبير والبيان عما يمور ويغلي، وعن الخراب العام، والموت البطيء الذي يكسر أعتى الأفئدة، وأصلب الظهور، والخواء الروحي الهائل الذي يَرِنُّ ويَطِنُّ في جنبات الكون، كاشفا عن موت الإنسان المعنوي، وانتحاره المرئي واللامرئي، فإن الرسم يفوق في هذا المنحى وذاك المجال، آلاف القصائد وآلاف المسرحيات، وآلاف الخطابات النادبة المولولة، وبخاصة إذا كان أبلغ وأنفذ، وأعلى « فصاحة «، وأشد تعبيرا وكشفا عن حرائق الذات، والنيران التي تحرق ـ دونما هوادة ـ أشياء العالم والكون والإنسان.
من هنا، فإن لوحة « الصرخة «، عمل فني رهيب، واضح وخفي، جلي ودفين، مُعْتِمٌ ومضيء، جارحٌ وقاسٍ، وخاضٌّ للدواخل والبواطن، وراجٌّ للضمائر والنفوس والأفئدة، والعقول. لوحة « يملؤها « إنسان معزول ومخذول، منبوذ، خائف، متوجس، ومرتعب من رؤية ما وقع ويقع. شخص ضئيل هزيل منطفيء الهيئة، ممسوح الشكل كأنه شبح يتوسط ألوانا كابية باكية. ومع ذلك « يملؤها « وذلك سر قوة اللوحة وإبداعيتها، وخلفه شخصان هلاميان شرسان. لعلهما مجرمان يتعقبان الصارخ الملتاع، ينويان به سوءا وشرا، ويتقصدان محوه، وتكميم فمه المفتوح عن آخره، إذ أنه فاضح وكاشف، ومُنَبِّهٌ على الجريمة الكونية التي يقترفها الطغاة المستبدون والمتنفذون الذين يحصدون الأرواح كما يحصد المزارعون السنابل الناضجة.
لا ينبغي أن ننسى أن الزمن زمنُ حرب كونية مستعرة لم تبقِ ولم تذرْ لوَّاحةً للبصر. أتت ـ كما نقول ـ على الأخضر واليابس، على الشجر والحجر والبشر، فإذا الأرض يبابٌ كما عبر الشاعر ت.س إليوتْ، وإذا ما يحدث ضد إرادة البشر، وتوقهم إلى السكنى الهادئة، والتساكن المريح، هو من صنع أشرار مخفيين كامنين لنا في كل منعطف ودرب، وثنيَّةٍ وركن وزاوية، كما صور ذلك باقتدار فرانزْ كافْكا. أو أنه جنون بلا ضفاف، جنون هادر أصاب بسيله ولوثته الكل، فاستشعره الضعفاء الأهشاش من الناس، استشعره ذوو الإحساس الرهيف، والقلب الضعيف، وفي طليعتهم: الشعراء والتشكيليون، والموسيقيون، والروائيون، والمسرحيون. استشعره ـ تمثيلا ـ كل من هولدرلين، ولوتريامون، ورامبو، وتراكلْ، وأرْطو، وفانْ غُوغْ، وروسو، ودوسادْ، وإدْغارْ آلاَنْ بُو، وبوريسْ فْيون.. الخ.
هؤلاء وغيرهم كَ: إيديتْ بْيافْ، وجولييتْ كْريكو، وجاكْ بْريلْ، ولْيو فِيري، وبْراسَنْزْ، وإيفْ مونتانْ، وشارلْ أزْنفورْ. فضلا عن عازفي الجاز الأمريكي، والبلوز، والروك أنْدْ رولْ، وموقِّعي الرقص والغناء الإفريقي الطَّوْطَمي الطَّمْطَمي المَهيب، والموسيقى اللاَّمقامية الأوروبية ( سْترَافِنْسْكي نموذجا ).، من دون أن نغفل دور المدارس الفنية والأدبية التي كانت مرآة مجلوة ومشروخة، معبرة تعبيرا هائلا ومدوخا عن انسحاق الإنسان تحت وطأة الإنسان، انسحاق قيم الحب والخير والعدل والجمال في تاريخية قاتمة دموية مشهودة، أفرزت مواقف الشجب والإدانة، والكتابة العارية والصارخة والمدوية، من غير إخراس جذوة الفن والجمال اللذين هما عمدة الأعمال الإبداعية.
لقد كان دور السريالية ومن قبلها الدادائية، دورَ الصرخة الإبداعية في وجه القبح والبشاعة، والشر في مختلف تجلياته وإضماراته. صرخة فضحت استبداد المؤسسات، وتشييء الإنسان، وتعليب القيم، وتسويق الأكاذيب، وتلميع السقوط الحضاري، وتبرير الحروب المجنونة الرعناء والغير المفهومة، من حيث إفراغها الأعمال الأدبية السابقة المهادنة والمستنيمة، من تهافتها وأضاليلها، مبرزة خطل تصوراتها، ومؤامرة أصحابها لمسايرة المؤسسات العمياء الظالمة الغشوم، وسَوْق مسوغات قبولها بشكل أو بآخرَ.
وإذا استرسلنا، فإننا سنشير ـ بالتأكيد ـ إلى الكتابات الفلسفية الكبرى، وإلى الأدب الروائي والمسرحي العدمي، وإلى الوجودية « الملحدة « السارترية والسيمونية في الفلسفة والأدب. وإلى كولنْ ولسونْ، وهربرتْ ماركيوزْ، وصموئيل بيكيتْ، وأداموفْ، ويوجينْ يونسكو، وأرَابالْ، وجونْ أوزبورنْ، وبيترْ بْروك، وأرْثَرْ ميللر، وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان، والمسرح المغربي الهاوي في بحر السبعينيات من القرن الماضي.
إن « صرخة « الفنان العالمي إدوارد ْمونسْ التي رسمتها في لحظة إشراق وانخطاف، و» إلهام « إبداعي، أناملُ سحرية، أنامل « إلاهية «، استوحت من العُلْوي النار والرماد والنور، والمعجزة الفنية. استوحت، في لحظة عزلة موحشة باردة ورهيبة، ألما أليما، وَوَجَعا عاتيا ممزِّقا، كابَدَه إدواردْ كما يكابده كل العباقرة / المجانين، في الفنون والآداب والفلسفة.
صرخة يرى نفسه فيها، الموجوعُ الصامت، المُهَجَّرُ والمشرد، والمقهور والمظلوم. صرخة الجنود في حرب لا معنى لها. وصرخة الهاربين المتوجهين إلى أوروبا أمام أهوال البحار والموت المتربص.
صرخة ذوي الرأي الحر الذين يُقْتلون كل يوم، في بعض البلاد العربية، والبلدان الديكتاتورية، أو يفرض عليهم الصمت الناخر الآكل والناهش.
صرخة الأرامل واليتامى والثكالى والمقتلعين. وصرخة ما سمي ب» الربيع العربي « الذي كان صرخة متواصلة علت علوا إلى عَنان السماء حتى بلغت فيها القلوب الحناجر، وبُحَّت الأصوات، وانخرست الألسن، وظمئت الأقوات، وتململ الأموات.
صرخة الفلسطيني اليومية التي طالت واستطالت منذ أكثر من ستين سنة، والتي حملها ولا يزال، وجعا ثقيلا ومُمِضّاً كَ « ليل طويل يحدق في الماء « على حد تعبير محمود درويش.
صرخة الكردي المضطهد، والأرميني المجثت، والبهائي المغدور، والزَّيْدي المنكوب. وصرخة الأطفال في كل بقاع العالم وهم يقضمون اليأسَ الذي يجري في دمائهم، وينامون ويفيقون على النبذ والطوى، ومختلف صنوف الحرمان. ويمشون على أراضٍ مبتورة بنفوس محفورة، وآمال مُصَادَرَة ومحجورة، حفاة عراة، شُعْثَ الشعور، معفري الوجوه وعيونهم إلى السماء مُتَوَسّلة مُتَسَوِّلة لعلها ترسل كِسَفاً أو موائد عامرة بالأشربة والأطايب، والمَنِّ والسَّلْوَى.
صرخة الذين طوتهم يد المنون، وحصدهم منجل الموت على حين غرة، إذْ زلزلت الأرض زلزالها، وتجشأت ما تحتها، وابتلعت، كالثقب الأسود النَّهِم، كل ما فوقها من بشر وحجر وشجر، مخلفة أرضا بلقعاً، وقاعاً صفصفا فيه شقوق وتصدعات وأخاديد، وعِوَجٌ كثيرٌ. ماضيهم اندفن بغتة، وحاضرهم انقصم وتقوض إلى حين، والآتي في كف الغيب. صرخة ولا أشد إيلاماً، وأعمق حسرةً والتياعا، وأنزف دما وجراحا في لحظة برقت ثم انطفأت تلاها دمار مَهُولٌ، وخرابٌ مُرَوِّعٌ، لحظةٍ لم تدم إلا ثوانٍ أخرسها اختناقٌ بازِلٌ، ومحاها دَويٌّ إسرافيليٌّ عاتٍ، طوَّحَ بها إلى الحفر والأبعاد حيث لا استجابة فورية ولا صدى، أعقبتها نظرات تائهة فارغة متسمرة، وأحيانا ملأى بالمعنى الفالت واللامعنى. نظراتٌ شاخصة ذاهلة في أطياف العدم والعبث، وأفواه محشوة بالتراب والغبار والدم، والنداءات المكتومة.
أبعد هذا، بعد هذه الصرخات القاصمة.. الأليمة، الرَّاجَّة للألباب والعقول والأبدان، صدى دامع وملتاع للدواهي والقوارع والطامات، ومصدر لِما حلَّ وجَلَّ، وفَتَّ وشرَّد، ورمى بالحجارة والتراب إذ رمى؟ أبعد هذا، يسلس السرد، ويطاوع البيان، ويحلو الإنشاد؟
كلاًّ. ففي الطامّات يَتَسيدُ الصمتُ، ويُعَرّشُ الدرسُ الحكيم، ويتقدمُ الاعتبار بشكل تعجز عنه اللغة رغم أنها من أعظم النعم التي منحت للإنسان حدَّ تعبير الشاعر هولدرلنْ.
إحـــــالــــة:

مقال أوحتْ إليَّ به لوحة « الصرخة « الشهيرة للفنان التشكيلي النرويجي العالمي: إدواردْ مونسْ ( 1863 ـ 1944 ).


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 22/09/2023