أصداء أصوات غافية : طوفان التكرار: مثلبة أم محمدة؟

 

وددت لو أن كل خلق من خلق الله يلبس اسما خاصا به، ويرتدي نعتا موجبا لشخصه، وبحسب سمته وصورته وهيئته، ولْتَبْلُغْ الأسماءُ ست مليار اسم ومسمى وَفْقا لعدد الساكنة التي تدب كمثل النمل على الأرض؛ يستوي في ذلك الرجال والنساء. فلا معنى لتكرار اسم محمد منذ خمسة عشر قرنا، وعمر وأحمد، وطه، وياسين، والعبادلة تمثيلا. ولا معنى لتكرار فاطمة وعائشة وأمينة ومريم. والأمر سيان عندنا أو عند الأغيار أوروبيين وأمريكيين وأسيويين، وأفارقة، وأستراليين.
هل ما أقول أضغاث أحلام، أم هلوسات، أم كابوس طَرَقَ باب رأس ليلا فزَيَّن لي ما أنا خائض فيه وسادر وراغب في أن يحمل كل واحد اسمه الواحد الخاص به المختلف والمبتكر حتى لا يختلط بالآخر الذي يحمل الاسم نفسه، ولا تزدحم الأسماء والمسميات الواحدة وتتكرر حتى لا منجاة من التأفف والضجر والسأم والملل والانسحاق.
لكن، رُبَّ مُعترضٍ يقول: وما بال النبات والأشجار والحيوان والحشرات؟ ما بالها وهي تتكرر هنا وهناك، وتتكاثر زاحفة على أكثر الأماكن والأفضية والجغرافيات؟، أليس في تكثيف التكرار، ومعاودة الصورة إلى ما لا نهاية، حكمة، ومقتضى رباني علوي؟ أليس فيها درس أركيولوجي ووجودي وطبيعي ونفسي واجتماعي، يجُبُّ الملل، ويهزم الضجر، ويُثْري النظر بما يُريهِ من أسرار وسرائر وصور للجمال شتى تملأ الرحب والسعة، والقلب والوجدان؟. فهل في التكرار مثلٌ يتحدانا، وأمثولة تتجاوزنا، فإذا بالمحمدين والأحمدين والعبادلة والفاطمات والأمينات والعائشات والمريمات والليلات، وهلم أسماءً ومسميات، وهم يتناسلون جنسيا واسميا، ويحملون البطائق المتماثلة، ويلتفتون كما يلتفتن عند كل صيحة، وعند كل نداء، متسائلين: من المقصود، ومن المستهدف؟ أنحن في الرفع ابتداءً**** والبناء عَلَماً وعلواً، أم في النكرة المقصودة ساكنةً ولاجئين***** إلى حين، أيْ إلى أن يشار إلينا بالبنان، ويتوجه إلينا بالصوت واللسان، لا بالصدى والدخان؟
إن الخلق كائنا ماكان هذا الخلق: جمادا أو حياة، يتسمى ليتميز لا بمعنى التحلي بالبأس والأفضلية، وإنما بما يجعله مختلفا عن سَميِّه، عن الآخر الشبيه أوَّلا بالهيئة والفؤاد والقوام والمكانة والمكان. وثانيا بالجنس واللون واللغة واللسان والسلالة والجينالوجيا، والموجودية في المكان والزمان والتاريخ. وإنه ليتمدد ويتمطى ويتوالد ويتكاثر ليعمر الأرض أسماء ونعوتا وصفات وملكات ومقدرات، وطبائع وأمزجة، وحضورا وغيابا، وابتكارا واختراعا، وإنْ تولته الأسماء بالتكرار والتنسيل. فما يُنَزِّلُه يُنَزِّهُهُ عن الامِّحاء والذوبان في الغير والصدى. وما يأتيه فهو يأتيه بالكد والكدح والسعي المشكور واللاَّ مشكور، عنَيْتُ: أولئك الذين تسعى بهم عقولهم وعلمهم إلى اختراع آلات الدمار، وأدوات المحق والغصب والدثار، مدججين بالقوة المادية والهيمنة السياسية، فيصل مسعاهم المخفي والمكشوف، وهدفهم المُبَيّت المقيت، ومقصدهم الخبيث، إلى عامة الناس وخاصتهم وتحديدا ساكنة ما اصطلح عليه اقتصاديا وماليا وحضاريا بـ «الجنوب»، أي كل المحمدين قاطبة والفاطمات طُرّاً، والممسحين الكاثوليك والبروتستانت بإفريقيا، وجل الدول العربية، وفقراء آسيا وأمريكا اللاتينية، وغيرها.
وعليه، فقد تبين أن الأسماء تتحكم في الأسماء، وأن الأسماء السيدة تركب ظهور الأسماء الواطئة، وتمتطي أعناق « البغال « المنحنية، وتنيخ على الأجسام المنبطحة. وهكذا يكون المتسمون بجورجات، وميشيلات، وبوشات، وهنريات، وكاترينات، ودكتاتوريون وديكتاتوريات أشداء على « الوُدَعاء « الذين لا حول لهم ولا قوة، وقائمين بالفيض والغلبة والمركزية على من أسلسوا لهم القيادة، وأرخوا لهم عنان الطاعة والقِوادة. إنهم يتعددون هناك، ونتعدد بدورنا هنا، وبين الهناك والهنا، تستشكل الأمور، وتتشكلن المهمات والقضايا والحضور في الوجود والكون والتاريخ. بينهما يتم النصر والدحر، وينهض الهناك أعز وأهول ما يكون، بينما يجثم الهنا أحقر وأهون ما يكون. وما من خروج من عنق الزجاجة، ومروق من الباب الخلفي عبر نافذة الجنون إلا بتمكين الأسماء المغلوبة من الأسماء الغالبة، لا بالصبر والاستكانة والاستخذاء والإذعان والدعاء، واستمطار ( جنود لم يروها )، بل بالعمل والعلم والنهوض والتحدي والاجتهاد، وطي صفحة الغيب، ونشر كتاب الصحو واليقظة والإفاقة، كتاب الواقع والصدق مع النفس ومع الغير من أجل الانخراط في معركة البناء والحضارة الإنسانية، ورفع، عاليا، راية الحوار والسلام مع المختلف في اللغة والدين والتاريخ واللون والجنس، راية مشمولة بالقيم والمُثُل العليا. فليس غير هذا أفقا للخروج مما فيه الأسماء العربية والعالمثالثية من ضيق ورضوخ واستسلام، وتفرج على ما يجري أمامنا وخلفنا وفوقنا، وعن يميننا وشمالنا. وليس غير هذا مسلكا لاستحقاق الأسماء، واعتبار المسميات في الوجود والكون والتاريخ.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 30/09/2022