أصداء أصوات غافية عنزة مَسْيو بودويكْ

 

أيقظني صوتها.. بعبعتها، ثغاؤها الذي بُحَّ من كثرة ما ثغتْ وصاحت وبعبعت. ماذا تريد مني؟، ماذا تبتغي من صاحب مَحَضَها الحب والعناية والرعاية، وقد اكتهل بل صار مُسِنّا؟. وما لها تذكره بالسنين الذواهب، والعهود الخوالي حين كان غِرّاً لا مباليا، شيطانا مرات كثيرة، وملاكا تارات قلائل؟
أتؤنبني وتحتج عليَّ لأنني أسقطتها عندما كتبت أجزاء وفصولا من سيرتي؟، ولكنه السهو فقط والنسيان حسبُ. ثم، لِمَ تكون العنزة ذات شأن لتحتاز مكانا أثيرا، وتملأ رقعة، وتسد ثغرة، وتحتل ذاكرة؟. أيكون ثغاؤها آنَ كنت أرعاها وأحرسها، وأحرص على أن ترافقني إلى الخلاء، إلى الطبيعة الزاهرة الغَنّاء، والأشجار الشاهقة الكثيفة الخضراء التي كانت تتخلل مقبرة النصارى الرابضة في سكون جليل، وصمت مهيب وسط الحشائش والكلأ والنبات والأزهار والشمس والمطر والريح، وصخب المراهقين حين يدخلونها دخول الفاتحين باحثين عن الكمإ الوفير طعاما ولا ألذ، ولا أشبع للتلمظ والجوعة والطوى، هو الذي صار اليوم بأنياب، وأصبح بألوانه الثلاثة: الأبيض المصفر، والبني المحمر، والأسود الكالح، منبها ومثيراً ومسيلا للُّعاب، متحديا دريهماتنا المعدودات. صار يباع ويبتاع ويشترى ويُصَدَّر ليساوي كل كيلو منه أوقية ذهب.
أيكون ثغاؤها ـ إذاً ـ ملامةً أو نذيرَ شؤم، أو بِشارةَ خير، أو تذْكرةً فقط لمن يريد أن َيذَّكَّرَ. ففي وسط الغابة، وحذاء المقبرة المسيحية المخضرة النقية الهادئة الوارفة التي سويت بالتراب الآنَ، كانت تصحبني عنزتي الصغيرة ذات الشعر الأسود المسبل الغزير، التي أضحت تتبعني وتميز صوتي ولغتي، بل حزني وفرحي، وقلقي وغرقي حين أنكب على دروس الطبيعيات والتاريخ والجغرافيا، وحيدا طول الوقت، رقيبا مشرفا على مملكتي المنبسطة الخضراء، أعقلها إلى جذع شجرة ما برَسَنٍ مخافة شرودي واستغراقي في الحفظ والمراجعة، فتفلت مني وتضيع خصوصا والزمرد الإلهي ملء النظروالبصر يغري وينادي، وحقول النوار والأزهار تتهادى وتزغرد ألوانها في الفضاء الندي الرائق الجميل. وحين يأخذ مني التعب مأخذا، أتوسد حجرا صقيلا أو مدببا أضع عليه دفترا، وأغفو دقائق قربها، فتغفو بدورها كأنما لتشاركني غفوتي، وتقاسمني نومتي فأفيق بغتةً على نهيق ونقع غبار أثاره حمار معربد ضال، أو أثارته جماعة خنازير برية وهي تُخَنْخِنُ وتجري لاهثةً متناكبة إلى لا هدف، أو على ريح سريعة مجنونة محملة بزخات مطر متدافع وغزير سرعان ما يفتر وينقطع.
ثغاء العنزة يوقظني أيضا. أتفكر الوقتَ وأستطلعه في ساعة أبي ذات الميناء العريض التي أحمل دوما معي، فأُلْفي أن زمن الغذاء فات، وأن العصر أذَّن هناك في بلدتي البعيدة عني بأكثر من ثلاثة كلمترات. أجمع دفاتري وأدسها في جِرابي: أقصد محفظتي. أستل بقايا رغيف وحبات زيتون وجبنة في النادر، ثم أطفق أدوّن بعض الخواطر الرومانسية الطائرة مجنحة مطاوعة حينا، عصية متمنعة أكثر الأحيان، التي تمر على البال، والتي تلح عليّ إلحاح الذباب، لتسطيرها على قصاصات ورقية، أو طيَّ دفتر صغيرأَصُبُّ فيه أنفاسي، وأسكب روحي وصحوي وخمرتي التي أفاءت عليَّ بها مشاهد الجمال من حولي فأسكرتني.
ففي تلك السن، سن الصبا والمراهقة، وكنت في نهاية السنة الإعدادية ثانوي، وقبلها ـ بطبيعة الحال ـ بسنة أو سنتين، نقشت بعضا من صوري وخيالاتي، ومجازاتي، وخربشاتي، وذرفت دموعا بلا عد ولا حصر على أوراق وحدتي وطموحي، وشَغَبي، وبدايات تكتكات قلبي، وعرضتها على بعض أساتذتي الذين لا أنساهم أبدا، وكيف يُنسى من كان يُريك الطريقَ اللاَّحبَ، ويُنْبيك بخطإك من صوابك، ويأخذ بيديك، ويغريك بالمزيد مشجعا مُرَبِّتاً مثل أب حنون. فهل أنسى محمد جميل، ومحمد خرماش، ومحمد غطاس؟ هؤلاء أساتذتي بالثانوي الإعدادي، أعدوني لمناكبة الصفوف، ومراوغة الصروف، ومعاشرة الأدب والحروف؛ زيادة على الدروس الرسمية التي كانت تبعث على الملل، وهو الملل الذي انتقل إليَّ كالعدوى من أساتذتي المذكورين الذين كانوا يزينون لي ما أنا خائض فيه، وما أقرأه عن بحث وحب واختيار، لا عن قسر وعسف واضطرار.
ولطالما شبهت عنزتي الأثيرة «يرحمها لله «بعنزة مسيو سوغانْ، فمن قصة الكاتب الفرنسي البديع رفيق طفولتنا وطيشنا: ألفونس ضودي، استقيت العنوان، عنوان قصته الذائعة من مجموعته: (رسائل طاحونتي). إذْ وقفت على جوامع تجمعهما، وقواسم تشتركان فيها، أذكر منها: جمالهما، وحداثة سنهما، و»طيشهما»، وشدة معاشرتهما لصاحبيهما، وملء حياتهما بالثغاء والصياح والصخب الجميل. أما ما اختلفتا فيه، فهو لونهما: بياضٌ كالثلج صباغة عنزة السيد سوغان، والشاهد على ذلك أن اسمها يدل على لونه. وسوادٌ كريش الزَّرْزور أو غراب البيْن صباغة عنزتي. زدْ عليه، أنَّ بْلانْكيتْ عنزة السيد سوغان، متمردة ومعجبة بنفسها إعجابا متضخما ما عجَّلَ بنهايتها في غفلة عن سيدها فلاقت مصيرا تراجيديا، ونهاية مأساوية بعد أن أظهرت بطولة نادرة، وشجاعة تحسب لها في مواجهة ذئب شرسٍ طاوٍ وضارٍ مزقها من دون رحمة. كان الأطفال وبعض أترابي يشاكسونني، ويرغبون في إثارتي وإغاظتي، فيعترضون طريق عنزتي ونحن عائدان إلى منزلنا المحشور المزْحوم بمنازل أخرى كالجواليق والطوابق الإسمنتية الضيقة الخانقة في الحي المغربي، حي الأهالي كما سماه الفرنسيون. لم أكن أنهرهم أو أبعدهم إذ كنت أعرف «عقل» عنزتي الراجح، وسلوكها القويم، ورباطها المقدس بصاحبها، وعلاقتها المتينة به. أمشي مختالا كأنني أقود أسدا، أو فيلقا منتصرا، وهي خلفي صياحا وبعبعة وثغاءً، وقد شبعت حتى التخمة، وأتيت ـ بدوري ـ على دروسي حفظا وشُرْبا وطَحْنا حتى لا مزيد.
لكن، وقع ما لم يكن في حسباني أنا التلميذ الغر اللاَّهي والخالي مِمّا يوسَمُ عادةً بالقبح والشر والعدوان. ففي صبيحة أحد الأيام، عدت من الثانوية أقفز فرحا ومرحا، وأدندن أغنية شعبية لعلها أن تكون: (سالْبا.. سالبا..). بحثت في زاويا الدار عن عنزتي فلم أجدها. وحارت أمي بما تجيبني به. سألتها: ـ هل هربتْ؟ هل بيعت؟ هل سرقت؟ هل ذبحتْ؟
ــ نعم، قالها أبي، فنزلت عليّ تلك النَّعَمْ كالمُدْية الحادة، كالساطور القاطع، كأن الدم الذي تفصد من مهجتي حينئذ، يتفصد الآن من روحي إن كان لها دم؟
ــ ولِمَ ذبحتها يا أبي، ماذا فعلت لك؟ وكنت تناديها مدللا: « خِيرة «؟. لم كذبت علي وأنت تطمئنني بأنها لي وأنها ستصحبني حتى تكبر، وآنذاك سنرى في أمرها، ونتدبر حالها؟
يا ويلتي، أكلتها مع ضيوف «لئام» هم من دفع أبي بشكل أو بآخر إلى ذبحها لأنه كان خاوي الوفاض، وهم ضيوف أتوا من بلدته حيث ولد، فوجب إكرامهم والاحتفاء بهم. وهل يكون الاحتفاء على حسابي، وحساب عنزتي؟. اللعنة عليَّ، لقد غدرت بها، واستطبت لحمها وشحمها، أكلتها وبكيت، تماما كالتمساح ـ فيما يروى عنه من أساطير ـ يبكي بعد أن يلتهم ضحيته.
إذاً، أتكون صيحتها قد أيقظتني من عز النوم، قصد لومي وإيلامي، وتذكيري بالصحبة التي كانت، والميثاق «الغليظ» الذي كان، فنقضته وغدرت بها، وذبحناها وهي في أوج نشاطها وخفتها ونزقها ورشاقتها وحيويتها؟
لم أشعر بحزن كما شعرت به عند الإفاقة، وبنوستتالجيا حارقة كما أحسست بها شاوية كاوية تأكلني كما تأكل النار الحطب. فهل ألوم أبي؟ رحمك لله يا أبي.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 21/10/2022