لماذا لم يُوَلِّ المفكرون والفلاسفة العرب، اهتماما وانشغالا بالأدب والفن والشعر على غرار فلاسفة الغرب وأمريكا وآسيا وإفريقيا؟، أقصد الفلاسفة العرب المعاصرين، إذ أن فلاسفتنا القدامى الأفذاذ، ك: ابن سينا والفارابي تمثيلا ـ خاضوا في قضايا الشعر والشعرية والصورة والتخييل، وما به يكون الشعر شعراً، وقاربوا الموسيقا، بل صنفوا فيها كراساتٍ وتصانيف عجيبة أبانتْ عن إبداع وغوص في بحر النغم واللحن والصوت والمقام.
لم يُوَلِّ فلاسفتنا العرب اليوم، أدنى اهتمام بما نُطلق عليه « المبتذل «، و» اليومي «، و» العادي»، و» العابر»، والسياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي والتعليمي، أُسوةً بفلاسفة الغرب وهم كُثْرٌ. الذين خاضوا في قضايا الشعر والرواية والموسيقا والسينما والأغاني والتشكيل والموضة والإعلام والحروب، والعنصرية، والإنسان في عظمته وضآلته؟، ما خلا المفكر عبد الله العروي الذي أبدع في الرواية ـ السيرة الذهنية، وأجاد في النقد الفني والسينمائي تخصيصاً، لكنه لم يقارب ـ في ما أعلم ـ عملا شعريا أو روائيا غيرياً، بالدراسة العميقة والتحليل المنتظر والمتوخى منه.
لماذا لم يقم فلاسفتُنا بما قام به كانطْ وشوبنهاورْ ونيتشهْ وهيدجرْ، وفوكو، وديريدا، وموريسْ بْلانشو، وبييرْ بورديو، وهيجلْ، وكيركيغاردْ، وأدورنو، وإرنستْ بلوخْ، وريكورْ، وَوالترْ بينجمانْ، وجيلْ دولوز، وكريستيفا، وآخرين؟ لماذا؟، لماذا؟: ألأنَّ الخوضَ في القضايا والمشاكل اليومية، بعيدٌ عن الهم الفكري والفلسفي « المتعالي «، لأن له أصحابه، أم لأن الاشتغال بالعادي يحط من مكانة الفيلسوف، ومن قيمة فلسفته بالتلازم؟، ويُزْري بالجهد الفكري الميتافيزيقي المحلق، بدعوى أن كل فكر لا ينشغل بالماورائيات والقضايا الوجودية الكبرى، والقيم والمثل العليا والميتافيزيقا، هو فكر منحط، وفلسفة أرضية مُمَرَّغة؟
فما لم تبتكرْ الفلسفة المفاهيمَ المتحركة المتوترة، وتحلقْ بالخيال الخلاق، وتنغمسْ في الواقع المَوّار والقضايا الوجودية والاجتماعية، وفَوَرَان اليومي والمعيش، ما لم تكن فكراً وإبداعا في الوقت ذاته، يهتز معناها، ويضمر دورها، وتنكمش وظيفتها، وتراوح مكانها لا أثر لها في ما حولها، ولا تأثير لها في النّاسوت والمادي معاً.
ماذا قَدّم الدكتور طه عبد الرحمن، على جلال علمه وتَبَحُّره، وعمق فكره الفلسفي، ونَحْتِ بعض مفاهيمه، وابتكار» لغته «؟، ما ذا قَدَّمَ للأدب والفن والموسيقا مثلا؟. وما ذا قدَّم الدكتور محمد عابد الجابري ـ على عُلُوّ قَدْرِه وكَعْبِه في صياغة فكره ومناولة قضايا الفلسفة والفكر والتراث، والدين، والتعليم، والعقل العربي ـ ؟ ما ذا قدم للأدب والفن والشعر المغربي؟ هل خاض في أدب غلاّب وربيعْ وبوعَلّو، وبرادة والمديني، وتناول فلسفيا وفكريا شعر المجاطي، والسرغيني، والخمار الكنوني، تمثيلا، وهم مجايلوه ومعاصروه؟. نعم، لقد كتب سيرته مثلما فعل العروي في ثلاثيته السردية السيرية الذهنية، ومثلما فعل قبلهما بقرون، حامد الغزالي في كتابه: ( المنقذ من الضلال ). فهل يُعدُّ ذلك كافيا للقول بأن فلاسفتنا اهتموا بالأدب وانحازوا إلى جنسه، فدبَّجوا به سيرهم، وهي إبداع على كل حال؟.
لقد قارب الفيلسوف نيتشه فلسفيا وإبداعيا موسيقيّي عصره وغير عصره، أمثال: بيزي صاحب رائعة « كارْمَنْ «، وفاغْنَرْ وموتْسارَتْ، وبيتهوفن، كما قرأ الشاعر بودلير. وكذلك فعل قبله شُوبْنهاورْ الذي عَدَّ الموسيقا أعلى وأسمى تعبير عن المشاعر والروح الإنسانية، وقرأ وغَرَفَ من إبداع مثقفي وشعراء عصره فرنسيين وألمان. وقسْ عليهما، كوكبةٌ مضيئة من الفلاسفة والمفكرين الغربيين.
فلماذا لم نَحْذُ حَذْوَهُم؟، أَ في الفلسفة العربية عيٌّ وقبضٌ، أم أن الأدبَ والفن والشعر» ليسوا « إلا لعب عيال، وتزجية للوقت الثالث، وكتابة يوم الأحد، وإلهاءٌ شيطاني عن المشروعات الإنسانية الكبرى و» الجسيمة «، أم أن شعرنا وأدبنا وموسيقانا وأغانينا معدومة القيمة والفائدة والجمال؟
فإذا كان الأمر كذلك، فلْيُبْرزوا أعطابها وضعفها وتخلفها، وتهافت كتَّابها ومبدعيها، ولْيصوغوا مقالات فكرية هادية مضيئة في شأنها، وتصويبا لهنّات تلازمها، أو انتصارا لها، وإظهارا لنوعيتها وجمالها؟، ويُبَلْوروا كتابات معرفية تقدر أصحابها علميا حق قدرهم، فتجترحَ المفاهيم، وتغورَ في المرجعيات، وتعيد وتساهم في بناء النظرية الفنية والنقدية، بناء جديدا ملهما ومرشدا مُسْتقى من تراثنا وثقافتنا وهويتنا، وواقعنا، وعبقريتنا؟.
غياب نسق فلسفي جمالي من شأنه لو وُجِدَ، لَفَتَحَ طريقاً لاَحِباً إلى النص الشعري البديع، والسردي البهي، وجعل منهما خطابين متداولَيْن قمينين بالقراءة والمتابعة والتحليل والموازنة، وكَشْفِ بهما ومن خلالهما ما يتغياه الإبداع الحيُّ الفارِهُ أصلا من انْوِجادِه وكينونته بحُسْبانه لغة سامية، وتجربة روحية موصولة متصلة ب « سرة « الكون، وأرجوحة الطفولة والخيال، وعجين البدايات، ومديح الحب والخير والعدل والجمال. وفي تقديرنا، استنادا إلى قراءاتنا، فإن الشعر لا يزدهر الازدهارَ المتوخى إلا بازدهار الفلسفة. هذا، مع العلم أن الشعر العربي المعاصر في أبهى وأعلى نماذجه، متطور مُمَاشٍ ومستبطن للتحولات الثقافية والفنية والمعرفية والتكنولوجية. إن الشعر فعل اللغة أو هو اللغة فاعلة بجمالها، مؤثرة بعذوبتها واستعاراتها، وانزياحاتها. والفلسفة فعل الفكر أو هي اللغة متموضعة منتصبة تَقرأُ وتفسر وتحلل، وتُؤَنْسِن ما يتأبَّى على الأنْسَنَة والنَّسْقَنَة. ومن ثمة، فلا مندوحة لهذا عن تلك، ولا لهذه عن ذلك. ولنا أن نُذَكِّرَ ـ إِنْ نفَعتِ الذكرى ـ بالعلاقة الكامنة بين الشعر والفلسفة، تلك العلاقة الجمالية الأثيرة التي صنعت عنفوان وبهاء الشعرية الغربية السامقة، ومجد الفلسفة و» وَقَارِها «. وبالإمكان الإشارة إلى علاقة هيدجرْ بشعر هولدرلين وريلْكه وتراكْلْ. وشيللرْ بكانطْ، وهوسِرْلْ بشعر مالاَرْمي، وليفي ستراوس ببودلير. كما تجدر معرفة أهمية سبينوزا لدى غُوتَه، وهيجل لدى مالاَرْمي، وبرغْسونْ لدى ما تْشادو، وشوبنهاور لدى بورخيسْ، وأرْطو لدى فوكو، وسيلينْ لدى ديريدا، وبْروسْتْ وكافكا الروائيان الكبيران لدى جيلْ دولوزْ ( بإدخال السرد الرفيع في بؤرة الشعرية الأعم ). فهذه العلاقة / العلاقات النسقية المستندة إلى تراث فلسفي شعري وجمالي، هو ما أعلى ـ في نظرنا ـ من شعر هؤلاء وغيرهم، مخترقا الزَّمْكان، وعديد التلقيات عبر تواريخ ممتدة وآتية. وربما، أن تكون هذه الروح، روح الفلسفة والشعر والجمال، بما هي موقف من الموت والوجود والحياة والكون، وارتماءٌ في الماوراء، في الميتافيزيقا، هي ما جعل شعراءَ عرباً ومسلمين استثنائيين، ك: امريء القيس، وطرفة بن العبد، والأعشى، ومالك بن الريب، وأبي نواس، وأبي تمام، وابن الرومي، والمتنبي، والمعري، وآخرين يستمرون في إدهاشنا وإبهارنا، وتحسيسنا بضحالتنا وضآلتنا، ومحدودية آفاقنا، وقِصَر باعنا.
إننا لا ندعو بهذا الكلام إلى نَسْقَنَة النص الشعري جملة وتفصيلا، وتعويمه في نهر الفلسفة العميق والهادر، والقصي الغور، والجاف أحيانا، بل إلى تثقيف الشعر من دون تعميته وطلْسَمته، وحجب جماله وجذوته. فهل ينتبه العرب المشتغلون بالفلسفة، إلى ما نقول؟. وهل يقرأ شعراؤنا العرب ما يكتبه الفلاسفة، فيمدون لهم الأيدي ليصْطَحِبوهُم إلى وليمةٍ إلهيةٍ باذِخة، وكؤوسِ شرابٍ نورانيٍّ، نَدامَاها غلمانٌ مخلدون في أثواب مذهبة من ماء شفيف، وضوء رهيف، وعطر رفيف.
أصداء أصوات غافية .. عن العلاقة المنتفية بين الفلسفة والشعر العربيين

الكاتب : محمد بودويك
بتاريخ : 28/02/2025