أصداء أصوات غافية ..كُتُبٌ أحببتُها ولم أقْرَأْها

تأملْ جديدَ الكتب وابْدَأْ بِرَثِّها
وكنْ ضامناً أرواحَ ما تتَضَمَّنُ

فكمْ مُخْلَقٍ منها أفاد بديعةً
وللذهب الإبْريز في التُّرْبِ مَعْدِنُ

سألني جليسي، والحيرة بادية على وجهه، والدهشة ترتسم على تقاطيع محياه، وتكاد تعقد لسانه: ــ كيف يحب إنسان كتبا لم يقرأها، ولم يطلع عليها؟. إن الأمر شبيه بعشق امرأة لم يرها، أو يكون قد رآها عابرة كطيف، مضيئة بعطرها الهارب المرفرف كسنونوة خاطفة أو برقٍ خُلَّبٍ. ألا تعلم أن الحب لا يتحقق إلا بالتجلي الممسوس، والتشخصن المحسوس. لا يكون إلا ملموسا مشتركا ومتقاسما مزجيا بالكهرباء والنار؟. أليست بك حمى يا صاحبي، ألست تهلوس وتهذي؟ ــ أجبته مفترا عن ابتسامة مُتَبَّلَة بالمكر، مستقويا ومستهديا بشعرِ باعجِ عين الشعر المولد الجديد، ورائد الحداثة قديما، بشار بن برد: يا قومُ، أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا بمن لا ترى تهذي، فقلت لهم الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا
والحال، أن بشارا بْنَ بُرْدٍ كان أعمى، فهو لم ير المرأة التي أحب، وذلك أمرُّ وأقسى، بل سمع صوتها فقط. ومن صوتها أحبها. نعم، قد تنوب بعض الجوارح بما هي أجزاء بانية متواشجة تتداعى بالسهر والحُمّى للكل المشتمل على نفسه. فجارحة الأذن التقطت صوتا تناهى إليها ناعما رخيما مخمليا، فَدَلَّ على جمال المرأة العام، دل على سحرها وفتنتها، فأوقع الشاعر في شباك الغرام، وطَوَّح به في غيابات الهيام. أما أنا فقد عشقت بعيني وبأذني، وجماع حواسي وقلبي وعقلي، فما أصبت بغيتي تماما.
ــ أمَّا وقد نجحتَ في إقناعي نسبيا ـ رَدَّ بلسان شبه منهزم ـ فهاتِ ما عندك. هاتِ تصورك وبرهانك إن كنت صادقا. ــ نعم، يا صديقي: قرأتُ، كغيري، كتبا كثيرة مختلفة ومتنوعة الأجناس والأنواع، والموضوعات، كتبا بلغة المتنبي، ولغة موليير، ولغة شكسبير، وعيناي على كتب أخرى لكُتّاب ومفكرين وروائيين وشعراء آخرين، منعني من الوصول إليها والاحتضان الذي يليق بها، عوامل متداخلة، وموانع متعددة، وعلى رأسها ضيق الوقت والسفر، والتدريس، والعمل الإداري، وتمضية الوقت في السهر مع الأصدقاء والأصحاب والخلان، والأمراض، والحميات الزائرة من دون استئذان، والانخراط الطوعي والإرادي في أتون ومعمعة النضال الحزبي والنقابي، والمجال الترابي المحلي والجهوي. وهو الانخراط الذي عشته بدمي وأعصابي، وتفانيت فيه على حساب صحتي وأولادي، مشحونا بأحلام وأوهام مثل صَحْبٍ كثير، ورفاق ورفيقات لا يحصون. هي ذي بعض الموانع والروادع حتى لا أقول كل الموانع والروادع. غير أن ذلك لم يَفُتَّ في عضدي، وما كان ليحول دوني ودون القراءة والمطالعة والكتابة. لم يبعدني كثيرا عن عودتي إلى القراءة بنهم، والعكوف على مطالعة الكتب بشهوة مشتعلة، وإقبال متلمظ عجيب منقطع النظير كأني أسابق الزمان، وأنتقم للوقت المهدور، وأعوض ما فاتني. ومن أغرب ما يمكن أن أحكيه لك، قصة كتاب أحببت كاتبه، ولم أقرأه إلى حدود الساعة، مع أنه يشغل حيزا من رف في مكتبتي منذ عقود. فهو يرمقني، ويحدق فيَّ حائرا متحيرا ومستغربا، ولسان حاله يقول: ( أكل هذا الزمن ولم تقرأني؟، أكل هذا الوقت الذي مَرَّ حلوا ومُرّاً وأنا أنظر إليك وأتَرَجّاك متوسلا أن تتصفحني لتطرد عني وبال عتة الأيام، وأرَضَة النسيان، وبرد الوحدة والإهمال؟. إنه كتاب عباس محمود العقاد الموسوم ب( ما يقال عن الإسلام ). وقصته أنني اقتنيته في ميعة الصبا وشرخ الشباب من السوق الأسبوعي بمدينة جرادة، مفتتنا بالعنوان، وبصاحب العنوان، ربما لأن أستاذ اللغة العربية حببه إلي / إلينا داخل الفصل الدراسي، إذ كان مولعا به، قارئا لمجمل كتبه فيما قال. لكن سياق إيراد ذاك العنوان بالذات، ظل غائبا عني، لم أهتد إلى الباعث على ذكره، والباعث الذي دعاني إلى البحث عنه واقتنائه. وشبيه به رواية ( أولاد حارتنا )، لنجيب محفوظ. فلست أدري لِمَ لمْ أقرأْه إلى الآنَ رغم حبي له ولصاحبه بعد اطلاعي على ما قاله النقد الأدبي فيه، وما سال حوله من حبر غزير. علما أن جل روايات العظيم محفوظ التهمتها التهاما، وبعضها في وقفة واحدة كشربة ماء. فضلا عن رواية الهائل دوستويفسكي: ( الإخوة كارامازوفْ )، وسلسلة معتبرة من المجلات الذائعة والمتداولة. فهل يكون النقد الأدبي الذي كنت شغوفا بقراءته ومتابعة ما تقترحه أقلام كاتبيه من تقويم وتقييم، أو توجيه ومساندة واحتفاء، أو دحض وإكفاء، في المجلات الأدبية المختلفة مشرقية ومغربية، وكذا الملاحق الثقافية السيارة، وراء حبي وعشقي لمجموعة معتبرة من عناوين كتب وروايات ، ومجاميع شعرية لكتّاب ومؤلفين ينتمون إلى دول وأمصار موزعة على أطراف المعمور، ذات لغات وثقافات وسلالات، وإثنيات وجغرافيات مختلفة ومتفاوتة من حيث نشوب أقلام مثقفيها ومفكريها وأدبائها، في محبرة الحضارة الكونية، ومداد الأنثربولوجيات المتسامتة والمتباعدة؟ بعض تلك الكتب ترمقني دائما متوسدة رفوف مكتبتي شاكية ملتاعة حزينة تشعر بيتم وإشاحة وإقصاء. وبعضها لم تَطُلْها يدي، ولم تصل إليها في المكتبات رِجْلايَ على كثرة ما مشيت وذَرَعْتُ وتسكعت، ووفرة ترَحُّلاتي وزياراتي للمدن مغربيا وعربيا وأوروبيا. فكأنني اكتفيت بسماعي بها، وبمعرفتي القليلة والضئيلة بمحتوياتها وأبعادها، وجديد ولافت ما خاضتْ فيه، وعبقرية أصحابها. وكأن، في وجازة ما قرأت عنها، وفي بريق عنواناتها، وصيت مبدعيها، ما كفاني وأغناني عن طلبها اليوم وقراءتها؟. ثم، هل بقي شيء من العزم والحزم والفتوة والهمة، ما يدفع ويوخز ويغري باقتنائها وقراءتها، والعمر قصير، والشيخوخة الظالمة حلت وانتصرت؟ إن الكتب الرفيعة المدوخة موضوعا ولغة وتخييلا وجمالا، مثلها مثل النساء والمدن. فمن المقررالمُسَلَّم به أن تعشق امرأة وتهيم بها حبا وأنت لم تبرح، قيدَ متر، مكانك، وأن تسعى جاهدا ومجتهدا إلى تَمَثُّل سحر جمالها وفتنتها وإغوائها وإغرائها وأنتَ حيث أنت، وهي بمنأى عنك بمئات الفراسخ، والمسافات الضوئية. أليس هذا ضربا من الاستمناء، وفانتزما ، وشكلا من أشكال الفيتيشية الصنمية، والتعويض المرضي عن مستحيل نتوهم مُسَرْنَمينَ بلوغه وتحقيقه؟. وكذلك المدن، فنحن نَتَعَشَّقُها، ونُمَنّي النفس بزيارتها، ونحبها حبا جمّاً لِما قرأناه من أوصاف دقيقة عنها بالصوت والصورة والتعاليق عبر تقنيات الفيديو، أوعبر كتب الرحلات الشيقة المشوقة؟
فلطالما قطعت وذَرَعْت شوارعَ وجاداتٍ ودروبا، وضفافَ أنهار بعض المدن الأوروبية، وجُلْتُ منتشيا مأخوذا بنظامها وبهاء مؤسساتها وكاتدرائياتها المنيفة، وبناياتها الشاهقة ذات الهندسة والزركشة البديعة، وذات البالكونات والشرفات المأهولة والمتبرجة بالنباتات الزاهية، والورود والأزهار الندية، وحدائقها الغَنّاء المترفة. ولطالما هِمْتُ بجمال وأناقة وعطر نسائها، ورقة وشموخ موسيقا عباقرتها، وبريق حضارتها، وأنا في بيتي الذي سقفه حديد، وركنه حجر على وصف ناسك الشخروب الأديب ميخائيل نعيمة. قال صاحبي: كفى؟، أظنني فهمتك الآن. لكن، ألاَ حدَّثْتَني، ولو خَطْفاً، عن الكتب التي أحببتَ أن تقرأها ولم تقرأها؟. أَلاَ أوْجَزْتَ وأبرزتَ؟ ــ هي من الشهرة والذيوع، أجبتُ. ومن الانتشار والتداول عربيا وأجنبيا، وعلى الألسن وجل اللغات. وهي قيد الترجمات والتعريبات والمناولات النقدية، وضيفة دائمة أو تكاد، على الموائد العلمية المستديرة، والندوات واللقاءات المختلفة، وطَيّ الأطاريح الأكاديمية هنا وهناك. ومع ذلك لم أقرأها ولم أجلس إليها بالرغم من شهرتها وتواتر طبعها ونشرها. ناهيك عن سلاسل المجلات السائرة المحكمة وغير المحكمة ك ( عالم الفكر )، و (نزوى )، و ( فكر ونقد )، و ( الكرمل )، و (عالم المعرفة )، و ( آفاق )، و ( مشارف )، و ( بيت الشعر )، و ( دراسات عربية )، و ( فصول )، واخريات غيرها بلغة العجم ك ( ماكازين ليتيرير )، و( مجلة لير )، و ( لوبوان ) الخ .. الخ.
لِمَ ـ استأنفت مُسائلا نفسي ـ ؟ ما مبرر ذلك، ما سببه؟ أيكون الوقت المتخثر المكتنز أعمالا وانشغالات أخرى مادية معيشية وخبزية، هو ما لا يترك لِما هو نفسي وجمالي وروحي وميتافيزيقي إلا فسحة تقل وتتقلص كلما نمونا ونضجنا، وتشعبت اهتماماتنا، وتكدست همومنا؟ أم تكون الأمراض الزائرة، والطواريء والأحداث الهاجمة اللاَّمتوقعة؟ أم تعاظم وتكاثر العناوين حتى لا مجالَ ولا وقتَ لهرْش الرأس؟، أم هي المعابثُ والتلهيات التي تسرقنا، وتطوي أعمارنا طيا حتى إذا رغبنا في قراءة كتاب استهدفناه، حضرت كتب أخرى قذفتها المطابع ودور النشر المختلفة، فضيقت عليه، وزاحمته وركنته في معتم زاوية، وبرودة رفّ، وقوت عثَّة؟. والحق أقول إنها الأسباب كلها مشتبكة تلك التي أشرت إليها قَبْلاً والتي أومأت لها للتو. أما الكتب التي أحببت ولم أقرأها، فهي كثيرة. كثيرها سمعت به وقرأت ما قيل في صدده، وقليلها عندي يبصرني وأبصره. وهاك بعضها، هاك عنواناتها، واصحابها، مؤملا ألاَّ أثقل عليك يا صديقي: ( التأملات ) لفكتور هيغو. ( التربية العاطفية ) لغوستاف فلوبير. ( الجبل السحري ) لتوماسْ مانْ. ( الأب غوريو ) لهنري بلزاك. ( وردة من اجل إيميلي ) ليوليامْ فولكْنَرْ. ( أمريكا ) لفرانزْ كافكا. ( في البحث عن الزمن الضائع ) لمارسيل بروستْ. ( عناقيد الغضب ) لجورج سْتايْنبكْ. ( قط تحت المطر ) ليون تولستويْ. ( إيليسْ ) لجيمسْ جُويْسْ. ( رحلة في آخر الليل ) لسيلينْ. ( أناشيد مالدرورْ ) للوتْريامون. ( أولاد حارتنا ) لنجيب محفوظ. ( الفتنة الكبرى ) لطه حسين. ( نداء ما كان بعيدا ) لإبراهيم الكوني. ( أرض السواد ) لعبد الرحمن منيف. ( الشيخوخة الظالمة ) لعبد الكريم غلاب. ولعل في هذا ما يكفي لأقول: إن في القلب غُصَّةً، وفي العين حُرْقةً، وفي النفس حسرةً، وللزمن السائل السائر العابر الضاحك علينا، والساخر منا ألفُ قصةٍ وقصةٍ. وعلى رأي الشاعر:
لما رأيتُ عيونَ الدهر تلحظنا شَزْراً، تيقنتُ أنَّ الدهرَ يُفنينا


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 16/12/2022