أوّل ما سوف نقع عليه في الشريط، هو مكان مهجور؛ مهجور لأنّه لا يصلح في الأساس مسكنًا للبشر. ومنه، ينطلق شريط المخرج الإيراني أصغر فرهادي «الكل يعلم» (إنتاج 2018)، وسط قرعٍ مستمرّ لأجراس كنيسةٍ بلا هوادة، يتزامن مع دقّات متسارعة لعقارب مجموعةٍ من الساعات أعلى الكنيسة.
مشهد سريع، يجمع كلّ ما سبق في آن معًا، أي العناصر البصرية الثلاثة التي يعتمد عليها المخرج الإيرانيّ لا في افتتاح فيلمه فقط، بل في العمل على إنجاح المرحلة الأولى من عملية إثارة حيرة المتفرّج، وشدّ انتباهه إلى أقصى درجة. ذلك أنّ مشهدًا افتتاحيًا كهذا يُساعد المتفرّج في تكوين انطباعٍ أوّليّ سريعٍ عن الشريط، سرعان ما يتبدّد ليحلّ مكانه انطباع آخر، يتبدّد بدوره. هكذا يُباغت فرهادي المتفرّج، أو لا يترك له أي فرصة لتكوين انطباعٍ مبكّر عن الشريط.
المكان المهجور أعلى الكنيسة، وسط بلدةٍ اسبانية صغيرة، خزّان حكايات كبير يختزل صراعاتٍ طبقية وأسرية متعددّة، وقصص حبٍ فاشلة بفعل الصراعات السابقة، أو قصّة واحدة تُغلق ليُعاد فتحها من جديد، وبقوّة أكثر في كلّ مرّة، بحيث تفقد معناها كذكرى، بعد أن تترسّخ في الممارسات اليومية لشخصيات الشريط، وتتداخل مع يومياتهم، وكلّ ما يفعلون كذلك. إنّها قصّة مستمرّة الحدوث وإن غاب أبطالها. وهي مسؤولة عن زعزعة ونسف استقرار العائلة، في كلّ مرّة يخيّل لبعض أفرادها أنّها طُويت مع مرور الزمن.
يستمرّ قرع الأجراس بينما تتجوّل الكاميرا أعلى الكنيسة، ثمّ يخفّ شيئًا فشيئًا إلى أن يغيب مع انتقال الكاميرا إلى مشهدٍ آخر يُبدّد الانطباعات التي من الممكن أن يكون المتفرّج قد خرج بها من مشهد الافتتاح. هناك، في المشهد الثاني، سيارة في طريقها إلى البلدة، تقلّ امرأة قادمة من الأرجنتين برفقة أبنائها لحضور حفل زفاف شقيقتها، في مسقط راسها. تتنقّل الكاميرا بين الأم وأبنائها، وتأخذ لقطاتٍ سريعة للمحيط، مشكّلةً نوعًا من الطمأنينة في داخل المتفرّج. فما نراه هو مساحاتٍ كبيرة مزروعة بالعنب، وبلدة صغيرة بنمطٍ معمّاري يلفتُ الانتباه، وحميمية واضحة بين الشخصيات التي تشكّل في الأساس عائلةً واحدة.
بالانتقال من مشهدٍ إلى آخر، ننتقل مع أصغر فرهادي من نبرةٍ سرديةٍ إلى أخرى، أو من مستوىً إلى آخر. لا يركن المخرج الإيراني إلى نمطٍ أو أسلوبٍ معيّن، ومن غير الصائب أن يفعل ذلك، ألّا يتلاعب بهذه النبرة المرتفعة تارةً، والمنخفضة تارةً أخرى، لتُحافظ على مناخ العمل. هكذا ترتفع وتيرة السرد وتأخذ شكلًا سريعًا ما إن تصل السيارة إلى منزل العائلة، سُرعان ما تعود لتنخفض، فيقتصر الأمر على حواراتٍ ولقاءاتٍ بين أفراد العائلة والأصدقاء، ولاورا «بينلوبي كروز». ولكنّ اللقاء الأهمّ كان لقائها بباكو «خافيير باردم» حبيبها السابق.
نعرف أنّ باكو العشيق السابق للاورا من خلال نقشٍ لأول حرف من اسميهما في المكان المهجور الذي افتُتح الشريط السينمائي فيه، تكتشفه إيرين» ابنه لاورا. لا تفاصيل أكثر، ولا تبدو قصّة الحب هذه للوهلة الأولى مثيرةً للمتاعب. ومن اللقاءات ننتقل إلى حفل الزفاف الذي يُلغي بحميمته ومشاهده أي قلقٍ عند المتفرّج إزاء ما يتلو حدثًا كهذا. ولكنّ الحفل كان البداية، فاختطفت ايرين بينما كان الجمع منشغلين بالرقص، وتبدّد استقرار وسعادة العائلة بهذا الحدث الذي أعاد بدوره سرد حكايات قديمة تتصلّ بمكانٍ ما بعملية الاختطاف. نعرف أنّ والدي باكو كانوا خدمًا عند والدة لاورا سابقًا. ونعرّف أنّ والد لاورا رهن أرضًا وخسرها في لعب الورق. وأن لاورا باعت أرضها إلى باكو بسعرٍ زهيد لأنّها كانت تحتاج إلى المال. أسرار كثيرة تطفو على مضضٍ إلى السطح.
تتحوّل قصّة الحب إلى الفعل أو العنصر الذي يقود العائلة إلى أن تسلك طرقًا مختلفة، بمنعطفاتٍ حادّة. فالجميع يشكّ بالجميع بمسألة الاختطاف. في الوقت الذي يعرف فيه باكو أنّ ايرين هي ابنته، فيضطّر لأن يبيع حصّته في معمل النبيذ لأجل دفع الفدية، دون أن ينتهي الأمر عند هذا الحد.
ما المسكوت عنه؟
فتح فرهادي عدسة كاميرته في إحدى كروم العنب الإسبانية، آخذًا معه كلًا من بينلوبي كروز بدور لورا وخافيير بارديم بدور باكو، بالإضافة للممثل الأرجنتيني ريكاردو دارين بدور أليخاندرو زوج لورا.
هذه التركيبة التي زادت على انتظار الفيلم ألقًا فنيًا منذ أن علمنا قبل عام تقريبًا بأن البطولة في الفيلم الجديد ستكون مختلفة، وهكذا حمل الثلاثة سويةً عبء حكاية من حكايات العودة إلى الوطن، من تلك التي تُشرع معها الأبواب المؤصدة أمام الأسئلة والاستعادة الفوضوية لكل ما كان معلق ومتروك. نتسلل مع الكثير من الترقب إلى مساحة خضراء مفهومة منذ البداية، ما يعطينا انطباعًا بأن البساطة أمر مقصود هنا وريثما تترتب لتصير حدثًا أساسيًا في سياق الحكاية.
لماذا اختار فرهادي إسبانيا فضاءً لحكايته، وما الذي يجب أن يحدث هناك، ولا يمكن حدوثه في مكان آخر؟ بدون إجابات دقيقة نصل مع لورا وابنيها من بوينس أيرس إلى إسبانيا من أجل حضور حفل زفاف شقيقتها. تلك القرية مكان مثالي يتحقق فيه معنى العودة، فحرارة الطقس تزيد من حدة الانفعالات بين أفراد العائلة تلك، لنرى بإيقاع سريع أراد من خلاله فرهادي أن يوصل إلينا بهجة ذلك اللقاء بعد انقطاع طويل، فيعيد تشكيل العلاقات العائلية وصلات القربى، بين أشواق وعناق وثرثرة خفيفة نرى إسبانيا بتقاليدها المحلية الدقيقة. يصل الضيوف إلى بيت العائلة ويفتحون النوافذ، فاسحين المجال للضوء بأن يدخل ليكشف عن أسرار الماضي الدفينة. كل شيء عادي حتى منتصف الفيلم، لقاءات وتعارف، حتى ما يعرفه الجميع على غرار اسم الفيلم، بدا عاديًا جدًا لنا. فما الذي ستفتحه هذه العودة؟ الجميع سعداء في حفل الزفاف حتى لحظة انقطاع الكهرباء، والتي بدأت معها حكاية الفيلم المثيرة، باختفاء ايريني ابنة لورا في ظل غموض مفزع، لا نعرف كيف اختفت، اختطفت أم ذهبت بقرار منها. اختفاء مفاجئ على غرار اختفاء إيلي في فيلمه «عن إيلي – About Elly» ولكن بمقدمات أبسط وروابط أقل.
جرت العادة حين نشاهد فيلمًا لفرهادي أن نتساءل خلال المشاهدة هل حدث ما حدث عمدًا أم عن طريق الخطأ؟ ليس لأن نصوصه تتمتع بقدر عالٍ من الغموض والمصادفة، بل لأنها تضعنا أمام العديد من الاحتمالات فنقف حائرين أمام سيل الأحداث المتدفقة. أما في فيلم «الجميع يعلم» فكانت مهمة المتلقي ربما أسهل بكثير من تلك التي واجهته في فيلم «الانفصال» أو في فيلم «البائع».
فالجميع هنا كحال اسم الفيلم «يعلم» بأن الابنة مخطوفة ومعرفة هوية الخاطفين ليست بالأمر المستحيل، ليستيقظ فجأةً الجدال حول ملكية باكو صديق العائلة لمزرعته. ففي حال أراد مساعدة لورا بإيجاد ابنتها عليه أن يبيع المزرعة ليدفع للخاطفين المبلغ المطلوب. هذا ما حدث، ولكن لا نفهم كيف حدث ذلك بسبب الإخراج غير المحكم لتلك المؤامرة، من دبر وخطف وطلب الفدية ليدفعها شخص واحد ومحدد دونٍ عن البقية، لماذا وُضِع باكو أمام ذلك الخيار؟ تحرير الفتاة مقابل بيع مزرعته. هل بيع الأرض من قبل باكو لدفع الفدية للخاطفين مؤامرة من عائلة لورا التي كانت تملكها من قبل؟ خصوصًا بعد أن أفصحت لورا عن سر قديم بأن إيريني هي ابنة باكو، وهو الوحيد القادر على تخليصها، في مشهد ذكرنا بمشاهد المكاشفة في أفلام العصابات، حين يقف الفيلم كله على قول جملة. عند ذلك الحد من السأم يتركنا فرهادي خلال آخر ساعة من عمر الشريط، ويترك بطله باكو أمام مشاعر الذنب والمراجعة الذاتية للتنقيب عن حل.
تحافظ الشخصية الذكورية في أفلامه على مميزاتها سواء كانت إيرانية أم من جنسية أخرى، فالمسؤولية أمام الصدق والشرف والواجب حاضرة دائمة، تدفع الشخصيات للتحرك نحو هدفها وتقودها مباشرة إلى فعل محدد يجب أن تقوم به، أما الشخصيات الأنثوية فهي غالبًا من تدفع الثمن، ببراءتها وبساطتها تدور في فلك الآخرين تتأثر وتتضرر وغالبًا لا تنجو.
يتطرق فرهادي هذه المرة بفيلمه الإسباني الصبغة إلى أسئلة الأبوة والملكية، من هو الأب الحقيقي؟ ومن هو المالك من وجهة نظر التاريخ؟ حلّت تلك الأسئلة ثقيلة الظل وخيمت على أحداث الفيلم الجديد. فينتهي بين ابتسامة الرضى عند باكو الذي لا نعرف ماذا سيحل به كمالك للأرض، لكنه انتصر على الماضي باعتباره الأب المنقذ والمحبوب المخلّص أيضًا مهما أبعدته الجغرافيا وغيّره الواقع. أمّا لورا وزوجها فكيف سيواجهان سؤال ابنتهما، لماذا باكو هو من أتى ليساعدني؟
حل فيلمه الطويل الثامن والمنتظر برخاوة لم نعتد عليها في تاريخه السينمائي، حيث تُحمل ركائز الفيلم على مقومات حكائية خفيفة، يمكن أن تمحوها لو السحرية. ماذا لو لم تقول الشخصيات ما قالته؟ وقتها لن يكون لدينا فيلم.
البوح كحامل رئيسي للفيلم أضعفه بدل أن يدعمه، مثل كشف سر كان متفق على السكوت عنه، وعرفنا بأنه أمر بديهي للجميع. (أبوة الابنة وملكية الأرض) لنلاحظ بأنه ما من داعي للقول، فالمشاهد قد وصل وحيدًا لما تريد الحتوتة أن تقوله. وهذا ما جعله فيلمًا ضعيفًا أمام ما كشفه من أسرار. لم يبتعد فرهادي فقط عن إيران بل ابتعد كل فيلمه. صبغت كاميرا المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار أطرافه، ربما بسبب حرفية المصور الإسباني خوسيه لويس ألكاين، الذي أدار مهمة تصوير الفيلم متأثرًا بتاريخه الطويل مع ألمودوفار وكارلوس ساورا، ليصبح فيلم فرهادي ابنًا جديدًا لتلك البيئة بلقطات ملونة وحبكة سوداء.
ختامًا تحسب لفرهادي هذه المرة باستحقاق بأنه من بين المخرجين القلائل ممن تمكنوا من تجاوز مشكلة اللغة وغرابة المكان، لإنتاج فيلم بصبغة إسبانية، ربما لأن مهمة الغريب دائمًا ملاحظة التفاصيل المسكوت عنها.