بعتبة إهداء بليغة كاشفة لسرّ الحكاية، يفتتح الشاعر عبد اللطيف البطل ديوانه ” امضيغ الريح “، عتبة تُجلي أبعاده البلاغية والمعرفية، وتسمح بفتح كوّة تخرق نسيج النص المحكم البناء،تماما كما قال الشاعر في قصيدته ” خيال ظلمة”:”كيفاش خيط سدى تسرّب”.
وتتيح إمكانية الإطلالة على الخلفية الكامنة وراء النصوص، وكأني بالشاعر يدرك استعصاء الانتقال من نموذج شعري الى آخر…بقدر ما في هذا الانتقال من استحضار للمتلقي بكل عرفه الراسخ في استقبال النص الزجلي ذي التعبير العامي، المؤسس داخل الثقافة العامّة بكل روافدها الشعبية، في مقابل ثقافة خاصة تستدعي هي أيضا استحضار الروائع الإبداعية التي وشمت ذاكرة ثقافية تجعلنا نعيش مواقف لاحدثية في وجودية شاعرية لا تشوبها الحوادث، بقدر ما فيها من صعوبة التحوّل المشروع من سياق الى آخر تحت ضرورة منطق الارتقاء، وتطوّر الأنواع درءا لكل جمود مميت .
عتبة اعتماد بتعبير إبراهيم النظام تخوّل للسهم فعل الاهتزاز داخل القوس قبل حصول حركة النقلة والانطلاق حتى لا يخطئ الهدف، تماما كما قال الشاعر البطل: “نبلة متلفة عنوان القلب”.
هي العتبة التي شبّهت المصادر القابعة في دهليز الزمن ب”الأصوات الغريبة” بجاذبية عجائبية ضمنية، ووزّعتها إلى مراجع قلبية تحسن الرقص البلاغي ب”أحذية مختلفة الأحجام والأشكال”، وأخرى تنجيمية مستقبلية على شاكلة أوراق التاروت، فيحصل التركيب الحاسم لكل جدلية…فإذا هو التماثل المنصت لنوابض الدواخل في السفر العابر للقارات الإبداعية، الموحّد للطبيعة البشرية.
سفر بفعل الريح، وهي تفعل فعلها الأسطوري في مضغ الحقب واحتوائها، سفر هرمسي مجازي ينطق بلغة الرموز والاستعارات، وطفو السرعة في الكشف عمّا اعترى ويعتري النفس البشرية، دون كبير اهتمام بهاجس الجنسية والانتماء…رحلة بقوّة الرياح تحيل إلى حركة الشراع في مكابدة توالي الموجات التاريخية العاتية…شراع يطوي المسافات بمضغ أرقام الحدود غير عابئ بهوس مسقط الرأس، ولا ببلاد الإقامة…فعل سحري يستند لأوراق التاروت ليخلق عالمه العجيب في دهشة الجالس المتقرفص أمام ” الشوافة” في سوق عمومي بين دوائر أواخر الحكواتيين، تكشف له طالعه وطالع الآدمية المبتغاة….
ديوان ” امضيغ الريح” هو طي المسافات، سفر على بساط بين الحقب الإبداعية، يؤاخي بين المدون السابق واللاحق في وصفة تشريحية لطبيعة الطبيعة البشرية، وتماثل خباياها، تحت سلطة امرأة تلاعب أوراقا بها كأس وسيف وعصا وقرص ذهبي، ترمز به الى العناصر الأربعة : ماء وهواء ونارا وترابا، بقوة قضية وجدانٍ يناقض عقلا فيلد تركيبا يوحّد صدق التعبير الناهض من صدق العلاقة بين تربة القلب وسقف العقل، وهو الصراع الأبدي الذي طالما أرّق الصادقين…
فكان الاشتغال الشعري في ” امضيغ الريح” بتعبير الشاعر” رواية مدفونة فروضة الكتوبا كتحمل جينات…”، تحويلا للصور البصرية الكامنة في الروائع الأدبية العالمية المقترنة بوقائع وأحداث كان لها شرطها الذاتي والموضوعي إلى صور ذهنية، إلى تمثلات قال عنها سارتر إنّها المستشعر الحادس بالحركات والرغبات اللاشعورية المشكّلة للهيكل الحيوي للشبكة التخييلية…ثم تحويلها إلى صور بصرية سابحة تقودها الريح إلى حيث اشتهت أن تكون…بعملية أسطرة تؤاخي بين النماذج البشرية التي وحّدتها الطبيعة البشرية صراعا بين الخير والشر…واختبار قدرة الكائن البشري على التحمّل متربّعا أمام عرّافة الزمن، أمام اثنتي عشر قصيدة بعدّ أرقام أوراق التاروت المغربي، واضعا يده على صدره، ومردّدا تعويذة الخلاص بين القضية ونقيضها…وتركيب التفسير المشتهى في محاولة لقبض المنفلت العابر في سفر ما تسحقه الريح:
– “ها…قلبي”
– ” ها.. تخمامي”
– “ها..باش ياتيني الله” .
يقول الشاعر في قصيدة ” الرعدة “: ” سالف الروح فالجذبة تالف” كناية على صوت القلب الغارق في كومة الصخب، لا نأمة له غير الانخراط في لعنة الترف المقيت، حيث اختيار قبح اللذة من بين مدارج التعب مقرونة بالخوف حدّ التخمة الموصلة القلبَ درجة اشتهاء الموت، يقول : “ويلا جات الموت كلشي رباح ” تماما كالحب الخائف من ارتكاب الخطايا ، كذلك لهج قرينه في الضفة الأخرى “ستيفان زفايغ” في رائعته ” الخوف” حين ربط الخيانة بالترف، فكان الانتحار سبيل الجمع بين المتناقضات…وكذلك كان في قصيدة ” ساعة فوق الشبعة ” حيث الحلم يكتشف خيباته في الواقع المرّ المقيّد بسلاسل التشرّد والأسر…والحلم على علاته يعاند الواقع ليظل حلما، يقول الشاعر: “لو الحلمة ركبات جناوح…لو ما كان جرحي كارح “، تماما كما قال قرينه في الضفّة النازية، “يوهان موريتز” بطل ” الساعة الخامسة والعشرين” على لسان الزجّال بنبرة احتجاج : ” علاش يوهان يتهان…ما هو طاعون فبرغوت الفيران”، ضحية لا بطلا، بين عقارب ساعة تطحن بني البشر في منطق ” الأزمنة الحديثة “، حيث يقول الزجّال: “هضرت المكينة…غير خدّاعة…تكرّع الوقت وتقيْا ساعة”، ساعة تضبط نبض الآدمي على آلة الوقت، فتمضغه ريحها مضغا في كينونة ذات بعد واحد…
وفي قصيدته “المرستان 36″، يتساءل الشاعر باندهاش أمام “عرّافة” الوقت: “شكون اللي مكتّفنا بسناسل …مدوّر على عنكو ساروت” على غرار صاحب ” العنبر رقم 6″ وهو يكتشف في عالم سجن الجنون ضالته ليصاب هو أيضا بالجنون لمّا أنصت لصوت العقل المجنون، ليجيب الشاعر نفسه:” عطيني أنت من وقتك دقيقة…نعطيك العالم كلو مرعوب” ليتماهى وحمقه، ويشتهي صفعة تفيقه من أحلام القلب، وتفتح أمامه مسارب ” التخمام”.
ومن أرض العوز والضجيج، الفقر ومشتقّاته، ينهض المداد ليخطّ كبرياء القلم بحبّ، يقول الزجّال:” ورقة ومداد…وقلم مربّي…واخد الحب من العفّة سلكا…”،وذلك لتدوين رسالة توأم القهر والعفّة، الجوع والجود، تماما كتلك الرسائل المعسورة مالا، الميسورة حبّا، التي خطّها “ماكار” لحبيبته “فارفارا” في رائعة دوستويفسكي، وهو يؤبّد فضيلة العشق في عالم الفقر والفقراء نكاية ب” مضيغ الريح، يقول الزجّال: ” سرقني الريح …ورهن لوصال…واش بقا لي…من غير الكتبة”.
بذا، وبغيره الكثير ممّا يزخر به ” امضيغ الريح”… في انفتاح النصوص على بعضها، لا فرق بين عامّها وخاصّها، استطاع الشاعر البطل بثقة العارف، خوض تجربة التناص الخصب.
إنّه الأمر الذي لا يحصل إلا عندما تكون ثقافة ما قد ضاقت بطابعها الجامد المغلق والمستقل ، وأصبح لها وعي بذاتها كجزء ثمين في السجادة الكبرى بين الثقافات واللغات الأخرى، وهي تدرك وحدة الكائن في التآخي الجمّ بين النصوص والواقع : تناص أموات النصوص وتناص أصوات الواقع، بالإحالة إلى وحدة الكائن البشري وتماثل الطبيعة البشرية، حيث يصبح الواقع نصّا قابلا أن يتحول هو نفسه إلى مرجعية قابلة للاستثمار في القادم من النصوص…لذا كانت النصوص إهداء من الأب للابن ليعود إلى الوصايا المجازية يستنطقها، علّه يضيف صوتا آخر لأصوات التاروت، صوتا يصدح بإنسانية الإنسان في طاحونة الريح….فيجدّد نبرة الحكواتي الأخير…تقول آخر شذرة في آخر قصيدة له في الديوان بعنوان ” زريعة الحب”:” شميسة مخبية فبسمة…غارسة فلحب زريعة”….
أصوات التاروت
الكاتب : عبد الإله رابحي
بتاريخ : 15/11/2024