4 رافعات في المشروع ستجعل المغرب يدخل نادي الكبار
في صناعة محركات الطائرات
ترأس جلالة الملك محمد السادس، مرفوقا بولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير مولاي الحسن، صباح الاثنين حفل تقديم مشروع المجمع الصناعي الجديد لمجموعة «سافران» الفرنسية في منطقة النواصر. الحفل لم يكن مجرد إطلاق لمشروع صناعي جديد، بل إعلانا عن مرحلة نوعية في مسار التحول التكنولوجي في صناعة الطيران الذي تخوضه المملكة.
خلال الحفل، وُقعت ثلاث اتفاقيات رئيسية تشكل ركائز هذا التحول: الأولى تهم إنشاء مجمع لتجميع محركات الطائرات، والثانية لتزويد مواقع المجموعة في المغرب بالطاقة المتجددة بحلول عام 2026، والثالثة تخص تخصيص الوعاء العقاري داخل المنصة الصناعية «Midparc» التي أصبحت اليوم رمزا لصناعة الطيران الوطنية. وفي لحظة رمزية، كشف جلالة الملك عن محرك «LEAP-1A» الذي يعد من أكثر المحركات تطورا في العالم، ووقف إلى جانب طلبة معهد مهن الطيران بنواصر الذين يُنتظر أن يلتحق عدد منهم بالمجمع الجديد، في دلالة على تكامل البعدين الصناعي والبشري في هذه الدينامية الجديدة.
هذا الحضور الملكي المكثف أعطى إشارة قوية على أن المشروع يتجاوز الطابع البروتوكولي، ليجسد جزءا من الاستراتيجية الوطنية الهادفة إلى توطين الصناعات المتقدمة وتعزيز مكانة المغرب في سلاسل القيمة العالمية ذات التكنولوجيا العالية. فالمجمع الجديد لا يمثل توسعة عادية لأنشطة قائمة، بل نقلة نوعية تنقل الصناعة الوطنية من مرحلة التركيب الجزئي والخدمات المساندة إلى مرحلة الإنتاج الحقيقي ذي القيمة المضافة العالية.
1- مجمع متكامل للتجميع والصيانة بطاقة إنتاجية غير مسبوقة
يتكون المشروع من وحدتين رئيسيتين متكاملتين ستشكلان نواة المنظومة الصناعية الجديدة لـ«سافران» في المغرب. المكون الأول هو مرفق للصيانة والإصلاح (MRO) مخصص لمحركات الطائرات، باستثمار يقارب 1.3 مليار درهم (حوالي 120 مليون أورو) وبطاقة معالجة تصل إلى 150 محركا سنويا، ما سيتيح خلق 600 منصب شغل مباشر في أفق سنة 2030. أما المكون الثاني، فهو وحدة للتجميع النهائي لمحركات LEAP-1A، باستثمار يناهز 2.1 مليار درهم (قرابة 130 مليون أورو) وبطاقة إنتاجية تصل إلى 350 محركا سنويا، ومن المنتظر أن توفر 300 فرصة عمل إضافية بحلول عام 2029.
بهذا الحجم الاستثماري، تُقدر الكلفة الإجمالية للمجمع بنحو 250 مليون أورو، ضمن استثمارات «سافران» التي تتجاوز 350 مليون أورو بالمغرب بعد احتساب توسعة ثلاثة مواقع صناعية قائمة. وتؤكد هذه الأرقام أن المملكة أصبحت من بين الوجهات القليلة في العالم التي تحتضن نشاط التجميع النهائي لمحركات الطائرات التجارية، وهي مرحلة تتطلب كفاءات هندسية متقدمة وقدرات تكنولوجية عالية.
المرحلة الأولى من المشروع، المبرمجة لافتتاحها نهاية سنة 2027، ستخصص للصيانة والإصلاح، فيما ستبدأ وحدة التجميع النهائي مرحلة الإنتاج في سنة 2028. ويُنتظر أن يشغل المجمع بكامله أكثر من 900 مستخدم مباشر إلى جانب آلاف فرص العمل غير المباشرة ضمن منظومة الموردين المحليين.
الرئيس التنفيذي للمجموعة الفرنسية، أوليفييه أندرييس، أوضح خلال الحفل أن هذا المشروع «هو الوحيد خارج فرنسا الذي سيُركّب فيه محرك LEAP»، مؤكدا أن اختيار المغرب جاء نتيجة «ثقة راسخة في كفاءة اليد العاملة المغربية وقدرتها على الالتزام بمعايير الجودة العالمية». وأضاف أن مصانع المجموعة في المملكة «تتموقع اليوم في قلب شبكة الإنتاج والصيانة العالمية لسافران، وتستجيب لأعلى المعايير التقنية والصناعية».
2-تحوّل استراتيجي في موقع المغرب داخل الصناعة الجوية العالمية
إن دخول المغرب مجال التجميع النهائي لمحركات الطائرات يمثل تحولا بنيويا في تموقعه الصناعي. فبعد أن كانت المملكة تقتصر على مراحل التركيب الجزئي أو الخدمات المساندة، أصبحت اليوم جزءا من الحلقة العليا في سلسلة القيمة العالمية لصناعة المحركات الجوية. هذا الانتقال يترجم نجاح الاستراتيجية الصناعية الوطنية في التحول من صناعات خفيفة إلى صناعات عالية التقنية تخلق قيمة مضافة كبيرة محليا.
ويعد محرك LEAP-1A من الجيل الجديد الذي يزوّد أساسا طائرات Airbus A320neo وA321neo، ويعتبر من أكثر المحركات كفاءة في استهلاك الوقود وتقليص الانبعاثات بفضل هندسته المتقدمة وتقنياته الحديثة. كما أن المشروع يعكس انسجاما كاملا مع التوجه الوطني نحو التصنيع الأخضر، إذ تم توقيع اتفاق لتزويد كل مواقع «سافران» في المغرب بالطاقة المتجددة بشكل كامل في أفق 2026، في توافق مع الأهداف البيئية التي تراهن عليها المملكة ضمن سياساتها الصناعية الجديدة.
اختيار «سافران» للمغرب لتوطين أول وحدة تجميع خارج فرنسا يحمل دلالات استراتيجية. فهو يعزز موقع المملكة كبوابة إقليمية تربط بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، ويضعها في مصاف الدول القادرة على استضافة أنشطة صناعية معقدة تتطلب دقة هندسية عالية واستقرارا مؤسساتيا واقتصاديا. ومن المتوقع أن يساهم هذا المجمع في رفع الصادرات الجوية المغربية من 2.36 مليار يورو حاليا إلى 4.72 مليار يورو خلال السنوات المقبلة، وفق ما أكده وزير الصناعة والتجارة رياض مزور، مما يعكس مضاعفة حقيقية في المردودية الاقتصادية للقطاع.
الرئيس التنفيذي الفرنسي شدد على أن المغرب «لم يعد موقعا تابعًا للإنتاج منخفض الكلفة، بل شريكا صناعيا حقيقيا»، مشيرا إلى أن هذا التوجه يستجيب أيضا للطلب العالمي المتزايد على محركات LEAP، التي تعمل اليوم على أكثر من 4000 طائرة في العالم، وتستفيد من دفتر طلبيات يفوق 11.500 محرك.
3-دينامية اقتصادية ومعرفية تدعم مكانة المغرب الصناعية
الانعكاسات الاقتصادية للمشروع لا تقف عند حدود التشغيل المباشر، بل تمتد إلى تحريك منظومة واسعة من الموردين المحليين وشركات المناولة. فأنشطة الصيانة والتجميع تتطلب قطعاً ميكانيكية دقيقة ومكونات إلكترونية وأنظمة اختبار متقدمة، ما يفتح الباب أمام مئات الشركات المغربية للانخراط في السلسلة الإنتاجية، وتوسيع القاعدة الصناعية الوطنية.
كما يُنتظر أن يؤدي المشروع إلى نقل تكنولوجي واسع النطاق عبر برامج التكوين والتدريب المتقدمة التي أطلقتها «سافران» بالمغرب، ومنها معهد مهن الطيران (IMA) الذي تأسس سنة 2011، وجامعة سافران التي أُنشئت سنة 2023 لتأهيل الكفاءات المغربية في الميكانيك الدقيقة وأنظمة الدفع والهندسة الصناعية. ووفق تصريحات أندرييس، تعتزم المجموعة توظيف 2000 شخص جديد في مواقعها المختلفة بالمملكة خلال السنوات الخمس المقبلة، وهو ما سيعزز التوطين البشري والتقني داخل القطاع.
وفي بعد آخر، سيسهم المشروع في تعزيز موقع المغرب في سلاسل التوريد العالمية. فوجود مجمع صناعي بهذا الحجم سيشجع شركات أخرى في قطاع الطيران على نقل أنشطتها إلى المملكة، سواء لتقليص التكاليف اللوجستية أو للاستفادة من قربها من مركز التجميع. كما سيخلق ذلك منافسة إيجابية تدفع نحو رفع مستوى الابتكار والإنتاجية في كامل المنظومة الصناعية.
من جهة أخرى، يكتسي المشروع بعدا بيئيا بارزا. فاعتماد الطاقة المتجددة في تشغيل منشآت سافران يتناغم مع التزامات المغرب في إطار التحول الطاقي، ويجعل من المشروع نموذجا للتصنيع المستدام. المسؤول الفرنسي أكد أن «المغرب بما يملكه من موارد طبيعية فريدة يُعد شريكا مثاليا لتحقيق أهداف الاستدامة الصناعية للمجموعة»، مذكرا بأن هذا التوجه يعزز «البعد الأخضر في سلاسل القيمة الجوية العالمية».
4-نحو إدماج أعمق في نادي الدول المصنعة للمحركات الجوية
من الواضح أن المشروع الجديد لا يمثل نهاية المسار، بل بداية مرحلة جديدة من التحديات. فلكي يتحول هذا المجمع إلى علامة صناعية راسخة، يتعين على المغرب المضي في توطين سلاسل التوريد وتطوير البحث والتطوير في مجال أنظمة الدفع الجوية. ويتطلب ذلك، كما يؤكد الخبراء، استراتيجيات تكوين متقدمة في الجامعات والمعاهد التقنية، وبرامج دعم مستدامة للموردين المحليين من أجل بلوغ المعايير الصارمة التي تعتمدها الشركات العالمية في هذا القطاع.
كما يظل عنصر الاستمرارية في الطلب العالمي عاملا حاسما. فصناعة المحركات الجوية تعرف تنافسا تكنولوجيا محتدما، وتخضع لدورات اقتصادية مرتبطة بحركة النقل الجوي الدولية. لذلك، يتعين على المغرب ضمان مرونة إنتاجية وقدرة على مواكبة التطورات التقنية المستجدة في الأجيال الجديدة من المحركات.
وتُبرز هذه الخطوة أن المغرب يسير بثبات نحو الانضمام إلى «نادي الكبار» في صناعة الطيران، من خلال تموقعه ضمن الدول القليلة التي تمتلك وحدات إنتاج وصيانة لمحركات الطائرات التجارية. فبعد 26 سنة من الشراكة مع «سافران»، التي بدأت سنة 1999 بمصنع صغير لصيانة محركات CFM56، استطاعت المملكة أن تراكم خبرة وسمعة دولية جعلتها مؤهلة لاحتضان هذا التحول الكبير.
اليوم، تُشغل المجموعة الفرنسية أكثر من 4800 مستخدم في عشرة مواقع إنتاجية بالمغرب، وتنجز 145 ألف عملية تركيب وتجميع سنويا، ما يجعل حضورها ركيزة أساسية في المنظومة الصناعية للطيران الوطني. ومع إطلاق المجمع الجديد بنواصر، تنتقل العلاقة بين الطرفين إلى مستوى جديد من الشراكة الاستراتيجية القائمة على التصنيع ونقل المعرفة، وليس فقط الخدمات أو المناولة.
بهذا المشروع، سيكرس المغرب مكانته كمنصة صناعية متقدمة تربط بين القارات الثلاث، ويوجه رسالة قوية إلى العالم مفادها أن المملكة لم تعد فقط وجهة لجذب الاستثمارات، بل أصبحت شريكا صناعيا موثوقا يساهم فعليا في إنتاج تكنولوجيا المستقبل. ومع كل خطوة جديدة في هذا المسار، تترسخ الرؤية الملكية في جعل الصناعة الوطنية رافعة للتنمية الاقتصادية، ومعبرا نحو سيادة تكنولوجية تدريجية تضع المغرب في قلب الاقتصاد الصناعي العالمي.