أغلبهم تم تعيينه بمنطق «سدّ الشواغر» لا بـ «تحقيق القيمة» .. المختص الاجتماعي في المدرسة: حضور صامت وغياب يصرخ

في زمنٍ تتفاقم فيه الاضطرابات النفسية والسلوكية داخل المدارس، وتزداد فيه حاجتنا إلى من يفهم التلميذ ويحتويه، كان من الطبيعي أن يبرز المختص الاجتماعي كركيزة أساسية في المنظومة التربوية، وصمام أمان يحمي المدرسة من التصدع الإنساني والتربوي، لكن الواقع المؤلم يقول عكس ذلك: حضورٌ شكليّ لا أثر له، وغيابٌ تتحدث نتائجه بصوتٍ عالٍ.
لقد وُجدت فكرة «المختص الاجتماعي» أصلاً لتكون مبادرة تربوية نبيلة، هدفها دعم المتعلم نفسيا واجتماعيا، وخلق صلة حقيقية بين المدرسة والأسرة، وتحصين التلاميذ من العنف والانحراف والعزلة. غير أن التطبيق جاء مشوّهًا؛ إذ تحوّل المنصب إلى مجرد خانة إدارية تُملأ دون رؤية، ودون تأهيل علمي أو متابعة مهنية جدّية، فقد تم تكليف أشخاص بحمل هذا اللقب دون أن يُزوّدوا بأدوات المهنة أو مهاراتها. فكيف يمكن لمختص اجتماعي أن يتعامل مع الاكتئاب المدرسي أو التنمر أو التفكك الأسري، وهو لم يتلقّ تدريبًا في علم النفس، ولا في مهارات الإصغاء، ولا في أساليب التدخل التربوي الفعّال؟ وهكذا انحرف الدور الإنساني إلى روتينٍ إداري جامد: استمارات تُملأ، وتقارير تُكتب، ومحاضر تُوقَّع، بينما تبقى المشكلات الحقيقية من دون حلّ.
حين يُختزل العمل الاجتماعي في أوراقٍ وتقارير، تفقد المدرسة جزءًا من روحها. فالتلميذ الذي يئنّ بصمت لا يحتاج إلى ملفٍّ يوثّق معاناته، بل إلى إنسانٍ يُصغي بصدق، ويحتويه، ويمنحه شعورا بالأمان. غير أن معظم المختصين اليوم ينعزلون في مكاتبهم، بعيدا عن نبض الحياة المدرسية، فلا يعرفون وجوه التلاميذ ولا قصصهم، وهكذا يصبح وجودهم مجرّد حضورٍ بلا أثر، أشبه بظلٍّ إداري لا روح فيه. لكن الأزمة أعمق من الأفراد، فهي أزمة منظومة بأكملها. فقد تم تعيين المختصين بمنطق «سدّ الشواغر» لا بمنطق «تحقيق القيمة»، وغابت الرقابة والتقييم والتكوين المستمر، فكان طبيعيا أن يتحول المختص الاجتماعي إلى موظف يملأ الفراغ، بدل أن يكون رافعةً تربوية فاعلة داخل المدرسة.
إن إصلاح هذا الوضع لا يكون بقرارات فوقية ولا بخطابات تجميلية، بل بإعادة بناء الدور من الأساس: تكوينٌ علمي ونفسي متين، وتمكينٌ مهني حقيقي، وإدماج المختص الاجتماعي في الفريق التربوي كشريك في صناعة القرار، مع منحه الاستقلالية التي تتيح له التدخل الحر والمسؤول، حينها فقط يمكن أن يستعيد المختص الاجتماعي مكانته كضمير المدرسة، وملاذ التلميذ، وجسر التواصل بين المدرسة والأسرة والمجتمع. فالمشكلة ليست في وجوده، بل في طريقة وجوده. فإما أن يكون نبض المدرسة الإنساني، أو أن يظلّ توقيعا باهتا في أسفل ورقة لا تروي شيئا من معاناة الواقع.


الكاتب : محمد تامر

  

بتاريخ : 08/10/2025