أكدالوكس: بين لذة السرد ومشقة البحث عن المعنى

يسافر بنا كاتب رواية أكدالوكسفي عوالم يطبعها التيه والحيرة. فبين آلام حيطان السجون المغلقة، وحميمية شقق العمارات، وأسرار الإدارات، ومظاهر شوارع أكدال، وُلدت حكاية أكدالوكس، خرجت إلى العالم عارية، فألبسها يوسف توفيق ثوبا مزركشا من الأساليب والصور البلاغية ما جعل منها رواية يصعب تصنيفها وتحديد معالمها، فإذا ما اقتفينا أثر المعاني الممكنة المحتملة للمضمون وجدنا أن الروائي حاول أن ينقل حياة الأكداليين بتتبع حياة كمال جبرون الشخصية الرئيسة وهو يلفظماضيه من خلال جلسات التنويم المغناطيسي وتقنية الاسترجاع الذاكراتي.
وقد نجح يوسف توفيق في تقمص شخصية الطبيب النفساني وهو يتابع بكل موضوعية جلسات العلاج، وكأن كمال جبرون مستلق على أريكة يبوح بالتجارب التي ترسبت في اللاوعي، ولا سبيل للإفصاح عنها إلا عن طريق السرد، وبذلك سخر الروائي يوسف توفيق ساردا عالما بأسرار وخبايا الشخصيات ونفسيتها وهواجسها وأفكارها و استيهاماتها ورغباتها، عبر تقنية الرؤية من خلف التي فسحت المجال أمام السارد ليكشف اللثام عن حياة الأكداليين وخباياهم وكشف المستور والمتوارى.
موظفا تقنيات عدة وأساليب متنوعة منها الفلاش باك والجمع بين المتناقضات، بين المنطقي والعبثي، وما الحياة التي تدب في أحياء أكدال إلا مرآة تبدي مظاهرها غير ما تخفي.
ولعل انتقاء اسم أكدالوكس عنوانا للعمل الروائي ينطلق من مرجع الفضاء الذي جرت فيه أحداث الرواية «أكدال» وهو المكان الذي يحمل معاني ذات مرجع أمازيغي، يقابله في اللغة العربية معنى «الحماية»، وقد وظف الكاتب هذا الاسم ليصور حياة الأكداليين المحميين بالمال والسلطة ومظاهر القوة الناعمة في حبكة انصهرت فيها أدق تفاصيل الشخصيات وحياتهم المعيشة وكذا علاقاتهم في ما بينهم التي يطغى عليها الجانب المادي والعنف الرمزي، ويظهر ذلك جليا في التواصل في ما بينهم والحوار بلغة موليير وفيكتور هيكو.
ولم يغفل الكاتب تسليط الضوء على الفئات الدخيلة على حي أكدال كذلك -تلك التي ساقتها الأقدار للعمل والاستقرار هناك، والتي انصهرت في برستيج أكدال ومظاهره، متناسية بذلك النقطة الهامشية التي ارتبطت بها هويتها ووجودها، والتي جعلت المال والهرم الاجتماعي محددا جديدا للهوية المزيفة.
وإذا كان الكاتب قد فصل في بعض تفاصيل البورجوازية التي تغدق في نعيم وملذات الحياة، فإنه عرى واقع الفئة الأخرى التي اختفى بريقها وانمحى وجودها بوجود أولي نعمتها، فكان الانتساب إلى أكدال أقصى طموحها ولو بالسكن في مساحة لا تتجاوز المتري مربع، فهي تتجند لخدمة الأكداليين، تتكلف بالسخرة، وتأخذ الكلاب في نزهة صباحية، وتخرج القمامة، بل إنها مستعدة للقيام بأي عمل بدون شرط أو قيد بما في ذلك القوادة.
ولأن كل شيء يباع في أكدال، فإن كل واحد يعرض منتجاته للآخرين، لكل شيء ثمنه، ما قد يكون غاليا في الأحياء الهامشية، قد يعلو سعره في شارع عقبة، «..السيقان البيضاء العارية التي يرى مخ عظامها، والأرداف المكتنزة المترنحة المائلة هكذا وهكذا…أتأمل إبداع الصانع فيما صنع»
ويشترك العارضون في نهاية الأمر في البحث عن «المال». ولكن هناك من يروم الجمع بين المال والسلطة مؤمنا بالتفكير المكيافيلي « الغاية تبرر الوسيلة».
ومع ذلك، ليس كل من يقطن حي أكدال يبحث عن المال والسلطة؛ فكمال جبرونالذي يمثل الهامش، يبحث عن بعض اللوكس فقط، وهو مثال للكثيرين الذين يضحون بالأجرة كلها من أجل التصنيف الاجتماعي ، لعله ينعم بالاحترام، ويجد الحب، وما فشله في ذلك إلا اعتراف صريح بتوغل قيم الرأسمالية الجشعة  وثقافة المظاهر الخداعة «منظري يثير موجة ضحك كبيرة»، ففي أكدال من لا مال له، لا حظ له في الحب، وهو يخضع لمنطق البيع والشراء أيضا.
لقد عرى الروائي بنظرة ثاقبة وعمق إنساني عن حياة السجناء، لقد أوفى هذه الفئة حقها سردا ونقدا، إلا أنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل -وبلغة صارمة-أزال الستار عن معاناة فئات أخرى كالموظفين والحراس الذين لم يسلموا من تعنت السلطة الإدارية ومحسوبيتها «بعد أسابيع قليلة عينت الدلوعة رئيسة مصلحة، وهنا أيضا كان عليهم أن يضحوا بالمهندس الشاب ذي اللحية الخفيفة الذي كان يشغل تلك المسؤولية، وطبعا يوجد أكثر من سبب لترقيتك في الإدارة ويوجد أكثر من سبب لإعفائك».
كانت هذه بعض الموضوعات التي استأثرت باهتمام الروائي يوسف توفيق واستنفدت جهده واهتمامه، وأرقت وعيه، فكان السبيل إلى إرضاء صوته الداخلي «البوح بها»وقد فعل ذلك باصطفافه وراء السارد، وفي بعض الأحيان بحضوره داخله، فهو توأم روحه-بتعبير الناقد محمد الداهي-وهو الصوت الذي يتحكم في السرد ويهيمن عليه.
وقد نجح الكاتب في إيصال معانيه إلى القارئ عبر القالب السردي الذي انتقاه بعناية ليكون خزانا لأفكاره، واللغة البسيطة التي اختزلت همه وقلقه والتي تجمع بين السهل والممتنع- والأساليب المتنوعة بين مجازات وتشبيهات وتضادات، وجناسات، وتقابلات…تمنح النص جمالية وتفردا كما تعكس في عمقها التناقضات التي تغرق فيها المجتمعات خاصة المتخلفة منها «إياكم أن تعتقدوا أني سوف أعاقب عندما تعرف الإدارة أني لص كبير».
بالإضافة إلى ذلك، فقد ألفت الرواية بين خليط متجانس من أشكال التمثيل، فإضافة إلى ممكنات السرد والحوار، تتنوع أشكال التمثيل الشعري إذ تضم الصور المكثفة والتذكرات يعتمد فيها الروائي على استعمال لغة متفردة وصور بلاغية تساهم في توسيع خيال القارئ والسفر به إلى عوالم جديدة: «ركن بيتي حديد..سقف بيتي حجر…

كما تميزت لغته الروائية بالتأليف بين الفصيح والعامي في بعض الأحيان من خلال توظيفه لبعض التعبيرات من قبيل:
«بًّا المداني» -بّا بمعنى أبي»، اللهم ريحتو ولا فضيحتوا، عنداك ما تجيش.. وغيرها من الاستعمالات المهجنة والتي يمكن اعتبار حضورها ذي مقصدية ورمزية ثقافية ولما لها من حمولات ثقافية-ساخرة في بعض الأحيان تؤثت للسياق الذي يؤطر الأحداث وتضع القارئ ضمنه، وقد استأثرت هذه اللغة (المهجنة) باهتمام روائيين آخرين من قبيل محمد شكري ومحمد زفزاف.
أكدالوكس، تلك الرواية التي ألفت بين متعة السرد وشقاوة المعنى، طبعَها النقد والسخرية اللاذعة، فجعلت الرمز دليلها، متجاوزة بذلك ظاهرية الأشياء وسطحيتها، مزيلة الستار عن تفاهة الواقع وبلادته.
فعبر سرد إنساني توق كاتب -أكدالوكس- بمداده المنساب رسم واقع اجتماعي يسع كل الفئات والطبقات دون تهميش أو إقصاء. وقد خاض التجربة محترقا كالعنقاء مؤمنا بفكرة الإنسان والقيم الإنسانية في شموليتها ورحابتها.


الكاتب : جميلة حمداوي

  

بتاريخ : 16/01/2024