(ليس سهلاً أن تكونَ امرأة وكلّ لُغاتِ الأرض ضِدّك)
في هذه الورقة جُمَاعٌ لما كان يَنْقَالُ فيَّ وأنا أقرأ كتاب آمال الحرفي الذي سَمَّتْهُ «عبور»؛ أيْ ما نَتَجَ عن فعل القراءة من تداعيات وتقابلات وتأويلات وإحالات على نصوص لمفكرين وروائيين وشعراء، وعلى وقائع وأحداث عرفتها البلاد.
كلّ حدث مهما كان حجم وقعه، لا بدّ مع الوقت يتوارى إلى الظل ويطاله النسيان، ولا سبيل إلى استعادته من دون الاستعانة بالحكاية. وأنا أقرأ، لاحظتُ أنّ حكايات مجموعة «عبور» كُتِبَتْ بإيعاز من الطّفلة التي تسكن الكاتبة. وأنا أتهيّبُ من مُحاكمة الأطفال، لأنهم ينظرون بالقلب. لذلك نقول، حذار من حكايةٍ تستندُ إلى شهادة طفل.
ومفردة «عبور» هي أيضاً عنوان القصة الثالثة في الكتاب؛ كتابٌ مَحْكِيَاته صِيغَتْ بلغة شفيفة خفيفة دقيقة في التّصوير والتّقريب والفحص، كتابٌ مكتوبٌ بحُبّ وبأسلوب سهل سلس، مُحْكَمُ البناء، يُجاوِبُ على الغرض بذكاء؛ فالْحَكْيُ صنعة. وكلّ كتابة تنأى بنفسها عن الحذلقة، كتابةٌ صادقةٌ، لا بدّ تجعلك تتعرّف على نفسك من جديد. فالكتابةُ مستوياتٌ؛ الكتابةُ طبقاتٌ من أمْزِجَةٍ وأقنعةٍ وحيّلٍ وصراع وألم؛ إنها سَفَرٌ في الوجود، وغَوْصٌ في الذّات الإنسانية تستخرج منها الصور.
التّجربة البشرية سِرٌّ مخفي في الحكايات. وبالقراءة نُحَرِّكُ الزَّبُورَ لينكشف السّر. تقول «فيرْجِينيا وُوُلفّ من خلال شخصية أحد نصوصها الروائية: «إننا نعيشُ في الآخرينَ، ونعيش أيضاً في الأشياء». لذلك، عِنْدَ تحريك المكتوب يجب أن نكون حذرين، كما في حَالِ عالِم الأثار، يَعْرِفُ أنّ كلّ ضربة بتلك الفأسِ الصّغيرةِ أو لَمْسَةِ من فرشاة نَفْضِ الْغُبَار، إن زاغت واحدة من الحركتين، أَتْلَفَتْ ما يمكن أن يحفزَ أكثرَ المخيّلة على صياغة صورة أقرب بكثير إلى الحقيقة المنشودة.
ومحكياتُ «عبور» مخاتلة، وبقدر ما تبدو بسيطة واضحة فهي مليئة بالبياض. والبياض هو إمكان هائل للولادة. لذلك، فالسؤال الخطير الذي تطرحه دون أن تعلن عنه مباشرة، هو: ألَيْسَتِ الأنُوثة مسؤولية أخطر من الذكورة؟
كان غرضي الأول من هذه الكلمة هو حَفْزُ القارئ الّذي لم يقرأ الكتاب على تناوله، لذلك جاءت على هذا الشكل، فقرات تفاعلت مع القصص كما هي في ترتيب الكتاب.
اختلف الأمر.
لو لم تكن هناك وقفة احتجاجية صغيرة، في الجهة الأخرى من الشارع، قُدّام باب المدرسة، لما أطلت تلك المرأة من شرفتها. لكن، أكانتْ ستفتحُ لنا بابَ الذاكرة لو لم تصدح تلك الحناجر الصغيرة وأمهاتها احتجاجاً على حقّ ضائع؟ نَظَرَتْ وبسرعةٍ أقفلت باب الشّرفة وعادت إلى الدّاخل، لكنها لم تستطع منع أصوات ذلك الجمع القليل من التّسلّل إلى أذنيها. جَمْعٌ بالكاد يُنْتَبَهُ إليه، لكنه أعادَ لها ذكرى أحداث تاريخية (غضبٌ كبيرٌ) تعود إلى سنة 1984.
والمرأة الحكّاءة هي المعني بالأمر، كانت وقتها تلميذة في الابتدائي، وأختٌ كبرى لولدين، وبرغم الرّعب الذي خنق الهواء وهُياج المتظاهرين تحولت إلى أم صغيرة لأخويها الصغيرين. تقول، «الحقيقة أنني لم أنس ما جرى وقتها». كانت شاهدة عيان من درجة طفلة، لكن من يعتد بشهادة طفلة أو طفل.
الطفلة تعود اليوم بأسئلة كثيرة ظلت مؤجلة؛ تتساءل عن الذاكرة وعن ملابسات ما جرى. وما كان لهذا البوح أن يتم لو لم تجعلها تلك الوقفة الاحتجاجية تعود إلى الدّاخل، تقفل الباب، وتجلسُ جَبْهاً لجَبْهٍ مع نفسها وتنصتُ. فالحكيُ إنصاتٌ عميق للدّاخل. نحنُ لا نحكي لأيّ كان، ولا نحكي عن أي شيء؛ الحكي في الغالب يكون عن الألم. الحكيُ يُؤلمُ، ويمكنه أن يكون عن الفرح متى كان هناك فرح. ولتعقل الكاتبة الحكايات أقفلت عليها باب الشّرفة؛ إذ العزلة طقس من طقوس الكتابة، وضريبتها أيضاً.
شربة ماء،
تقول الحكّاءةُ، عن ابنها الصغير الذي انخرط في الصوم مع الكبار، وصادف نهارا قائظاً، «حاصرني بأسئلة بريئة لم أعرف لها أجوبة محددة وشافية؛ في الحقيقة أعرف الإجابة، لكن تعسَّرَ عليّ التعبير، لم أعرف كيف أجد العبارة التي تتناسب وسنّه». تتحدّث إلى ابنها وفي نفس الوقتِ تَنْظُرُ للطّفلة التي كانت، وتقول باندهاش، «حصل معي هذا من قبل». إذن كيف ستقنع ابنها بالعدول عن الصيام وهي لم تقتنع بأجوبة أمها لمّا أخبرتها ذات رمضان وهي طفلة بأنها شربت سهواً. اليوم ترى الجواب، لكن العبارة لا تسعفها. ترى الجواب لكنها لا تمتلكه؛ إنّه في متناول العين لكنه مخيف.
الأم العقلانية الحداثية تنظُرُ من عين الطفلة وتتساءل عن سبب هذا الخوف (الكبير) الذي لا نلبثُ نُورثه إلى أولادنا. تقول، «صرت أنتقي كلماتي». ولما تنتقي كلماتك، معناهُ، أنك تتحايَلُ… اللّجوء إلى الحيلة هو ضربٌ من الكذب. جميعاً نلجأ إلى الكذب في مواقف مشابهة، سيما عندما نُجَابَهُ بأسئلة الأطفال. أسئلة، لتحاشيها، نقول إنها بريئة. وأدعوكم لتأمل بعض أسئلة البراءة لأطفال مغاربة؛ طفل1: ماما، أين يسكن الله؟ طفل 2: ماما، هل الله له أولاد؟ طفلة: ماما، هل حملني بابا في بطنه؟ طفل 3: ماما هل الغيوم قُمْصَانُ الله؟ الأم ترُدُّ مُتطيّرة: أعود بالله، من قالَ لك ذلك؟ الطفل 3: أختي شيماء. تنادي الأم على شيماء التي تبلغ من العمر سبع سنوات تؤنبها: أيتها الجنية، قُلْتِ لأخيك إن السْحَابْ «قْوَامَجْ» سيدي رَبّي؟ وهنا يحضرني تعريف طريف للفيلسوف «سبينوزا» بخصوص الميتافيزيقا، مفاده أنها هي، أسئلة الأطفال عن الله.
تقول الحكّاءة، «وصل بي الإحراج إلى درجة مناجاة ربي كي يجعل لي مخرجاً من المأزق الذي وُجِدْتُ فيهِ». لكن من أوجدها في المأزق؟ أَكَانَ لهذا المأزق أن يحصل لولا لحظة المجابهة مع ابنها الذي جعلها تفتح الحوار مع الطّفلة فيها؟ عندما تضرب رأسنا السّقْفَ، آنذاك، نرى حياتنا تعبر أمامنا بشكل مختلف؛ إذ ننظرُ إليها في خوف ودهشة ولسان حالنا يقول، كيف وصلنا إلى هنا؟
هل الحكّاءة اختارت أن تكون أماً؟ بماذا حَلَمَتْ أن تكون؟ تنظرُ للطريق الذي قطعته وتقول للطفلة: أيحتاج هذا المأزق إلى كلّ هذا العناء؟ تنظرُ من شرفة الأم وتتساءل في سرها، هل مارستُ حقّ الاختيار يوماً؟ الطفلة التي استفاقت في داخلها فردت أمامها لائحة الأسئلة المحرّمة، الأسئلة الحارقة، المتروكة لمن لا يخشى على نفسه من مثالب الذّنب. وتقول في سرها، هذا العبور ليس عبوراً. وإن لم يكن كذلك، فهو ماذا؟
ها كبرتُ على غفلة مني؛ كبرتُ لأكتشف أنّي أصبحتُ أماً لطفل أنا الّتي كنتُ بالأمس طفلة لأمي. ها ألعبُ دور الأم دون أن أفهم. لكن ماذا تريدين أن تفهمي أيتها الطفلة الأم؟ أريدُ أن أفهم كيف أن لا أحدَ جاوبَ على ملابسات أحداث 1984؟ فقط أحداث 84؟ وأشياء أخرى. مثلاً؟ كيف أن لا أحدَ التفتَ إلى ما يمكن أن يُكابده طفل أو طفلة سمع لعلعة الرّصاص في الشارع، وقُدّام دارهم…؟
ها وَجَدْتُنِي ألعبُ الدّور نفسه مع ابني. أقرأُ عليه من زبور أمي؛ زبور كلَّفَتْني به. ولماذا كلَّفَتْكِ؟ لم أسأل.
وبالرّغم من أنها باتت تُشَرِّح وتُحلّل وتُقارن وتحكم، فهي باتت تعرفُ أيضاً أنها لا تستطيع البوح. ومن يستطيع إذن؟ تقول في صمت، لا أجِدُ العبارة، أخافُ المجابهة مثل الجميع… إنها تقول لنا دون أن تفصح على أن الكل عاجز على مجرد الإشارة إلى (الغول) بطرف العين. وعندما نبني (الكلام) إلى المجهول فلأننا لا نستطيع المواجهة؛ ثمة خوف. وعندما لا نقدر على البوح نكذب، ننافق، نجامل، نتواطأ…
عبور 4- وشيء ما تحت الطاولة
ها أعْبُرُ إلى جسدي. ها أدخله من الجُرْحِ ومن الدّم. كي أملك جسدي الذي لا سلطة لي عليه، عليّ أن أحمله بالليل والنهار. ولأحميه مني، لَأسْتُرهُ، أحمله أمانة وقِرْبَاناً للشّرف ضدّ الخطيئة. الخطيئة التي قالوا إنها بين فخذي. وتستفهمُ خفية عن رقيب مجهول-معلوم، مُخاطِبة طَيْفَ أُمَّها: من كلّفَكِ يا أمي بهذا الزّبور؟ (زبَّرَ الكتابَ: كتبه. الزّبور: المكتوب)؛ ها «تنحتين بداخلي أوثاناً قد يصعب عليّ هدمها أو اعتناق دين آخر غير دينها». ها أصبحتُ امرأة منطلقة ومشتهاة، لكن هيهات، لقد بِتْتُ أمي (أنا أمي)؛ وبالرّغم أحاولُ جاهدة أن أنتصرَ للعقل والعقلانية. ها أنا في الرباط الآنَ، أتعلَّمُ أسرار الحساب. في المقصف، جلستُ جَبْهاً لجَبْهٍ مع طالب لا أعرفه. المقصف يضج بالطلبة، مقصفٌ ينتظم حول أفكار تنتصر للحداثة والديمقراطية والحرية… ومن ضَغْطِ الدّراسة جَلَسَتْ الحكاءة منفعلة، تضع سماعات الموسيقى، ودون أن تنتبه حَطَّتْ قدمها على قدم الطالب قُبالتها، نظرَ إليها وابتسم، فضغطت على قدمه معتقدة أنها رِجْلُ الطاولة، فأخذَ ينظرُ إليها باستغراب بينما هي ظلّتْ تضغط معتقدة أنه يتحرش بها. تقول، حين سقط قلم الرصاص من خصلات شعري (كانت تربط شعرها بقلم الرصاص) وانحنيتُ لألتقطه من الأرض، آنذاك اكتشفتُ كم كنتُ مخطئة، وكم من الخجل. وجابهتُ خجلي واعتذرتُ للطّالب وانصرفت.
من دون إدراك؛ أي من دون معرِفَةٍ (علمية) بالموقع والموضع الذي نقفُ فيه، لا يمكن أن نخرج من دائرة الخوف إلى الإعلان عن الرأي (أي إلى امتلاك رؤية)؛ الرّأيُ موقف ومعرفة. ودون معرفة دقيقة بالواقع، فالرأي والموقف لا يخرجان من دائرة العاطفة، ولا يتعديان رد الفعل. العاصفة قد تدمر مدينة بكاملها، لكنها لا تستطيع حَلَّ عقدة في خيط. كما الغضبُ، يُدمّر ولا يقدّم الحلول.
ربما، عندما نتصاحب مع الطفل فينا، ونتصالح من خلاله مع والدينا، ومع المجتمع، ومع الحياة… ربما وقتها، نستطيعُ أنْ نفهمَ (سيكولوجية) الإهانة التي قد نتعرّض إليها في كلّ حين. الإهانة لا تأتيك ممن يُسئ إليك، بل تأتي من حُكْمِك الّذي يجعلك تعتقدُ أنّ الآخر يُهينك.
من هذه الحدود، نتساءل، هل نستطيع أن نكتبَ سيرتنا الذاتية؟ أو، هل نستطيع أن نكتب خارج سيرتنا الذاتية؟ (وماذا يدفعُ إلى الكتابة؟)
سؤال سيظل مطروحاً إلى أن نجاوب (بصدق) على الأسئلة التي ما زالت مطروحة من قبل الأطفال. الأطفال يسكنوننا، إنهم الحقيقة الصّامتة، الشهود الذين لا يعتد بشهاداتهم، فَيُنْفون إلى جزيرة اللاشعور، ويتحوّلون إلى رغباتٍ وأحلام. إن كلّ شيءٍ يُذكّرنا بالطفل فينا يشدنا إليه؛ وكما الذّات تشترط الآخر لتكون، فالكينونة تشترط الأحلام لتتحقّق. يقول بنكراد: «الكينونة لا تبنى فيما تحقق في حياة الفرد، إنها تشتمل أيضا على ما فكّر فيه وعلى ما تمناه، وهي أيضا مجموع استيهاماته ورغباته التي لم تتحقّق».
5-اختيار… امرأة على اليمين وامرأة على اليسار أيهما سأختار؟ امرأتان هاربتان من الحرب، واحدة من أفريقيا جنوب الصحراء وأخرى من سوريا. الأفريقية السمراء ترنو إلى الشمال، والتي تلتحف بالسواد، السورية، لا وجهة لها. وأنا في عربتي أنتظرُ الضوء الأخضر لأنطلق. لا شيء في وِضْعَتي يحفز على التفكير ولا على التّعاطف؛ ولا أملك غير درهم واحد، والشرطي أمامي بكل جبروت السلطة، وخلفي قطيع من السيارات المسعورة… وبرغم مكيف الهواء، وكل مظاهر الحداثة التي تؤثث المشهد تُحسّ الحكّاءة أن هناك شيء ما في غير محله؛ هناك خطأ ما.
الذي أثارني وأنا أقرأ هذا النص/ اللحظة؛ هو اصطخاب الأصوات والأحاسيس والصور في رأس الحكّاءة، وربما آخِرُ شيء يمكنُ أن يُفَكَّرَ فيه، وفي مثل هذا الظرف، هو الجمال، وبالرّغم وجدت فسحة قارنت فيها بين جمال المرأتين، وكأنها تنظر من أكثر من عين؛ من عين الجمال نظرت إلى مقومات جمال كل امرأة على حِدَة… حدث هذا في لحظة انتظار إشارة الضوء الأخضر، وفي نفس الوقت تنظرُ إلى درهم واحد في علبة أماها، لا يمكن أن تقسمه ولا يمكن أن تقسم نفسها، ولسان حالها يقول، أين سأختبئ من هذه الحرب اللعينة في نظرتيهما المنكسرتين؛ هذه الحرب اللّعينة باتت تلاحقنا هنا.
6- يُقال، أحوال النّفس من أحوال الطّقس. والطقس الذي تبدّل فجأة، إذ خرجْتُ لأتريّضَ، أجبرني على أن ألوذَ بالمقهى. ومن مكاني في المقهى كنتُ أنظرُ للبحر الذي تَلَوَّنَ بلونِ الرّماد، وأيضاً كنتُ أنظرُ إلى رَجُلٍ ستّيني يجلسُ في مكان استراتيجي (ف الشوكة)، يرصد الدّاخل والخارج. لم يحترم أي امرأة. تحرّشَ بالنادلة، تحرّش ببائعة المسمن، تحرّش بالمتسولة الحامل وبالجَدَّةِ المثقفّة… حتّى تساءلتُ، أهذا هو الذئب الذي أقيمت على شرفه هذه المراسيم؟ إذ قوس قزح اشتعلَت ألوانه فجأة.
لكن يا أبي، لماذا يتصرّف هذا الرّجل بهذا الشّكل؟ وبرغم حبّكَ الكبيرِ لي، ولأجلِ أن أكونَ، كنتَ صارماً معي إلى حدّ القسوة، فماذا كنتَ تريدني أن أكون يا أبي وأنتَ تعرف أنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان؟
ماذا كُنْتَ تريد أن تقول لي عن هذا الستّيني؟ أهو مجرّد فزّاعة؟ رجلٌ مخصي، رجل مفزوع، ومن خوفه أن يَنْقَطِع ذِكْرُه صار لسانه أفعى؟ وأنتَ قلتَ لي بطرق شتّى يا أبي، إن اللّسان ليس عظماً لكنه يكسر العظام. والطفلة التي افتقدتك كثيراً يا أبي ما زالت تسألني عن شيء لم تقله لي. لماذا سكتْتَ وأنا عينُكَ يا أبي؟ وهذا (الرّجُلُ) نشاز في مشهد صباحي كان سيكون جميلاً وشاعرياً برغم صمت كل الأباء.
7-فوضى
تساءلتُ من أينَ وكيفَ سأبدأُ؟ كيفَ سأعلنُ حربي على هذه الفوضى؟ الرّجالُ الثلاثة الذين أتقاسم معهم هذا البيت، لا ينتبهون إلى هذه الرّوح التي تسكنُ معهم، ولا يرون فيَ إلاّ كائناً (حديدياً) وُجِدَ لخدمتهم والسّهر على راحتهم. وأنت يا أبي من كان ينبهني قائلاً «اتق شر من أحسنت إليه». وها هو الشّر قائم في بيتي. لذلك، فكّرتُ أن أبدأ من البيت. فوضى عارمة في البيت يا أبي، ويجب اجتثاثها منه؛ البيتُ أولاً. لذلك أصبحتُ أكره المثَلَ الذي يقول «عبقرية المرأة في قلبها»، إذ واقع حالنا أقنعني بأن دارجتنا أبلغ من فصحانا، أو هي على الأقل، أبلغُ في توصيف عناء وشقاء وقهر المرأة. والمثل الدّارج يقول: الشْقَا اللي دّيريهْ اليوم تعاوديهْ غَدّا»؛ بتْتُ أومن بأن الغد شقاء… أهذه هي الحياة يا أبي؟ ألهذا تعلّمْتُ؟
8-9- 10- «انقطاع»، «حمّام على غير المعتاد» و»كأنه هو»، ثلاث محكيات أغلقتْ بها الكاتِبة عِقْدَها الحكائي، وارتأيتُ أن أتركها للقارئ يكتشفها بنفسه. يقول سي أحمد بوزفور، (…) بالقراءة نغزو ذوات أخرى فنتّسع من الدّاخل فتكبر ذرتنا وتتّسع ونحس أنها أجزاء من ذاتنا لم نكن نعرفها من قبل، في حين أنها أرض جديدة فتحناها لأن القراءة فتح والقارئ إمبراطور. والقراءة ليست اكتشافاً بل هي «انتفاسٌ» إذا صحّ لي أن أصوغ هذا المصطلح (الانتفاس بمعنى اكتساب نفس جديدة أو أجزاء جديدة نضيفها إلى نفسنا).
أملي أن أكون قد أفْلَحْتُ قليلاً في تقريب النّص من القارئ، سيما وأني لا أملكُ معرفة بالنّقد وأدواته وآليات اشتغاله، كانت وسيلتي هي التفاعل الحر مع النصوص؛ أي القراءة بجميع الحواس. ومن خلال اللّمس وحده أرى أن كِتابة آمال الحرفي لا تحتمل ثِقْلَ الحياة (الواقعية)، وتطمحُ جاهدة إلى التَّخَفُّفِ من الأثقال الزائدة؛ كتابةٌ تشتغلُ على اللّحظة وعلى اللّقطة المُقرّبة، بحيث التفاصيل الصغيرة، لما تُكَبَّرُ كما في شاشة سينما، تَكْشِفُ عن حقائق كثيرة مهمة تحفزُ على مُجابهة الخوف بالبوح. قال مفكر، التغيير لا يتطلب الإرادة السياسية وحدها، بل أيضاً، يجب مراعاة الأعطاب النفسية التي يُعانيها مجتمع برمّته.
في قصة «حمّام على غير المعتاد» تقول، رافقتني ذكريات الطفولة في طريقي إلى الحمّام، وحتّى في الحمّام لم أستطع أن أتخلّص منها. الطفلة التي كُنْتُ تُذكّرني بكلّ شيء، إنها لا تنسى، لا يمكن أن تنسى. وتستغربُ الحكّاءة، كيف أن النساء يتنافسن على تنسيق الأشكال والألوان في حمّامٍ الإضاءةُ فيهِ شبه عمياء؟ غلالة البخار في الحمّام تجعل الأجسام هُلامية، مجرد كتل مائعة. وأرى أن قصة «حمّام على غير المعتاد» تريد أن تثير انتباهنا إلى أن الحمّام (المغربي) لا نغتسل فيه فقط، إنّه مثل الرَّحِم، ندخُلُهُ لنُعانِقَ أجسادنا بلا حرج؛ فالجسدُ هو سفينتنا في هذه الحياة، نُعرّيه في الحمّام لنتلمّسَ شروخ روحه. وعندما نَخْرُجُ نكون قد عرفنا كيف سنتفنَّنُ في تضميدها، وكيف سنتفنّنُ في تلبيسه. وكأننا لا نريدُ أن نتنازل على أعطابنا. وكأن بالأعطاب تُذكّرنا من نحن.
لكن، من نحن؟
* روائي وتشكيلي