أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم الإثني الماضي ، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، اعتراف بلاده بدولة فلسطين. مؤكدا أن «وقت السلام قد حان». وبذلك تنضم فرنسا إلى حلفاء غربيين مثل بريطانيا وكندا، اللتين اتخذتا الخطوة التاريخية نفسها، وقبلهم كانت دول مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا قد اعترفت بالدولة الفلسطينية عام 2024.
وقال ماكرون: «البعض سيقولون إن الاوان فات وآخرون سيقولون إن الوقت مبكر جدا، لكن لم يعد في إمكاننا الانتظار» ، مشددا على أن الوقت حان لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، والاعتراف بدولة فلسطين، واقتلاع الوجه البشع للإرهاب من هذه الأراضي وبناء السلام.
السيدة رئيسة الجمعية العامة،
السيد الأمين العام،
أصحاب الفخامة رؤساء الدول والحكومات، السيدات والسادة،
نحن هنا لأن الوقت قد حان. لقد حان وقت تحرير الرهائن الثمانية والأربعين المحتجزين لدى حركة حماس. لقد حان وقت وقف الحرب، ووقف القصف على غزة، ووقف المجازر ونزوح السكان. لقد حان الوقت لأن الطوارئ في كل مكان. لقد آن أوان السلام، لأننا على وشك أن نفقده نهائياً. ولهذا نحن مجتمعون هنا اليوم. قد يقول بعضهم إنه فات الأوان، وقد يقول آخرون إنه ما زال مبكراً، لكن الحقيقة المؤكدة أننا لم نعد نستطيع الانتظار.
في عام 1947، قررت هذه الجمعية تقسيم فلسطين الخاضعة للانتداب إلى دولتين: إحداهما يهودية والأخرى عربية، وبذلك اعترفت بحق كل منهما في تقرير المصير. حينها كرّس المجتمع الدولي قيام دولة إسرائيل، مجسداً قدر هذا الشعب الذي عانى قروناً من الشتات والاضطهاد، وتمكن أخيراً من تأسيس ديمقراطية مزدهرة. أما وعد الدولة العربية فما زال، حتى اليوم، غير مُنجز.
منذ ذلك الحين، سلك الإسرائيليون والفلسطينيون طريقاً طويلاً من الأمل واليأس، كل بطريقته. ونحن أيضاً سرنا معهم، كلٌّ وفق تاريخه وحساسيته. غير أن الحقيقة أننا جميعاً نتحمل المسؤولية الجماعية عن فشلنا، حتى الآن، في بناء سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط. وقد تجلت هذه الحقيقة بوضوح في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين تعرّض الشعب الإسرائيلي لأبشع هجوم إرهابي في تاريخه: قُتل 1224 رجلاً وامرأة وطفلاً، وجُرح 4834 آخرون، وخُطف 251 شخصاً.
إن وحشية حماس ومن شاركها في هذا المجزرة صدمت إسرائيل والعالم. لقد كان يوم 7 أكتوبر جرحاً غائراً في روح الشعب الإسرائيلي وفي الضمير الإنساني جمعاء. ونحن ندينه بلا أي مواربة، لأن الإرهاب لا يمكن أن يكون مبرراً أبداً، ولا في أي مكان. اليوم نتذكر الضحايا وأسرهم، ونعبر عن تعاطفنا مع الإسرائيليين، ونطالب قبل أي شيء آخر بالإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن الذين ما زالوا محتجزين في غزة. نحن الفرنسيين أقمنا تكريماً وطنياً لـ 51 من مواطنينا الذين قتلوا في ذلك اليوم، إلى جانب جميع الضحايا الآخرين، ولن ننساهم أبداً. ولن نتوقف أبداً عن محاربة معاداة السامية.
نحن الفرنسيين نعرف مرارة الإرهاب. نحمل في قلوبنا ذكرى التضامن العظيم الذي شهدناه بعد اعتداءات باريس في 7 يناير 2015، حين سار عشرات القادة الأجانب في مسيرة الأخوّة، وكان في طليعتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس السلطة الفلسطينية.
ونحن نعلم أنه لا مكان للضعف أمام الإرهابيين.
لكننا نعلم أيضاً مخاطر الحروب التي لا تنتهي. ونعلم أن القانون يجب أن يسود دائماً على القوة. ونعلم أخيراً، من تاريخنا، أن التمسك بالقيم الإنسانية والسلام هو إرث القرون الماضية وهو أيضاً شرط الخلاص. وأؤكد ذلك باسم صداقتنا مع إسرائيل التي لم يتزعزع التزامنا تجاهها يوماً، وباسم صداقتنا مع الشعب الفلسطيني الذي نريد أن يتحقق له وعد الأمم المتحدة الأول: قيام دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن.
إلا أنه، حتى هذه الساعة، ما زالت إسرائيل توسع عملياتها العسكرية في غزة بهدف معلن هو القضاء على حماس. لكن النتيجة هي تدمير حياة مئات الآلاف من النازحين والمصابين والجائعين والمصدومين، في وقت تراجعت فيه قدرات حماس بشكل كبير، وأصبح التفاوض على وقف دائم لإطلاق النار السبيل الأضمن لإطلاق سراح الرهائن.
لم يعد هناك أي مبرر لاستمرار الحرب في غزة. لا شيء. بل إن كل ما يفرضه الواجب الآن هو وضع حد نهائي لها، إن لم يكن بالأمس فاليوم، من أجل إنقاذ الأرواح: أرواح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في ظروف مأساوية، وأرواح مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الغارقين في الجوع والمعاناة والخوف والموت والفقدان. إنقاذ كل الأرواح. فمنذ نحو عامين، يسود منطق إنكار إنسانية الآخر والتضحية بالحياة البشرية. نعم، منذ 7 أكتوبر، تُنكَر حياة الآخر.
لقد قلنا منذ اليوم الأول للحرب في غزة: الحياة تساوي الحياة. أعلم ذلك لأني احتضنت أسر الرهائن في تل أبيب ثم في باريس. وأتذكر الآن أم إيَتار دافيد، الرهينة الذي جاع وأُذل أمام الجماهير على يد خاطفيه. وأتذكر نمرود كوهين، الرهينة البالغ تسعة عشر عاماً، الذي حييت والده قبل قليل. وأعلم ذلك أيضاً لأني زرت جرحى فلسطينيين من العمليات العسكرية الإسرائيلية، نساء وأطفالاً في العريش، لن أنسى نظراتهم.
وأعلم ذلك أيضاً حين التقيت شباناً من غزة استقبلناهم في فرنسا، ومنهم ريتا بارود التي كان ينبغي أن تكون معنا اليوم لكنها ما زالت تحمل شهادة أقاربها ومعاناتهم في غزة.
الحياة تساوي الحياة. وواجبنا جميعاً أن نحمي حياة هؤلاء وأولئك على السواء، فهذا واجب لا يقبل التجزئة، كما لا تقبل إنسانيتنا المشتركة التجزئة.
الحل الوحيد لكسر دوامة الحرب والدمار هو الاعتراف بالآخر، بشرعيته وإنسانيته وكرامته. أن يرى كل طرف وجوهاً بشرية حيث زرعت الحرب أقنعة الأعداء وملامح الأهداف. أن يعترف الإسرائيليون والفلسطينيون بأنهم يعيشون عزلة مزدوجة: عزلة الإسرائيليين بعد كابوس 7 أكتوبر، وعزلة الفلسطينيين المستنزَفين في حرب لا تنتهي.
لقد حان الوقت. لأن الأسوأ قد يقع: سواء بمزيد من الضحايا المدنيين، أو بتهجير سكان غزة نحو مصر، أو بضم الضفة الغربية، أو بموت الرهائن، أو بوقائع مفروضة تغيّر الوضع على الأرض بشكل لا رجعة فيه. ولهذا يجب علينا اليوم، هنا، أن نفتح طريق السلام. فمنذ يوليو الماضي تسارعت الأحداث بشكل رهيب، حتى أصبح الخطر قائماً بأن تُقوَّض اتفاقيات أبراهام أو كامب ديفيد نتيجة أفعال إسرائيل، وأن يصبح السلام مستحيلاً لزمن طويل في الشرق الأوسط. إن المسؤولية التاريخية تقع علينا. يجب أن نفعل كل ما بوسعنا للحفاظ على إمكانية قيام دولتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنباً إلى جنب بأمن وسلام.
لقد حان الوقت. ولهذا، وفاءً لالتزام فرنسا التاريخي بالسلام في الشرق الأوسط بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، أعلن أن فرنسا تعترف اليوم بدولة فلسطين.
إن هذا الاعتراف تأكيد على أن الشعب الفلسطيني ليس شعباً زائداً عن الحاجة، بل هو – كما قال محمود درويش – شعب لا يقول وداعاً لأي شيء. إنه شعب قوي بتاريخه وجذوره وكرامته.
إن الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني لا ينتقص شيئاً من حقوق الشعب الإسرائيلي التي ساندتها فرنسا منذ اليوم الأول وما زالت متمسكة بها. بل على العكس، نحن مقتنعون أن هذا الاعتراف هو السبيل الوحيد الذي يتيح السلام لإسرائيل. لم تتخلف فرنسا يوماً عن دعم إسرائيل حين كانت أمنها مهدداً، بما في ذلك أمام الضربات الإيرانية.
إن هذا الاعتراف بدولة فلسطين هو هزيمة لحماس ولكل من يغذي الكراهية ضد اليهود، ولكل من يتبنى هواجس مناهضة للصهيونية ويريد تدمير دولة إسرائيل.
وهذا الاعتراف من فرنسا يترافق مع اعترافات أخرى سيُعلن عنها اليوم من قبل دول مثل أندورا، أستراليا، بلجيكا، كندا، لوكسمبورغ، مالطا، موناكو، البرتغال، المملكة المتحدة، وسان مارينو. هذه الدول انتظرت معنا هذا الموعد، واستجابت لنداء يوليو الماضي، واختارت المسؤولية والمطالبة بالسلام. وذلك بعد الخطوة التي قامت بها إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا عام 2024، والعديد غيرها قبل ذلك.
هذا الاعتراف يفتح الطريق لمفاوضات تخدم الإسرائيليين كما تخدم الفلسطينيين.
إن هذا المسار هو مسار خطة السلام والأمن للجميع التي قدّمتها المملكة العربية السعودية وفرنسا للتصويت في هذه الجمعية، والتي أُقرت بأغلبية ساحقة. إنها تجسد طموحنا المشترك لكسر دوامة العنف وتغيير المعادلة على الأرض. لقد عرفنا كيف نتقدم خطوة نحو بعضنا البعض، ونخرج من مواقفنا المعتادة، ونضع أهدافاً ملموسة. ويقع على عاتقنا الآن، معاً، أن نطلق آلية للسلام تلبي احتياجات الجميع.
المرحلة الأولى من هذه الخطة للسلام والأمن للجميع هي مرحلة الطوارئ القصوى: أي الربط بين تحرير الرهائن الثمانية والأربعين ووقف العمليات العسكرية على كامل أراضي غزة. وأود هنا أن أحيي الجهود المبذولة من قطر ومصر والولايات المتحدة لتحقيق ذلك، وأدعو إسرائيل إلى عدم القيام بأي أمر يعرقل بلوغ هذه النتيجة. لقد هُزم حماس عسكرياً بتحييد قادته وصنّاع القرار فيه، ولا بد أن يُهزم سياسياً لكي يتم تفكيكه بشكل حقيقي. وبمجرد الاتفاق على وقف إطلاق النار، سيتعيّن علينا جميعاً بذل جهد جماعي ضخم لتقديم العون لسكان غزة. وأشكر مصر والأردن على التزامهما في هذا المجال، وأذكّر إسرائيل بالواجب المطلق الملقى على عاتقها بتيسير الوصول الإنساني إلى غزة لمساعدة سكانها المحرومين من كل شيء.
المرحلة الثانية هي مرحلة الاستقرار وإعادة الإعمار في غزة. حيث ستتولى إدارة انتقالية، تضم السلطة الفلسطينية والشباب الفلسطيني، إلى جانب قوات أمنية سنسرّع تدريبها، مسؤولية الأمن بشكل كامل في غزة. وستشرف هذه الإدارة على تفكيك حماس ونزع سلاحها، بدعم من الشركاء الدوليين والوسائل اللازمة لهذه المهمة الصعبة. وفرنسا مستعدة للمساهمة في مهمة دولية لتحقيق الاستقرار، ولدعم – مع شركائها الأوروبيين – تدريب وتجهيز قوات الأمن الفلسطينية. وبمجرد أن تتيح المفاوضات ذلك، سيتمكن مجلس الأمن من اتخاذ قرار بنشر بعثة دعم مدنية وأمنية، بالتنسيق مع السلطات الفلسطينية، وبموافقة السلطات الإسرائيلية.
وسيقع على عاتق دولة فلسطين أيضاً إعادة الأمل لشعبها الذي أنهكته سنوات العنف والاحتلال والانقسام وسوء الإدارة. سيكون عليها أن تتيح لشعبها إطاراً ديمقراطياً متجدداً وآمناً للتعبير. وقد تعهّد الرئيس محمود عباس بذلك أمام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وأمام شخصي.
لقد دان الرئيس عباس بقوة هجمات السابع من أكتوبر 2023، وأكد دعمه لنزع سلاح حماس والتزامه باستبعادها من حكم غزة وسائر الأراضي الفلسطينية. كما أكد التزامه بمكافحة خطاب الكراهية، ووعد بإصلاح عميق في الحوكمة الفلسطينية.
ستولي فرنسا اهتماماً كبيراً للتنفيذ الكامل لكل التعهدات التي قُدمت إليها. فهذه السلطة الفلسطينية المتجددة شرط أساسي لنجاح المفاوضات الحتمية التي يجب استئنافها للتوصل إلى اتفاق بشأن قضايا الوضع النهائي كافة. وفي هذا الإطار أيضاً، سأكون مستعداً لافتتاح سفارة لدى دولة فلسطين، حالما يتم إطلاق سراح جميع الرهائن المحتجزين في غزة ويُقر وقف إطلاق نار.
أما متطلبات فرنسا تجاه إسرائيل فلن تكون أقل صرامة. فمع شركائها الأوروبيين، ستربط فرنسا مستوى تعاونها مع إسرائيل بالإجراءات التي ستتخذها لإنهاء الحرب والدخول في مفاوضات سلام.
وعبر هذا الطريق وحده سنتمكن من الوصول إلى دولة فلسطينية ذات سيادة، مستقلة ومنزوعة السلاح، تضم جميع أراضيها، ومعترِفة بإسرائيل، ومعترَف بها من إسرائيل، في منطقة تنعم أخيراً بالسلام.
كما أنتظر من شركائنا العرب والمسلمين الذين لم يقوموا بذلك بعد، أن يلتزموا بالاعتراف بدولة إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها، بمجرد قيام دولة فلسطين. وبهذا سنبرهن على اعتراف مزدوج يخدم السلام وأمن الجميع في الشرق الأوسط.
أيها السيدات والسادة، هذه هي خطتنا للسلام. إنها تضع آلية صارمة للخروج من الحرب والدخول في مرحلة حاسمة من المفاوضات. وهي تتيح أن تكون المصالحة الإسرائيلية-الفلسطينية الركيزة الأولى لبناء هندسة جديدة للسلام والأمن في الشرقين الأدنى والأوسط. كما تعزز إمكانية التكامل الاقتصادي بصورة أوسع.
ولا شيء من ذلك سيكون ممكناً ما لم تتبنَّ السلطات الإسرائيلية طموحنا المتجدد لتحقيق حل الدولتين أخيراً. أعلم ترددها ومخاوفها. وأصغي باحترام عميق للشعب الإسرائيلي، لحزنه وإرهاقه، وأريد أن أؤمن أن السلطات الإسرائيلية ستصغي بدورها وستعرف كيف تلتزم. أعلم أن الشعب الإسرائيلي وقادته قادرون على امتلاك هذه القوة.
أتذكر الشاب الذي كنتُه حين بلغني خبر اغتيال يتسحاق رابين الفظيع قبل نحو ثلاثين عاماً، الرجل الذي قُتل لأنه أراد السلام. في اللحظة التي كانت الموت يخطفه، كان هذا المقاتل البطل لدولة إسرائيل قد نطق بهذه الكلمات: «لقد حاربت ما دامت لا توجد فرصة لصنع السلام». واليوم هذه الفرصة موجودة. مئة واثنان وأربعون دولة تعرض هذا السلام، وتمد اليد لتصافح.
نعم، لقد حان الوقت لوقف الحرب في غزة، ووقف المجازر والموت، فوراً. إن الطوارئ تفرض ذلك. لقد حان الوقت لكي تعيش إسرائيل بسلام وأمان، من الجليل إلى البحر الأحمر، مروراً بالبحر الميت وبحيرة طبريا وبالقدس. لقد حان الوقت لكي لا يُناقش أحد بعد الآن وجود دولة إسرائيل، وأن يصبح هذا الوجود بديهياً.
لقد حان الوقت لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، وبالتالي الاعتراف بدولة فلسطين، جارة وأخاً، في غزة والضفة الغربية والقدس. لقد حان الوقت لاقتلاع الوجه البشع للإرهاب من هذه الأراضي وبناء السلام. نعم، بناء السلام هو ما يجمعنا هنا. وهو الأمل الذي يمكن أن نبنيه. وبينما يبدأ عام جديد بالنسبة للبعض، فإنه خيار مطروح أمامنا جميعاً، وهو واجبنا. فالسلام أكثر صرامة، وأكثر صعوبة من جميع الحروب.
لكن الوقت قد حان.