كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدار البيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟.
إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.
سبق وقلنا، إنه لا يمكن تمثل سياق اعتراف المغرب باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777، بدون استيعاب للواقع المحيط بهما معا كدولتين في نهاية القرن 18، واحدة وليدة جديدة، والأخرى قديمة وعريقة. ولعل المثير في ما سجلته مختلف المصادر التاريخية، المشتغلة على أرشيفات المغرب وأمريكا (على قلة تلك الدراسات مقارنة بواقع الحال مع أرشيفات العلاقات المغربية الفرنسية أو الإسبانية أو البريطانية أو البروسية الألمانية والعثمانية)، أنه في قصة ميلاد تلك العلاقة بين الدولتين، كان المغرب هو المبادر لربط الصلة بالدولة الجديدة، رغم ما كان يكلفه ذلك من ثمن في علاقاته السياسية والتجارية والأمنية مع خصوم الولايات المتحدة الكبار آنذاك، الذين كانوا في حروب مفتوحة معها لسنوات، مثل بريطانيا العظمى وإسبانيا وبدرجة أقل فرنسا. وأن نخبة الولايات 13 الأمريكية الوليدة تلك حينها لم تتجاوب بسرعة مع ما يمكن وصفه باليد الممدودة من بلد عربي إفريقي من جنوب المتوسط.
واقعة عدم التجاوب المثيرة تلك، تجد تفسيرها في أسباب مركبة عدة، لعل أهمها جدة النظام السياسي هناك بشرق أمريكا الشمالية، الذي لم يكن يتوفر على الإمكانيات المالية واللوجيستية والبشرية لممارسة دور ديبلوماسي واسع خارج المجال التقليدي الأروبي. ثم حرصه على عدم الإنجرار وراء ما قد يعتبره تورطا في مجالات جغرافية يتحقق فيها أصلا نفوذ القوى الأروبية الغربية الرائدة حينها، سياسيا وتجاريا وبحريا، وأنها أسواق لن يسمح لها من قبل تلك القوى الغربية بالولوج إليها. لأنه سيكون لذلك الإنجرار فاتورة على استقلاله الطري، وكذا على ماليته غير الكبيرة، وعلى أسطوله التجاري والحربي غير المتقدم ولا الكبير حينها. لهذا السبب تأخر الرد الأمريكي تقريبا عقدا من الزمن، قبل أن تفتح باب للتفاوض مع المغرب من أجل ترسيم العلاقات معه سنة 1786، بعد قرار الكونغرس الأمريكي في فبراير 1785 تعيين مبعوثين للتفاوض لعقد اتفاقيات مع المغرب ومع ولات الجزائر وتونس وليبيا العثمانيين وكذا مع الأستانة نفسها في إسطنبول (لا بد من تسجيل معطى تاريخي مهم هنا، هو أنه حين تم التوصل إلى تلك الإتفاقيات وكان أولها مع المغرب، فإن نصها الأصلي مغربيا قد كتب باللغتين العربية والإنجليزية، فيما نصوص الإتفاقيات، مع داي الجزائر وباي تونس قد كانت بالتركية والإنجليزية).
كانت الخطة الأمريكية، قبل الدخول في تلك المفاوضات، تتمثل في إشراك وسيط أروبي، حتى يكون الدخول إلى المجال المتوسطي عبر واحدة من دوله، وليس في تنافس وتدافع معها. ولقد فشلت كل تلك المحاولات الأمريكية، حيث ماطلتها باريس، فيما أعلنت لها لندن بصريح العبارة في سنة 1783 أن ذلك المجال من ضمن منافع الأروبيين تجاريا وأمنيا وليس من ضمن مجال منافع الأمريكيين، فقررت واشنطن لأول مرة إنشاء لجنة وطنية محلية لها، خاصة بشمال إفريقيا والمتوسط (هي التي كانت منذ البداية تحرص بصرامة أن يكون المفاوض باسمها من الأمريكيين وأن يكون الأروبيون مجرد وسطاء وشهود)، تتكون من ثلاثة من كبار قادتها السياسيين هم جون آدامز (الذي سيصبح ثاني رئيس للولايات المتحدة الأمريكية بعد رئيسها الأول جورج واشنطن)، توماس جيفرسون (الذي سيصبح ثالث رئيس لها)، وبنيامين فرانكلين (أول سفير لها في باريس وممثلها الأول في كامل أروبا قبل توقيع معاهدة السلم مع بريطانيا بقصر فيرساي سنة 1783). حيث حددت مهمتها في بلورة آلية عملية للدخول في مفاوضات مع المغرب كبوابة للدخول إلى الفضاء المتوسطي الجنوبي، بغاية حماية السفن التجارية الأمريكية من التعرض المستمر للقرصنة المتعددة الجنسيات في المنطقة الأطلسية القريبة من المغرب والبرتغال وصولا حتى جزر الآصور (هنا كانت سفن القراصنة مغربية بدرجة أولى)، ثم في امتداد البحر الأبيض المتوسط من مضيق جبل طارق حتى الجزر اليونانية (هنا كانت سفن القراصنة مغربية وأيضا جزائرية وتونسية وليبية، تابعة لولات الجزائر وتونس وطرابلس الغرب العثمانيين). وهي القرصنة التي كانت تستهدف سفنها بصمت وتواطؤ أحيانا وتغاض في الغالب الأعم من السفن البريطانية والبرتغالية والهولندية والإسبانية.
علينا هنا، الإنتباه إلى أن تطور بناء الدولة بالولايات المتحدة الأمريكية، حينها، في نهاية القرن 18، قد مر بمراحل تدبيرية تراكمية شهدت مرحلتين كبيرتين، هما مرحلة « المؤتمر الوطني القاري الأول» سنة 1774 الذي كانت التمثيلية فيه تتم بالإختيار والقرارات جماعية بالإتفاق، ثم مرحلة «المؤتمر الوطني القاري الثاني» ما بين سنوات 1775 حتى سنة 1781، التي بلورت مشروع دستور الدولة (الذي لا يزال ساريا إلى اليوم)، الذي دشن لما سبق وأسميته ب «الإختلاف الأمريكي»، حيث نظام الدولة فدرالي وأن السلطات محلية أكثر تدبيريا، وأن السلطة المركزية ليست ذات صلاحيات تدبيرية محلية كبيرة، وأنها حَكمٌ بين الولايات وأن سلطة القرار الأكبر هي في يد الكونغرس الذي ينتخب بطريقة مركبة مزدوجة بين الناخبين الصغار المحليين والناخبين الكبار في الولايات. وهو نظام دستوري معقد ومختلف (بإرادية منذ البداية) عن كل دساتير البلدان الأروبية الغربية، غايته حمائية في المقام الأول تحرص على عدم التورط في الحسابات الخارجية للدول الغربية حتى لا يفتح الباب لعودتها للتحكم في الداخل الأمريكي. ولا تزال هذه العقيدة السياسية قائمة إلى اليوم بواشنطن بهذه الدرجة أو تلك، لأن الشعار الراسخ من حينها، بسبب ظروف التأسيس، هو «أمريكا أولا» (دون إغفال أثر الإصطفاف المذهبي الديني بين الكاثوليكية الأروبية والبروتستانتية الكالفينية والإنجيلية الأمريكية، في خلفية المواقف هنا وهناك). مع التنبيه أنه حتى قرار اختيار العاصمة قد تم بتوافق بين الولايات 13 المؤسسة الأولى للدولة، بالشكل الذي يضمن أن لا تكون تلك العاصمة في أي من تلك الولايات 13، مما قد يقوي نفوذ نخبتها على حساب نخب باقي الولايات، فتقرر اختيار بقعة جغرافية محايدة أنشئت فيها العاصمة واشنطن كمدينة ومنحت صفة ولاية (فإلى اليوم العاصمة واشنطن هي ولاية مستقلة بأمريكا)، بعد ثلاث سنوات كانت فيها مدينة فيلاديلفيا من ولاية بينسلفانيا عاصمة مؤقتة.
بالتالي، فإنه بعد ترتيب آلية بناء وتسيير الدولة الجديدة، الجمهورية الفيدرالية، بدستور تأسيسي ومركزية قرارات الكونغرس، ابتداء من سنة 1781، بدأ التحرك الديبلوماسي الأمريكي بشكل مختلف وجديد، عن المرحلة السابقة ما بين 1765 و 1781. وضمن هذا السياق بدأت أولى مبادراتها لربط الصلة مع المغرب كمملكة مستقلة، ثم مع الولايات العثمانية ذات الحكم الذاتي بشمال إفريقيا (داي الجزائر، باي تونس، باشا طرابلس). وأن ذلك إلزامي أن يمر عبر سفرائها بكل من باريس ولندن ومدريد. ووجدت تلك السلطات الرئاسية الجديدة، على عهد الرئيس الأول جورج واشنطن، نفسها أمام تحدي قلة الإمكانيات المادية والبشرية لتجسير تلك العلاقات، مما جعلها تتأخر كثيرا في ترجمة قرار ذلك الإنفتاح على منطقة شمال إفريقيا وعلى الفضاء المتوسطي عموما لسنوات.
كان لابد أن يحرك المغرب من جهته ملف علاقاته مع الدولة الجديدة، الذي اختار بتلقائية الإعتراف بها والإنفتاح عليها (ضمن رؤية واضح أنها كانت تسعى إلى تنويع شركائها للتحرر من الإستفراد البريطاني أو الفرنسي بمجال التعاون التجاري معه)، حيث قرر السلطان سيدي محمد بن عبد الله أسر السفينة الأمريكية «بيتسي» وطاقمها سنة 1785، بعد محاولات اتصال مباشرة لم تفضي إلى النتيجة المرغوبة، مع ممثلي واشنطن بأروبا حددت تاريخيا في ثلاث محاولات (مهم هنا العودة إلى تفاصيلها في الكتاب القيم «العلاقات المغربية الأمريكية، دراسة في التمثيل الديبلوماسي الأمريكي بالمغرب (1786 – 1912)» للباحث المغربي، الأستاذ في مادة التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، محمد بنهاشم). كانت أولى تلك المحاولات سنة 1779 من خلال تكليف دار المخزن لتاجر فرنسي مقيم بمدينة سلا، إسمه ستيفان كايي للإتصال بممثل واشنطن بأروبا وباريس بنيامين فرانكلين لنقل استغراب سلطان المغرب من عدم تجاوب بلاده مع قراره السيادي الأول من نوعه المعترف بدولته والذي «سمح بدخول السفن الحاملة للعلم الأمريكي (رمز استقلالها) بحرية إلى الموانئ المغربية للتزود بما تحتاجه كما أنها ستحظى بنفس الإهتمام والتقدير الذي تحظى به الأمم الأخرى والتي هي في سلام معه» (التعابير هنا من نص قرار المغرب الصادر يوم 20 دجنبر 1777). فبادر بنيامين فرانكلين إلى مراسلة سلطات بلاده فجاء الجواب يطلب الإنتظار إلى حين قرب تعيين مبعوث من قبلها إلى المغرب مع التنويه والتقدير بالقرار المغربي الأول من نوعه في العالم. تلتها محاولة من وسيط إسباني بتكليف من المغرب إسمه روبير مونغومري. لتأتي بعدها محاولة أخرى عبر قنصل أمريكي بفرنسا إسمه توماس باركلي بعث إليه مرسال سلطاني من مكناس حاملا توكيلا من السلطان المغربي.
مباشرة بعد قرار المغرب أسر السفينة الأمريكية «بيتسي» قررت واشنطن، أخيرا، تكليف ذات قنصلها بفرنسا توماس باركلي بحمل رسالة إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي حل بمراكش يوم 19 ماي 1786.