أمينة الصيباري بالبَرْق تكتب بالضَّوْء تسْرُدُ مَا هي بحَاجَة إِلَى الكَلاَمِ

 

(1)
«الصباح
مسافر
على صَهْوَة
الضوء…
ليضلّ الطريق ليلا…».
بمَعِيَّة مشاكستها، من أمري مذهول أنا. أشعر بمِحْبَرتي كما لو كانت محاطة بحارس ما، تابع لمملكة لغتها، أرسله يراع تفوُّقها من القصر الكبير، لكَيْ يراقب جُلّ تحركات غيومي، ويخبرها بمعظم أسرار انهطالي.
لكَأَنَّهَا، هذه التي تقُود قُطْعَان السرد إلى أخصب المراعي، تدعوني أن لا أقترف جَرِيرَة الكتابة عن قلبها: الذي تهَبهُ لنا بالجملة السَّخِيّة. وأن لا أكشف فحوى يدها: التي تمدها لنا بالتقسيط المريح. ثم أن أتوقف حيث عتبة النظر، لا أجتازه نحو بهو التفرس.
لامِعٌ، وَمُتَلأْلِئٌ، وَرَقْراقٌ، يَجِيئُنِي صَوْتُها، يَجِيء مِن مَسَافَةِ عَشْرِ دَوَالٍ، فِيهِ الأَمْرُ، وَفِيهِ النَّهْيُ: حسن، خُذْ حذَرَكَ. عَلَيْكَ بِاليَقَظَةِ وأَنتَ تكتب عني فيك. اِلْتَزَمَ جانِبَ الجموح وأنت تتخيلك تركض في. لا تكن، بِسَبَبِي، مجنون المخيال، كي لا أبدو، بِسَبَبِكَ، مشاغبة الواقع.
تَمَشَّى تحذيرها في يدي، التي ترتبك. سَرَى مَفْعولُ صَوْتها في جِسْمِ حِبري، الذي يرتجف. رَمَيت إغواء التَّحْذِير خلف لغتي، وتَوًّا شَرَعت في اِنْبِجاس البلاغة.
«أنْ تصدر كِتَاباً يعني
أَنْ توافق على أَنْ يتنقل
شيء منك خارجك”.

(2)
«الكتابة هي أن تقبل
أن تواجه العالم عاريا،
إما جزئيا أو كليا…» !
كَأَنَّهَا بالبَرْق تكتب، كَأَنَّهَا بالضَّوْء تسْرُدُ، ومَا هي بحَاجَة إِلَى وَقَائِع الكَلاَمِ. ذلك لأَنَّهَا، وعَبْرَ التَّتَابُعِ المُشرِق، مَشَت صَوْب الكتابة سيرًا على قَدَمَيْ السَّناء، وبِمَهْلٍ، فيه تَبَدَّى مَا في قَامَتها مِن كَثِير اكْتِناز. وعَبْرَه بَرَزَ مَا في ظِلّها مِن جَزِيل سُطُوع.
ومِثْلَما لا يُمْكِنُ التَنَبُّؤ بحلول دَهْشَة البَرْق، فَكَذَلِكَ لا يُمْكِنُ توقُّع توقيت رُعُود الحِبر. وإذنْ: ما عَلَيْنا، أَنتَ وأنا، سِوَى الذَّهَاب عَكْسَ إيَابها. سِوَى أَنْ نتَخَلَّى عَنْهَا، وكلانا منهمك في رحابة هي عنوان شسعها، كي تتشبث بك وبي، وهي على أقوى امتداد في انحصار هو أوسع سقفنا !
ما من ظنون، ما من غرابة، فاسمها وحده، أمينة الصيباري، يُستعمل للاستثناء، وعليه يجري حكم الممُسْتَثْنى بـ (إلاّ)، ويكون ما بعده مجرورًا بالإضافة الماهرة، مُفْردًا بالتوهج، ليس جملة ولا شبهها، بل عبارة عَكْسَ الْحَياةِ تمشي !
«أنت من صبّ المداد
على جناح الفراشة
فكان الوشم على كتف القصيدة…».

(3)
«الشِّعر
عودة متجددة
للسماء
طلبا للمغفرة».
مع أمينة الصيباري، المُتوَّجة بغفوات الدهشة، المحلقة في شاهقات الكلم، الدانية حد عسر القطف، والموارة بصبوات الظلال، بحلاوة الشوكولا، ونكهة القهوة:
أَجِدُني في حَضْرَة امرأة:
«ترعى السحاب في الأعالي».
أراني بصحبة شاعرة:
«تغني للعشب كي ينبت في قعر الماء».
أحسِّني بين يدي روائية:
تشعل فوانيس الكلام في «ليالي تماريت”.
خُفْيَةً، اِنْسَلَّ إِلَى نتاجها كُلُّ ما تَدانَى من حبري، فبدت، إزاء ناظري، كَأَنَّهَا نسيج، لا يتَكَرَّر، في إلقاء القبض على تَبَدّيات العابر، وإِطْلاق سَراح جَلَبة المُقِيم، حَتَّى تمارس لجوءها إلى صَمْت جَاهر، عَبْره تَنكتِب في هَسِيس انفرادها.
في ضواحي نصوصها، ليس داخل غرفها، أقمت زمنا. هكذا، كلما قرأتها، كلما كتبتها، فاجأتني أضواء دوالها، وأنا تائه في قبو رموزها. لَمْ أنْجُ من عَلاَمَاتِ إغوائها البَادِيَةً، بجلاء، عَلَى وَجْهِ يراعي.
«أعلم فقط أَنّي أعشق
ملوحة البحر من شفتيك
وأسكب من عينيك
فنجان قهوة الصباح….».

(4)
«لم يعد لدي دمع
أذرفه على الطرقات…
كُلُّ ما أملكه…
كيس ملح».
مَا حَدَثَ لي كَانَ عَكْسَ مَا يَتَصَوَّرُ، لمّا تَسَلَّلَ فضولي، خُفْيَةً، إِلَى كَهْفِ لغتها، وشَرَعت في تَصَفَّح بنية إضمارها، والبحث في خَوّاص السُّلالةُ المُتحوِّرة لمجازاتها. هنا النُّطفة اللغوية تحمل جينات محفورة في معان حامية. مفخخة بالتلصص عَلَى أنفاس الأشياء. تنهطل علي من علو النص، تضعني إزاء ضدي. إذ حين يظن تأويلي أنه في مهب شعاع اكتشاف قد وضعها، يأتيه اليقين أنه ما اكتشف إلا خبايا نفسه، ولواعج ذاته هو، في مواجع ذواتها هي.
«أناديني بكُلّ الحروف
فلا أسمعني».
ما أَذِنَ لي حرفها بحقِّ الولوج، إلا بعد جعلتني أومن أنها من كلمة واحدة، منفردة عن سياق المعمم، يمكنها تفريخ ذُرِّيَّة من المعاني التي تضحك ملء استعارتها. إني أراها تترك في متن لغتها هامشا للغة أخرى، ربما لكي تجعلني مشغولا عن المبنى بالركض خلف المعنى. أوليست هي صاحبة «أنامل تغازل حمرة الحناء» ؟!
«القهوة لا تنتظر أحدا
يخبر عنها الدخان
تشيعها الرائحة
إذا لم ترشف ساخنة
يجفل فيها المعنى».

(5)
«وتمكرني قهوة عينيك
تهرق فينتشي الفنجان..».
هنالك، في الفناء الخلفي للعبارة، التي سلمت كامل بديعها للترقب، تمارس الماكرة أمينة هداية من ضل من الكلمات إلى سواء سبيلها.
إنها، أمينة المجنونة، تلفت انتباه الكلمة، وتحذرها من مغبة ما ينتظرها من دلالات ارتجاجية داخل مرصد هزات شعرية، قبل أن تكتبها، أو بالأحرى، تطوح بها صوب «الوجع المختر في الروح». ذلك لأن «بعض الحلاوة لعنة»، كما أكدت، ذات راوئح، فناجين نكهتها الأخرى.
«الصباح شمس في فنجان
رشفات النور تشعل خيال المرارة
تروي قصة الشمس والسكر».
تبدو لي كَأَنَّهَا عَلَى مَتْنِ صَحْن طَائِر، يهرب بها خارج مَجَرّة اللغة المحايثة، كَيْ تُؤَسِّس لأفقها اللغوي فَلَكه الذي يَسَعُ كُلّ أَجْرام تَعْبِيرها الأَثِيرِ والمُؤثِّر.
«هذا الورد لي
وأيُّ عبير شارد في المزهرية لك.
هاته الزرقة لي
وقميص البحر
المرصّع بالصّدف والموج لك.
هذا الحلم لي
ونوايا الشِّعر
في قصيدة لم تكتب تُكتب بعد لك».
مجازها سِكِّير، لذَا، هو يدمن التعلق بتلابيب اللغة المغناج، ويقترف حُمَيَّا الكَأْسِ، لكَيْ يبُهِت له من كَفَرَ، وهو في أُتُون نُصُوص لا تَحمَّر الوجنة، ولا يرتجف لها الجفن، إذَا في مَهَبّ ضربة اِسْتِبَاقية أَضْحَى صَوَلانها، وأَمْسى جَوَلاَنها.
«لا أدري…
إن كان شكل الوقت
على رقبتي
سكّينا أم قلادة…» !

(6)
«اقتلونا بالخناجر…
بالحجر…
أو…
كما شئتم…
أرواحنا لا تساوي
ثمن عيار محترم..» !
السّرد أخُو الكشف. هذا ما تعلِّمنا إِيَّاهُ أمينة، وهي توظف
ما زَوَّدَتها الكتابة به من قدرة على ترك آثار مخالبها على وجه واقع كالح، ما اكتفى بإعْمَاء البصائر، بل أضاف إليه سَبْي المشاعر، وَوأْدُ النبض في شريان الحياة.
وإذًا.. حُقّ لها أنْ تجهر،
ملء صَوْتها الطاعن في صرخة الإبانة:
«الحياة لا تعترف بالمزيفين».
مِن هنا، تحديدا، أَنتَ لَسْت مُلْزَما بارتداء صدرية واقية من لغتها الضاغطة عَلَى الزِّنادِ، إلاَّ إذَا كُنْت فَاعِلا في ترك وَعْثاء الحَدِيثِ العاري إلاَّ من فداحة واقعه، بعد تحويله إلى ضَمِير مُسْتَتِر. أو كُنْت من الذين جَعَل الزيف عَلَى قُلُوبِهِمْ «أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ» !
«أفظع شيء يمكن أنْ يحدث
أنْ تنبت للإنسان بواسير دماغية
تمنعه مِن التفكير” !
يخطفني، الآن، السُّؤالُ: أهِيَ كلمات هذه ؟! أَمْ تراها لكمات هي معانيها (لاحظوا: نفس الأحرف في الكلمتين) !؟
رغْمَ أَنّ اسمها أمينة، إلاَّ أنه لا يمكن اِئْتِمَانُها على واقع، لفَرْط ما فيه من الفواجع الطَّنَّانة، هي تجْهِز تماما عليه، لكَيْ يؤمن لها صدارة فضح مَثَالِبه.
«هذا السّر لي
وكل تاريخ البطولات والمعارك لك.
هاته الهزائم لي
وكُلُّ سَبَايَا الحروب لك…» !

(7)
«هذا الليل لي
والشمس التي يمكن أن تنبت فيه لك.
هذا الحرف لي
وأيُّ معنى ثمل بين السطور لك…».
ما تَكَادُ تقرأ ديوانها: «رجع الظلال»، حَتَّى تضْبط توقك وهو يفتش عن شقيقه: «وشم بالشوكولا». لمّا تقبض عليهما، معا، ستبدأ حكايتك معها. تَتَلَخَّص في كَوْن قراءتك لها عنها لنْ تحِيَد، ما دمت وَلَجت قفازها الناعم. وكتابتها لك لنْ تتركك في منتصف التَّيهان، ما دامت هي لك المرشدة في فيافي القوافي.
انْظُرْ إِلَيْهَا، ثُمَّ طالعها غزيرا
في شهوات فصاحتها هي،
في بوارق تعاطيك أَنتَ،
فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا !
تَدَبّرَتهُ فِي نَفْسِهِا، الحُبّ، وَلَمْ ترْفَعْ صَوْتَها بِقِرَاءَتِهِ. ذلك لأنه، هذا الحُبّ الذي يرتدي سردا حينا، وإيقاعا أحيانا، إلى العالم اللَّدُنِّي ينتمي. لذَا، أنصحك أنْ لا تقرأ ديوانيها إِلَّا وأَنتَ في كامل وُضُوئك الروحي !
«في قعر الفنجان
سكر تَفَتَّتَ
من فرط الحلاوة
قهوة مُرَّة
مُرَّة كَأَنَّهَا عصارة حزن…».

8
حسن، اِمْضِ فِي الحَدِيثِ.
توغَّل في حِبْرِك.
لا تتوقَّف عن انسكابك.
حَذارِ أن تأتيني بميعاد النهاية،
كَيْ لا أغادرك بتوقيت البداية.
إننا معا حَتَّى مَطْلَعِ فَجْرِ اللقاء !
يصلني صَوْتُها من قريب البعيد، وهو مَبْلول بِكُلِّ ما فيه من سَكَرات البياض. من المسودات الدُّنْيَوِيَّة. من فَوَاتِن الحَكي. ومن مرارة الوقت في كؤوس الحياة.
بَيْدَ أَنّي توقَّفت عن الانهطال لأعيد قراءة / لأعيد اكتشاف ما تختزنه روايتها: «ليالي تماريت» من بَوَاطِن المصائر. ومن فُسَح الأماني.
«بيني وبين الصباح
وعد فنجان
هل ستأتي به القهوة
أم قطعة السكر ؟»


الكاتب : حسن بيريش

  

بتاريخ : 08/03/2022