«أم البدايات
أم النهايات
سيدة الأرض
كانت تسمى فلسطين
صارت تسمى فلسطين»(محمود درويش)
فلسطين حكاية الأرض والهوية.. حكاية «شعب فاض عن الأرض وتاه في المنفى والشتات».. جزء» من جسد الطفولة وطراوتها ونحن جزء من القرابة ذاتها حول شجرة الزيتون».
هكذا تشكلت فلسطين في خيال الشاعر والصحافي والسياسي عبد الحميد جماهري، وعبرت من مراتع الطفولة وحكايا أرض الأنبياء كما رواها الجد ذات سنة.. وهكذا بدت شجرة تعتلي الجدار تتأبى على عصف الرياح في كتابه الأخير «أنا وفلسطين» الصادر عن دار الثقافة للنشر بحر هذه السنة.
«أنا وفلسطين» مجموع مقالات وأعمدة صحفية، تموجات تتأرجح بين الأدبي والإنساني والذاتي والسياسي، سيرة تنكتب وهي تمحي الحدود بين انفعال اللحظة وروية التعليق والتحليل.
يقول في ص33 «تنفست فلسطين صغيرا، لكن هواءها لم يدخل رئتي إلا في سنة 2010» سنة زيارته لها «في مكان من حجر وغيم، ومن شجر وخضرة.. قرية مارون الراس» في إطار الملتقى الدولي العربي لدعم المقاومة الفلسطينية.
يسجل جماهري في يومياته معظم المنعطفات والتواريخ الفارقة في مسار القضية الفلسطينية وتقاطعاتها مع عدد من القضايا العربية كحرب الخليج وأحداث الربيع العربي ومسارات الحل المتعثرة.
يوميات كتبت بنفس شعري مؤطر ومحكوم بخلفية فكرية يصرفها بحس سياسي نقدي، أحيانا يضبط فيه المسافة بين الذات والأحداث، كما يتطلب حياد المحلل القارئ للوقائع، وأحيانا تنتفي تلك المسافة إلى «الصفر» وتحل الذات في الموضوع بل تذوب.
هذا الانتماء بالفطرة لجذر الزيتون، سيتحول إلى انتماء واع خصبته ساحة المعترك التلاميذي ثم الطلابي قبل أن يتجذر سياسيا داخل الحركة الاتحادية التي قاتل أبناؤها واستشهدوا فوق ترابها، وكان حظه من هذا الحب القاسي والمقدس أن اعتقل سنة 1979 حين دعت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في يوم الأرض الى إضراب تضامنا مع فلسطين ، وهو الوعي الذي سيتبلور في ما بعد أدبيا وإعلاميا، متواشجا مع الالتزام السياسي.
المسافة الصفر في الحب
من العتبة / العنوان نجد ذلك التأكيد على العلاقة بين المؤلف وفلسطين. فلسطين التراب والمكان والإنسان، علاقة تبدو تأريخا شخصيا لعلاقة المجاورة التي ربطته بالقضية الفلسطينية منذ تشكل الوعي الجنيني بها. علاقة يندغم فيها العاطفي المرتبط بالرباط الوجداني للمغاربة كافة بقضية مركزية تتوازى وقضيتهم الوطنية الأولى، بالإضافة إلى تعالقها المرتبط بالنضج الفكري والممارسة داخل النخبة السياسية اليسارية الوطنية حيث تنمحي الحدود، غالبا، بين العاطفي اللحظي ورصانة التحليل الموضوعي للأحداث، حين يقف الموت شاهدا على الجريمة.
تحضر أيضا «عشان عيون فلسطين» المقالة السجالية والسياسية والتجارب الشخصية، في تحديد الموقف من تحولات الواقع السياسي والميداني داخل فلسطين، أو في تأصيل فكرة ما وتذويتها في ما يتعلق بمواقف المغرب والمغاربة تجاه القضية في مراحل مفصلية من مسارها الطويل، مسار تعامل فيه المغرب الشعبي بعاطفة وجدانية، وتعامل فيه المغربي الرسمي بعقلانية ورؤية جيوسياسية في تدبير هذا الملف الشائك بدون أية أجندة خاصة.
تحضر العلاقة مع القضية الفلسطينية التي كانت مع اتحاد طلبة فلسطين بالمغرب، الصداقات الشاهقة مع ماهر الخياط وأبو محمد مسلم ورندة أبو شمالة.
عن علاقته برندة أبو شمالة يقول جماهري:» بعد الصداقة مع رندة أبو شمالة في الجريدة، أصبح للبلاد المقدسة عينان وبريق وقصة شعر، وبحة مختارة من بين كل ألحان الشدى. وصرنا جزءا من حكاية أسرة فلسطينية كما صارت جزءا من قصص عائلات مغربية…».. «هذا الاسم العائلي يشبه الطريق.. طريقا لا يمشي فيها أحد بدون صليب وكفن..ومغيب فاحم».
هذه الصداقات التي كانت تتم من زاوية إنسانية ومن داخل الالتزام اليساري الاممي، ستستمد شحنة وجدانية أكبر عبر اللقاء مع «واصف حالتنا»، ذلك الفلسطيني المغربي الذي كان «شريكا في ذكرياتنا الفلسطينية»، بل شكل أيقونة فلسطينية داخل المغرب «واصف منصور» الذي «عاش محبوبا من الجميع ومات في الجزء المغربي من فلسطين»كما كانت وصيته.
عن واصف يقول جماهري:
«لا أذكر متى عرفته
لأنني لا اذكر متى عرفت يدي
ولأنني لا أذكر متى عرفت وجعي»؛
و»لأننا لا نذكر أول مرة رأينا الشمس أو رأينا فيها زرقة السماء.. كان عنصرا من طبيعة الوضع ومن طبيعة الجغرافيا»..» فلسطيني منا وإلينا عاش من تربتنا وأحجياتنا، وله في قاموس الحب المغربي ما ليس للكثيرين منا». ص13.
الاتحاد وامتحان القضيتين:
ماذا يفعل قلب تتقاسمه حبيبتان؟
بعد حادثة الجزائر 1988، أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني هناك وحضور البوليساريو يتقدمهم عبد العزيز المراكشي الذي أخذ الكلمة، وما ترتب عن ذلك من توتر حاد بين المغرب الرسمي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وانسحاب المستشار الملكي أنذاك بنسودة، وما شكله هذا المنعطف من رجة في العلاقات المغربية الفلسطينية، خاصة بعد موقف الملك الراحل الحسن الثاني بمنع حضور المغاربة، أحزابا أو جمعيات، لأي تجمع أو لقاء يحضره فلسطينيون.
بعد أسبوعين فقط على هذا الحادث، كان على العاشق أن يختار وهو يُمتحن في حبه وصداقته لفلسطين.. المناسبة كانت اليوم العالمي للتضامن مع فلسطين(29 نونبر)، ووقتها كان موقف الشبيبة الاتحادية والقطاع الطلابي تعبيرا عن التزام واضح بالانحياز الى فلسطين، إنسانيا ونضاليا وسياسيا، رغم الايمان القوي والراسخ بعدالة القضية الوطنية الأولى .
يقول جماهري عن هذه اللحظة «لست أدري كيف اعتبرنا وقتها في شبيبتنا وقطاعنا الطلابي أن رفض تهديد الملك الراحل، دليل عافية نضالية وشجاعة».ص 18
يضيف جماهري مؤكدا تجذر هذا الإيمان في صفوف الشبيبة الاتحادية : «نحن جيل رأى في منظمة فتح الحاضن القومي لتحليلنا وفهمنا لقواعد الاشتباك في القضية والتحولات العاصفة التي تدور حول القضية..» ص19.
1 -عبد الرحيم بوعبيد:
يسوق جماهري أمثلة عن الارتباط المبدئي والسياسي لقادة الاتحاد الاشتراكي، بدون استثناء، بالقضية الفلسطينية. ويكتب عن الذكرى الأربعينية لوفاة القائد عبد الرحيم بوعبيد حين أبّن مستشار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، هاني الحسن ،القائد بوعبيد باسم فلسطين والفلسطينيين قائلا: «لقد عرفت بوعبيد شخصيا والتقيت به مرت عديدة. كان رجلا ذا رؤية وكان دائما يملك رادارا لا يتوقف عن دراسة الهضاب السياسية. تعلمت منه الكثير. لقد عاش الشهيد مدافعا عن القضية الفلسطينية والفلسطينيين في كل الساحات الدولية، وخاصة الأوربية».ص19.
2 -المهدي بن بركة
كل قارئ لمسار العلاقة بين الحركة الاتحادية والحركة الوطنية الفلسطينية بكل فصائلها أنذاك، لا بد أن يتوقف عند محطتين أساسيتين:
محاضرة الشهيد المهدي بن بركة بالقاهرة سنة 1964: هذه المحاضرة غيرت فهم كثيرين لحقيقة الصراع لأنها كانت أول محاولة عربية في تحليل الفكر الصهيوني ومحاولات تغلغله في إفريقيا، وتأثيره في الحركة الاشتراكية الأوربية من خلال حزب العمل الإسرائيلي وتأثيره على عدد من الأحزاب اليسارية وفصائل اليسار المتطرف، وهنا لعب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية دورا مهما في إقناع الأحزاب التقدمية بخطورة الفكر الصهيوني ، ثم مبادرات المناضل الفقيد عبد الرحمان اليوسفي.
3 -المناضل عبد الرحمان اليوسفي
عندما قررت حركة فتح ضرورة التواجد المنظم للمقاومة بأوربا، ربطت الاتصال بقيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالمنفى، وبالتحديد بالراحل المناضل عبد الرحمان اليوسفي الذي أصبح محامي الحركة الفلسطينية وكل الفدائيين في أوربا: في زيوريخ وكوبنهاغن واليونان والدنمارك. بالإضافة الى اتخاذ مقر الاتحاد الوطني، في العاصمة الفرنسية باريس، مقرا لمنظمة التحرير الفلسطينية .
ظل المناضل عبد الرحمان اليوسفي خلف كل عمليات ،فتح مقرات للمنظمة في أوربا وخلف كل محاولات إقناع المحامين الأوربيين التقدميين بالدفاع عن المقاومين الفلسطينيين؟
4 -اتحاديون استشهدوا من أجل فلسطين
بعد هزيمة 1967، انخرط الشباب الاتحادي في معسكرات الثورة الفلسطينية،وشارك في العمليات الفدائية هناك ومنهم من استشهد فوق ترابها، أما من عاد فلا تزال ذاكرته تحتفظ بأيام «رفقة السلاح والقمر».
لقد بصمت الحركة الاتحادية، فكرا ومبدأ وعلى أرض الواقع، على هذا التماهي مع القضية القومية للعرب، تماه كان يتم وجدانيا وسياسيا. فكل التيارات التقت حول فلسطين : حركة وطنية، أحزابا يسارية، مؤسسة ملكية ومعارضة.
الأزمة الأخلاقية للغرب
يثير المؤلف في هذا الكتاب، أزمة الضمير العالمي، بالوقوف مليا عند مأزق الأزمة الأخلاقية للغرب الحداثي بعد الموقف من طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 ( مقالات: الغرب بين الدم والعطالة الأخلاقية – انهيار فلسفة الأنوار أمام الشرط الفلسطيني – عالم لا يحلم بالكوابيس – من ينقذ الجندي أنطونيو غوتيريس)(ص: من 118 الى 140) .
لقد مثل جماهري لهذا المأزق ولانهيار فلسفة الغرب والأنوار أمام الشرط الفلسطيني بحالة النخبة الفرنسية التي فشلت في هذا الامتحان، سواء عندما أسقطت الشرط الأخلاقي عن الوضع اللاإنساني في غزة أو عندما قاربت الوضع المأساوي وحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني بـ»ثوابت السياسة الجديدة».
لقد عرّت حرب غزة الأخيرة، والتي لا تزال رحاها تدور الى يومنا هذا، أمام صمت المجتمع الغربي والعربي، عرت صورة النخبة الفرنسية، ثقافية وسياسية، بالنظر الى تحكم اللوبي الصهيوني في كل أوصال الحياة الفرنسية،وبالتالي ظهرت معها شعارات الحرية والحق «شعارات جوفاء دفن معها ماكرون كل هذا الإرث التنويري».
يتذكر المؤلف، وهو يعرض لهذه الازدواجية في المعايير من لدن الغرب الفكري، موقف الفيلسوف والمفكر هابرماس الذي نزع آخر ورقة توت عن هلامية هذا الفكر وانحيازيته.
في المقابل، نجد الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس محاصرا بالشلل في وقت الحرب. نقرأ في الكتاب عن هذا الشلل المتحكم فيه:» سلطة الأمين العام قد تم تقويضها بشدة». لافتا الى أن موقفه نجح في» أن يوسع من وضوح وحجم الفارق الأخلاقي بين أعضاء مجلس الأمن وأمريكا التي انتصرت لمنطق الحرب» (14 عضوا صوتوا ضد الحرب).
لقد نجح غوتيريس في خلق الشرخ الضروري وسط المجموعة الغربية الشاملة التي «وقفت بدون أدنى شعور بالذنب إلى جانب القاتل والقتل الجماعي وجرائم الحرب» ص139.
طائر آخر حلق خارج سرب النسور، وخرج عن الطوق الغربي، وقد وصفه جماهري ببلاغة شاعرية ب»طائر منفرد يصنع ربيع أوربا الأخلاقي» ص130.
يتعلق الامر هنا برئيس الوزراء الاسباني بيدور سانشيز الذي اختار الجانب الصحيح من التاريخ حين اختار منبرا لتصريحه معبر رفح ليقول ما يؤلم الاحتلال في وضعه الراهن: «رفض القتل الأعمى للفلسطينيين في غزة والضفة وإعلان نيته في الاعتراف بالدولة الفلسطينية» وهي الخطوة التي لن تنتظر إسبانيا طويلا لاتخاذ قرار بشأنها، إذ بعد هذا الخطاب بأقل من شهر ستعلن إسبانيا رسميا اعترافها بدولة فلسطين، وستحذو حذوها النرويج وإيرلندا .
شعراء يسكنون دمه
هل من شاعر حقيقي لم يغرف من جرح فلسطين المتدفق السيال؟ من لم يعبر تضاريس الوجع الفلسطيني الصعبة قبل أن يكتب وجعه؟
يتساءل جماهري في مقال «القصيدة والعدو»: كم مرة استطاع الشعر أن يُفقد الاحتلال أعصابه ووقاره الديمقراطي، ألا يستعير الشاعر من الحمامة هديلها ليرفعه في وجه الدم والخراب. إن الشاعر يحرر اللغة من سحر الجلاد»ص161.
يحضر الشعر الفلسطيني وشعراء الأرض والقضية، كلما ذكرت فلسطين، وكلما فاضت البلاغة عن الوجع . يحضر درويش بقلبه المفتوح على الأبدية، ممتلئا بكل أسباب الغياب.. يحضر في الاستعارة والتحقق، وقد نعاه جماهري «بقلب مسور بالأسلاك الشائكة»، «الشاعر الذي يجعل العقل السياسي مرادفا كبيرا للقلب والتراجيديا» ص158. هذه التراجيديا التي لا قدر للفلسطيني إلا أن يتشبث بها، و»أن يعيد في كل مرة تعريف الكينونة»، هو وحده القادر على أن «يبقى واقفا وسط الانهيار الشامل «ص50. يحضر أيضا معين بسيسو وهو يخلد «قلعة الشقيف» في قصيدة.
ولأن درويش استطاع أن «ينزل الأبدية إلى الحجارة ويجلس أمة كلها أمام نار صغيرة في الجليل»، فقد كانت الحاجة إليه تُسْتدْعى في حياة ويومي المؤلف، «ليس افتتانا باللغة، ولكن – لأن جماهري كما صرح ذات مرة – « يجد في درويش سندا بلاغيا يستند إليه» كلما اشتدت العاصفة والعاطفة أيضا.
يقول جماهري في مرثاة درويش:» يلزمنا حزن أبيض، حزن أول ، حزن إنساني صامت لكي نشعر بمعنى أن يغادرنا شاعر أسطورة وهو في عز البلاغة، مرافعة من أجل الحياة» ص 156.
يحضر الفكر الفلسطيني الثاقب والاستشرافي أيضا في شخص المفكر إدوارد سعيد الذي عاش «يحاور الضمير العالمي بما هو صاحب أرض وعقل أيضا ومعرفة» ص164.
فإدوارد لم يكن « مثقفا بلا جذور يسعى لأن يكون مجرد منشط للضمير أو مراقب منحاز، بل رجل فعل حيث عاش عضويا في الأجهزة التقريرية والتداولية في منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يكن يستعرّ من عرق النضال المؤسساتي ووعثائه»، لذا يقول إن الحاجة اليوم إلى استحضار فكره ضرورة بعد أن «رمى مثقفون كبار من العالم العربي رسالة في زجاجة بعنق ضيق، ولم يلتقطها سوى عدد قليل من المثقفين الغربيين».
الرسائل كثيرة في هذا الكتاب.. رسائل في المحبة وبها وعنها يكتبها شعراء يسكنون دمه، ورسائل تقرأ كف الواقع بكثير من الالتباس الذي يقود إلى الحقائق المرة في معادلات السياسة والسياسيين.