أنبياء بين التوراة والقرآن 17 : الملك داود … داود يقتل جالوت

خاض الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..

 

تختصر الرواية القرآنية قصة انتقال المُلك من شاؤل إلى داود عندما تقول:”وقتل داود جالوت، وآتاه الله المُلك والحكمة وعلَّمه مما يشاء ” ( البقرة : 251). ولكنّ انتقال المُلك إلى داود في الرواية التوراتية بعد أن قتل الفارس الفلسطيني جوليات في المعركة الشهيرة التي وصفناها سابقاً، له قصّة طويلة تمتدّ عبر 14 إصحاحاً من سفر صموئيل الأوّل، لا نستطيع هنا إلا أن نأتي على أهمّ مفاصلها.
فبعد أن اتخذ الربّ قراره بنزع الملك من شاؤل، وأبلغه هذا القرار على لسان صموئيل الذي قال له: “لأنّك رفضت كلام الربّ فإنّ الربّ يرفضك من المُلك”. ناح صموئيل على شاؤل أيّاماً كثيرة. فقال الربّ لصموئيل:
«حتّى متّى تنوح على شاؤل وأنا قد رفضته؟ املأ قرنك دهناً (1) وتعال أرسلك إلى بيت يسِّي البيتلحمي لأنّي قد رأيت في بيته ملكاً … ففعل صموئيل كما تكلّم الربّ وجاء إلى بيت لحم. فارتعد شيوخ المدينة عند استقباله وقالوا: أسلام مجيئك؟ قال: سلام. وقد جئت لأذبح للربّ. تقدّسوا وتعالوا معي إلى الذبيحة. وقدّس يسّي وبنيه ودعاهم إلى الذبيحة… وعَبَرَ يسّي بنيه السبعة أمام صموئيل. فقال صموئيل ليسي: الربّ لم يختر هؤلاء. وقال صموئيل ليسي: هل كملوا الغلمان؟ فقال: بقي الصغير، وهو ذا يرعى الغنم. فقال صموئيل : أرسل وآت به. فأرسل وأتى به. وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر. فقال الربّ: قم امسحه لأنّه هو. فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته. وحلّ روح الربّ على داود منذ ذلك اليوم فصاعداً”. ( صموئيل الأول 16 : 1-13).
بعد ذلك جاء رسل شاؤل وأخذوا إليه داود ليعزف له على العود، على ما رأينا في قصة شاؤل سابقاً. فأحبّ داود وجعله حامل سلاح له. وبعد قتله لجوليات أعطاه شاؤل قيادة إحدى كتائبه وزوّجه من ابنته. فارتفع شأن داود في الجيش وبين الناس، فقد انبرى لتوّه يشنّ غزوات خاطفة على الفلسطينيين ويقتل منهم المئات. ولكنّ قلب شاؤل تغيّر نحوه، وخاف من تزايد محبّة الناس له فكرهه. وعندما كانت تأتيه نوبات الاكتئاب كان يسعى لقتله. فهرب داود من وجه شاؤل واختبأ.
وفي هذه الأثناء تجمّع حول داود جماعة من الأفّاقين والمغامرين ومن أعداء شاؤل، وصاروا يرتحلون معه حيثما ذهب. وعندما يئس من وجود ملاذ آمن له في مناطق حكم شاؤل، لجأ وجماعته إلى ملك الفلسطينيين في مدينة جت، ووضع نفسه وجماعته في خدمته متحوّلاً إلى زعيم مرتزقة تعيث فساداً في أراضي خصوم ملك جت. ولكنّ الفلسطينيين لم يكونوا يسمحون له بالذهاب معهم لقتال بني إسرائيل، وذلك خوفاً من انقلابه عليهم وعودته إلى صفوف بني جلدته ( صموئيل الأول : 7-30).
في آخر معركة له مع الفلسطينيين هُزم شاؤل هزيمة منكرة وأصيب بجرح بليغ. وعلى حدّ وصف النصّ التوراتيّ: “اشتدّت الحرب على شاؤل فأصابه الرماة رجال القِسّي فانجرح جداً. فقال لحامل سلاحه: استلّ سيفك واطعنّي به لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويقبّحوني . فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جداً، فأخذ شاؤل السيف وسقط عليه. ولما رأى حامل سلاحه أنه مات شاؤل، سقط هو على سيفه ومات معه “. (صموئيل الأول 31 : 1-13) . ومن المفترض أنّ شاؤل قد حكم من عام 1020 إلى عام 1000 ق.م.
عندما سمع داود بمقتل شاؤل رثاه بقصيدة طويلة وحزن عليه، ولكنّ شعوره بالأمان دفعه إلى العودة إلى موطنه، فقام وذهب إلى مدينة حبرون وأقام فيها. فجاء رجال سبط يهوذا ومسحوا هناك داود ملكاً عليهم. ولكنّ أبينير رئيس جيش شاؤل لم يعترف بداود وإنما بايع بالملك ابن شاؤل المدعوّ إشبوشت، وتبعه في ذلك جميع القبائل الإسرائيلية الشمالية. وكانت حرب طويلة بين بيت داود وبيت شاؤل. وكان بيت داود يتقوّى وبيت شاؤل يضعف . وبعد سنتين دخل اثنان بيت اشبوشت على غفلة وقتلوه وهو نائم في سريره وقطعوا رأسه وجاؤوا به إلى داود. ولكنّ داود أمر الغلمان فقتلوهما، وأما رأس اشبوشت فأخذوه ودفنوه. فجاء جميع أسباط إسرائيل إلى حبرون ومسحوا داود ملكاً عليهم ( صموئيل الثاني: 1-5 ) .
كان داود ابن ثلاثين سنة حيث مَلَكَ، ومَلَكَ أربعين سنة. ومن المفترض أنّ مدّة حكمه قد امتدّت من عام 1000 إلى عام 961 ق.م (2). كان أوّل عمل لداود بعد أن صار رأساً للمملكة هو الاستيلاء على مدينة أورشليم التي كانت حتى ذلك الوقت بيد الكنعانيين، وجعلها عاصمة له بعد حبرون. ومن أورشليم أخذ يشنّ حملاته العسكرية التوسّعية حتى سيطر على كامل مناطق شرقيّ الأردن والجنوب السوريّ وضمّها إلى مملكته (3). وعندما أراحه الله من أعدائه، أرسل إليه حيرام، ملك مدينة صور الفينيقية على الساحل السوريّ، خشب أرز وبنائين فينيقيين، فبنوا قصراً لداود. وهكذا بدأ داود يعيش حياة الملوك المترفة، وتسرّى بنساء من أورشليم ولدن له بنين وبنات. وهذه الأخبار تغطّيها الإصحاحات العشرة الأولى من سفر صموئيل الثاني.
في إحدى الليالي كان داود يتمشّى على سطح بيته، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ في بيتها، فاسترق النظر إليها دون أن تشعر به. كانت المرأة جميلة المنظر جداً، فأرسل داود وسأل عنها. فقيل له بأنها بتشبع زوجة أوريَّا الحثي الجنديّ المخلص في جيش داود. ولما كان أوريا غائباً في إحدى حملات الجيش، فقد أرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه واضطجعت معه ثم رجعت إلى بيتها. وبعد مدّة أرسلت المرأة إلى داود لتخبره بأنها حبلى. فأرسل داود إلى قائد جيشه يوآب يقول: أرسل إليّ أوريا الحثي. وكان الجيش يحاصر مدينة ربة عمون في شرقي الأردن. فأتى أوريا إلى داود، فسأله داود عن سلامة قائده يوآب وسلامة الجيش، ثم قال له أن يذهب على بيته ويغتسل ويرتاح. فخرج أوريا من عند الملك . وبدلاً من أن يذهب إلى بيته نام على باب بيت الملك مع الحرس. وفي الصباح سأله داود عن السبب في عدم ذهابه إلى البيت، فقال له: إنّ إسرائيل ويهوذا والتابوت معهم ساكنون في الخيام حول مدينة الأعداء، فكيف آتي إلى بيتي وآكل وأشرب وأضطجع مع زوجتي؟ فأطلقه داود وأرسل بيده كتاباً إلى قائد الجيش يوآب يقول فيه: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت. ففعل يوآب ذلك ومات أوريا. فلما سمعت بتشبع امرأة أوريا أنه مات رجلها ندبته. وعندما انتهت أيام حزنها أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة.
فأرسل الربّ النبيّ ناثان إلى داود، فجاء إليه وقال:
” كان رجلان في مدينة واحدة منهما غنيّ والآخر فقير. وكان للغنيّ غنم وبقر كثيرة جداً، وأمّا الفقير فلم يكن له إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وكبرت معه ومع بنيه جميعاً، تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه، وكانت له كابنة. فجاء ضيف إلى الرجل الغنيّ، فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ويهيّئ للضيف الذي جاء إليه؛ فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ للرجل الذي جاء إليه. فحمي غضب داود على الرجل جداً وقال لناثان: حيّ هو الربّ، إنه يُقتل الفاعل ذلك، ويردّ النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولم يشفق. فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل. هكذا قال الربّ إله إسرائيل: أنا مسحتك ملكاً على إسرائيل وأنقذتك من يد شاؤل… وأعطيتك بيت إسرائيل ويهوذا. وإن كان ذلك قليل كنت أزيد لك كذا وكذا. لماذا احتقرت كلام الربّ لتعمل الشرّ في عينيه؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف وأخذت امرأته لك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني عمون… فقال داود لناثان: قد أخطأتُ إلى الربّ. فقال ناثان لداود: الربّ أيضاً قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت، غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الربّ يشمتون، فالابن المولود لك يموت”. (صموئيل الثاني12: 1-15).


الكاتب : فرس السواح

  

بتاريخ : 21/05/2021