كان واضحا أننا سننتظر بعض الوفود التي لم تصل بعد، وكان للصدفة الماكرة دورها: علينا انتظار وصول الوفد من الأشقاء الجزائريين، مع مطلع يوم الخميس.
فجرا، بدأت الرنة الجزائرية المألوفة في تداول الحديث تطرق أسماعنا، نحن الذين اعتدناها.. آخرون بدأوا منذ تلك اللحظة يخلطون بيننا وبينهم، وأحيانا يضاف إلينا التوانسة، أهلنا في تونس!
التأخر الطفيف، غيَّر قليلا من برنامج اليوم الموالي، ولم يعد الأمر يتعلق ببرنامجنا كما تسلمناه من قبل الوصول..
هكذا لم يكن في برنامج اليوم، الخميس 14 دجنبر، ما يدعونا إلى التغيير الكلي لاسترخائنا، لكن كان واضحا أن التغيير الأكبر هو أننا سنترك توقيت الصلوات يضبط إيقاعنا اليومي…
فجر
ظهر
عصر
مغرب
وعشاء…
الفندق على مقربة من المسجد النبوي: وهو تحفة معمارية، بمآذنه العشرة، ينشر الضوء نهارا على المحيط .. ضوء يشعر المسلم، ومن تربى في حوض ديني، أنه يصل إلى العمق..يشعر، الذي تربى مثلي بالقرب من مسجد بسيط، وعلى صوت أجداد قيمين على مكان للعبادة، أن هذا الضوء يخترق كل الطبقات التي تراكمت بفعل اركيولوجيا الزمن المعاصر. يستطيع أن يضيء الأحشاء، ويضيء الروح السادرة في الاستفهام.
المشي بالأقدام الحافية، الأسيويات العجائز وهن يعبرن، المقوسات بفعل السن والاندونسيات، اللواتي لم يجدن مضاضة في بعض ماكياج خفيف بالحرم النبوي، كل ذلك يُغرِّب الزائر مهما كان تطلعه إلى الزيارة.
.
أنت… انثروبولوجيا نفسك!
عندما توجد في المكان المقدس، تصبح انثروبولوجي نفسك، هو ذا التفكير في الطقوس التي تسعى إليها بقناعة مع الاحتفاظ بعين خارجك…، عين تراقب، وقد اخترقت عوالم تركها في البصر كل ما قرأته وعشته: تمر بالشعراء هنا وهناك كما تمر بالباحثين، وأنت تحمل كتاب فيلسوف فرنسي إلى غرفتك لتقرأ صفحات عن جسد المسيح..
تكاد بلاد السعودية تذوب لتحل بلاد الحرمين، لا خارطة سياسية في الدماغ، بالرغم من الضغط الذي تمارسه عليك المحاضر اليومية للسياسة. بالرغم من حرائق الراهن وقرارات العواصم هنا وهناك..…
اضمحلت الخارطة وارتسمت جغرافيا الله، شيء ما لم يعد يربطني بالراهن، مكانيا وزمانيا..
هناك حالة ذهنية تعوض الوجود المادي في العالم!
الأرض تقيم في الزمن،
ما بين فجر وعشاء
والزمان يقيم في المكان
بين الروضة والمحراب، هنا تسير وأنت تودع المسجد، نحو توديع الرسول، وترسل إليه سلاما يخترقك، قادما من طفولتك ومن أعماقك
عبر كل العقود التي عشتها..
ههنا في إقامة شاعرية تكاد تكون بلاغة عن قوة الغيب..
****
الجو الدافئ، إن لم نقل الحار حرارة طرية، يدفع إلى التجول بين جهات المسجد النبوي..
غافلنا سؤال صاعد من الترسبات المهنية: أين يا ترى وقعت حالة التفجير الإرهابية التي وقعت في رمضان السنة الماضية؟
ما زلت أذكر أنني وقتها كتبت :متى يفجرون المسجد النبوي؟
وحدث ذلك، وبدا لي كما لو أن استرجاع هذا الحدث، فيه نوع من الامتحان الغيبي لمقال صحافي..!
أذكر أن السعودية شهدت عدة عمليات انتحارية في يوم 29 رمضان، وبالضبط 4 يوليوز 2016، أهمها عملية تفجير المدينة المنورة وقت أذان صلاة المغرب في موقف سيارات تابع لمركز قوات الطوارئ بجوار الحرم النبوي.
قال شهود عيان إن شخصا دخل إلى الموقف التابع لقوات الطوارئ مجاور للحرم النبوي الشريف وأظهر لهم رغبته في الإفطار معهم ومن ثم قام بتفجير حزامه الناسف….
وليس في الاستدراج الإرهابي أية غرابة. فالسماط هنا يمد كل لحظة، وقد شهدنا ساعات المغرب، موائد طويلة على طول المسجد العامر منصوبة للسياح والمصلين.. وخلف التفجير مقتل 4 من قوات الطوارئ منهم 3 قتلوا في الموقع نفسه، والحالة الرابعة توفيت بالمستشفى. بالإضافة إلى الانتحاري وإصابة 8 آخرين بجروح مابين خطيرة وبسيطة ولم تحدث أي إصابات للمدنيين في حصيلة أولية.
حينها، قوات الأمن «منعت المصلين من مغادرة المسجد النبوي لفترة محدودة حتى تأكدت من خلو المنطقة من المتفجرات..»..
أنظر مجددا إلى شساعة المكان، وأبواب المسجد المترعة بالتاريخ وبالناس، وكم لزم الموقف من ضبط النفس من لدن المصلين……
شعوب من كل فج عميق
في باحاته الصقيلة
بين الأخضر والذهبي، حفاة ومعتمرون، نساء من كل السحنات، أغلبها أسيوي …
سرعان ما تترك الذاكرة المهنية مكانها للدهشة: من هذا الرجل، أنا القادم بكل طبقات الانتروبولوجيا ، وعهود، ينبثق طفل صغير من أعماقي ليجد نظرتي إلى مكان مقدس عند ملايير المسلمين، منذ خرج نبي فقير من غار ما في بيداء الحجاز ليؤذن في الناس بالتوحيد.
أنا الآن في أول مسجد بناه الرسول بالمدينة …من بين أبوابه ومداخله التي يقترب عددها 100مدخل، هناك اهتمام بواحد منها، كان في طريق مجيئنا من الفندق، وحوله تدافع خاص: باب السلام! وله الحظ الأوفر، لأنه أقصر الطرق إلى الروضة الشريفة!
إلى قبر الرسول ، عليه الصلاة والسلام، وطريق الناس كلهم إلى روضة من رياض الجنة..
هذا الاكتشاف يهز الزائر، وهو يدخل في زحام رفيع، يتجاوز المتصور..
أعراق من كل جهات العالم، وبكل اللغات وبكل الألوان والملابس، بابل كبيرة لا تتكرر فوق الأرض حول مزار ديني، يقدسه أتباعه..
من هنا يمر الفقراء من بلاد البنجاب
والأمراء والملوك،
الكل حفاة عراة..
الأبواب، عيون المكان على أعماقنا، وفي حالة الأبواب الدينية، تكون هي شرفة الغيب على أرواح العصر الحائر وكوة الزائر على الغيب..
وهنا أيضا يلمس المقدس نفسه بالذهب، ويوشح روح الناظر بزخرف دنيوي، لكي يطبع يومه…، والأبواب أيضا تجربة اليدين في رسم السماوي، على تجاويف الخشب والمرمر، واستنطاق الجبص، بأنامل تحترف التسبيح وخروج الدنيوي من المادة إلى هوة المغيب في اليومي الزاحف..
****
سنعلم من بعد أن وفودا كثيرة، من شرق آسيا تحديدا، تكتفي بتذكرة السفر ثم الوصول إلى الحرم حيث تظل ترابض ليل نهار ..بباحة المسجد.
ولفت الحضور الكثيف للناس، ليلة الخميس، كل أعضاء الوفد، الذين كانوا يتبادلون الانطباع كلما التقوا بالفندق أوفي الحرم.
الجو منعش للغاية، والأغلبية اكتفت بالزي المغربي، كما لو كان إشارة تلتقطها الأنفس، من بعيد.
من أحسن اللحظات، كان لقاء مع باحث سعودي شاب، حدثنا قرابة الساعة عن المسجد النبوي، وعن التوسعات التي طالته، كل توسعة كانت تهم مرحلة من تاريخ المسلمين، تماما كما هي الأسماء التي أطلقت على الأبواب التي تخلد أسماء رجال ونساء التاريخ الإسلامي..
محمد بخش، الباحث، قال إنه لو استسلم لكل التوقيت الذي يستوجبه المقام، لما كفته ست ساعات.
مرافقون قالوا، الساعات الست داخل القاعة أما خارجها سيتطلب العرض، ماديا ودراسيا، ثلاثة أيام لضرورة الانتقال إلى عين المكان ومتابعته عينيا..
الباحث في تاريخ المدينة المنورة محمد بخش يكشف لضيوف الملك سلمان مراحل تشييد وعمارة الحرم النبوي
كما تناول أبرز مراحل تشييد وعمارة وتوسعات الحرم النبوي منذ عهد الرسول الكريم، حتى العهد السعودي الراهن.
كانت مصاحبة نفسيه أكثر منها عمرانية، حقا:كما لو أنه يطلع الفؤاد على أصابع الحاكم وهي تشير إلى توسيع رقعة الحرم، ومواقع الغيب فيها!
عدد المحارب ومؤسس
كل واحد منها.. الأسطوانات والسيرة الهندسية لكل أسطوانة منها
بيوت نساء الرسول
ما بقي منها وما غادر..
محمد بخش أس هب، قدر الزمان، في الحديث عن التوسعات السعودية في المسجد النبوي الشريف، وكيف أنها «حافظت على المعالم الأثرية والتاريخية في المسجد النبوي الشريف، والحُقب التي تعاقبت على التاريخ الإسلامي للحرم».
وكان من الأشياء التي أثارت الانتباه إليها ووجدت همهمات وسط الحضور إشارته إلى أن كل »الصور التي تنشر عن قبر النبي لا صحة لها«، وأنها مجرد توهيمات فوتوغرافية لأنه لا أحد رأى قبر النبي من الداخل منذ قرون!
كان لي أن أعبر عن رغبة دفينة: ليتهم تركوا البيوت كما كانت..
وتركوا البنايات كما كانت في أصلها، و وإن زادت التوسعة، لكي يرى العالم بساطة النبي وأصحابه الأولى…
وقربهم من الأرض أكثر من قربهم من العمران الباهر..
كذلك قال الباحث أيضا..
ابتسمت..
ومما رواه الباحث محمد بخش قصة محاولة سرقة جثمان الرسول الكريم..
مغاربة يحاولون سرقة
جثمان الرسول
قال الباحث : تعرّض قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مُحاولات نبش، وأشهرها ما كان في زمن نور الدين وصلاح الدين .
قال عبد الملك بن حسين الشافعي :
وفي سنة سبع وخمسين وخمسمائة جَرَت الكائنة الغريبة وهي ما ذكره العلامة السيد نور الدين على السمهودي المدني في كتابه » خلاصة الوفا » وغيره، فقال : إن الملك العادل نور الدين رأى النبي في نومه ليلة ثلاث مرات وهو يشير إلى رجلين أشقرين يقول: أنجدني من هذين، فأرسل إلى وزيره وتجهّزا في بيته ليلتهما على رواحل خفيفة في عشرين نفرًا، وصحب مَالاً كثيرا ، فَقَدِم المدينة في ستة عشر يوما فَزَار، ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم، وصار يتأمل في كل ذلك تلك الصفة إلى أن انقضت الناس، فقال : هل بقي أحد ؟ قالوا : لم يبق سوى رجلين صالحين عفيفين مغربيين يُكْثِرَان الصدقة، فطلبهما، فرآهما الرجلين اللذين أشار إليهما عليه الصلاة والسلام، فسأل عن مَنْزِلهما فأخبر أنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة، فأمسكهما ومضى إلى مَنْزِلهما فلم ير غير ختمتين وكُتبا في الرقائق ومالاً كثيرا، فأثنى عليهما أهل المدينة خيرا، فبقي مترددا متحيرا، فرفع حصيرا في البيت فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صوب الحجرة، فارتاعت الناس لذلك، فقال لهما السلطان : أصدقاني، وضربهما ضربا شديدا، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زِيّ حجاج مغاربة، وأمالوهما بالمال العظيم ليتحيّلا في الوصول إلى الجناب الشريف ونقله وما يترتب عليه، فَنَزَلا قرب رباط وصارا يحفران ليلا، ولكل منهما محفظة جلد، والذي يجتمع من التراب يخرجانه في محفظتيهما إلى البقيع إذا خرجا بِعِلّة الزيارة، فلما قرب من الحجرة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجف عظيم، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة فلما ظهر حالهما بكى السلطان بكاء شديدا، وأمر بضرب رقابهما، فَقُتِلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة المسمى الآن شباك الجمال، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذاب ذلك الرصاص وملأ الخندق، فصار حول الحجرة سور من رصاص إلى الماء .
*****
وقد سردها بعجالة، فسرناها أولا بكون الزمن يضيق، لكن عند الاطلاع عليها كليا وجدنا حرجا غير معلن، من كون أناس ينتسبون إلى المغرب هم من حاولوا الفعل الشنيع، وما كان يحسن بالمضيف أن يذكر على مسامع أبناء المغرب حكاية من هذا القبيل……
في ذلك اليوم، 16 دجنبر، مساء يوم الجمعة الكريمة، كان لنا موعد آخر، ومفاجأة سرت كل الوفود: زيارة منظمة إلى الروضة الشريفة..
قلنا:هذا درس نظري، ليت الزيارة تسعفنا في درس تطبيقي ونرى القبر والروضة الشريفة والمحيط الصحابي رأي العين..
وكذلك كان!