أندريه كونت سبونفيل: «حُبٌّ يفشل أفضل من كراهية تنجح»

كل حياة
هي عبارة عن إخفاق. حب الحياة، حتى بإخفاقاتها، أصبح يُغنينا عن التساؤل حول نجاحها من عدمه!

 

– تُرَدَّدُ دائما أن الموت لم يعد يُخيفك. ألا يُمَثِّل هذا بالذات موقفَ حكيم مُسِن؟
– لستُ مُتَلهفا للموت، ولا مرعوبا من فكرة أن هذا ما سيحصل في نهاية المطاف. تُعجبني مقولة فولتير:»نُحِبُّ الحياة، لكن ذلك لا يُفقد العدم فوائده». بوصفي مَاديا، فأنا مُقتنع بغياب أي شيء آخر بعد الموت باستثناء العدم. بما أن الموت لا شيء، فلا يُوجد إذن ما نخشاه.
إنه فِكْرُ أبيقور «الموت لا شيء، لا بالنسبة للأحياء (بما أنهم أحياء)، ولا بالنسبة للأموات (بما أنهم لم يعودوا موجودين).». من الناحية الفكرية، معه حق تماما. الخوف من لا شيء أمر غبي. لكنه أيضا تعريفٌ للقلق. لن أقسِمَ لك بأني لن أكون قلقا على فراش موتي. هذا طبيعي للغاية. لكن، لا ينبغي للمرء أن يمضي حياته مُستغرقا في استيهامات حول ما سيفعله على فراش موته!
لا قلق يُراودني اليوم عندما أفكر في وفاتي. أنا أكثر خوفا من الشيخوخة الكبيرة، من الإعاقة، من التدهور. أُفضِّلُ الموت بصحة جيدة على النجاة من نفسي لأُصبح خَرِفا أو عاجزا. لقد خَالَطْتُ أحيانا دور رعاية المُسنين لأسباب عائلية: فكرة العيش داخلها تُرعبني أكثر بكثير من فكرة الموت. إن قانون نهاية الحياة، لن يكون مُرْضِياً ما لم يتضمن حق الموت، إذا رغب المرء في ذلك، عند تشخيص إصابته بالزهايمر مثلا.

– لِمَ تُعرف نفسك كَـ»مُلحد غير دوغمائي ومُخلص»؟
– مُلحد لأني لا أؤمن بأي إله. غير دوغمائي، لأنِّي أعترف بإمكانية أن أكون على خطأ – إلحادي ليس عِلما، وإنما رأي وقناعة. ومُخلص، لأني أظل مُرتبطا بالقيم الأخلاقية والروحية التي نَشَأَت داخل الديانات الكبرى، وخاصة، بحكم تاريخي، داخل التقليد اليهودي-المسيحي.
في شبابي، بعد ماي 68، كان يُنظر بسوء إلى الأخلاق اليهودية-المسيحية: فقد كان يُعاب عليها كونها مُشْعِرَةٌ بالذنب، وحتى إخصائية. مع أن الأناجيل لا تقول شيئا تقريبا حول الجنسانية. لكن، عندما أنجَبْتُ أطفالا، فَهِمْتُ سريعا أنّ من واجبي أن أنقل إليهم قيما، تلتقي في جوهرها مع تلك التي تلقيتها.أتولى القيام بذلك بهدوء. الطريقة الوحيدة للتعبير عن وفائنا لما تلقيناه، هي نقله بالطبع.

– هل أنت قلق حُيال تصاعد الدينية؟
– الإلحاد يتقدم أيضا! رغم بقائه أقلية، لم يسبق أن تَوَاجَدَ هذا القدر من الملحدين، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة أو شمال إفريقيا. ما نحن بصدده، ليس هو تصاعد الدينية، بقدر ما هو تصاعد تمظهراتها الأكثر إبهارا، وحتى الأكثر عُنفا في حالة الإسلاموية. إنه خطر حقيقي.
إذا كانت «الإسلاموفوبيا» تعني، ليس الخوف من المسلمين، الذي هو أمر ممقوت، وإنما الخوف من الإسلام، فأنا أعاني من الإسلاموفوبيا إذن. الأمر الذي لا يمنعني من الخوف من المتطرفين الإنجيليين في أمريكا، أو الهندوسيين في الهند. في الحقيقة، أنا أحترس من جميع الديانات، دون أن أحتقر المؤمنين.
غني عن القول إن المُسلمين يملكون نفس حقوق ونفس كرامة المسيحيين، أو اليهود، أو المُلحدين. لكن لابد، في نظري، من الاعتراف بالخطورة المُرتفعة التي يمثلها الإسلام المتطرف في بلداننا، ما يجعله أكثر مدعاة للخشية. اُنظر إلى ما يقع في أفغانستان، وفي إيران، وفي تركيا، تَذَكَّر الباتاكلان، والمتجر اليهودي، وشارلي إيبدو…
لقد حَارَبَ فولتير ضد محاكم التفتيش الكاثوليكية. نحن نفعل الشيء نفسه ضد الإسلاموية. غير أنه يتعذر مُحاربة الإسلاموية بنجاعة في ظل منع كل نقد للإسلام. فولتير، وهو يُحارب ضد محاكم التفتيش، لم يكن خائفا من مُهاجمة المسيحية أيضا!

– ما الروحانية؟
– إنها حياة الروح، تحديدا في علاقتها باللانهائي، بالأبدية، بالمُطلق. لا يملك الملحدون روحا أقل من الآخرين حسب علمي!فَلِمَ سيمتلكون روحانية أقل؟ إذا نظرتَ إلى السماء، في ليلة صافية، فستكون في قلب اللانهائي، وهذا يجعلك تشعر بشيء ما، سواء كُنتَ مؤمنا أم لا. هذا الإحساس يهمني، مثل المُتَصَوِّفَة أو التأمل.
لا يصدمني إطلاقا أن يُصلِّيَ الشباب أو يتأملوا. الروحانية جزء من الشرط البشري. فليس لأنَّني مُلحد، سَأَبْتِرُ روحي. الحرمان من الروحانية، يا له من حُزن!
لِمَ أنا مُلحد؟ لعدة أسباب، لكن بالأخص لأن الإيمان بالله، كما يُبين فرويد، هو حمل رغباتنا محملا واقعيا. إن المسيحية تعدنا بتلبية أعز رغباتنا:1. عدم الموت، أو البعث؛2. اللقاء بالأشخاص الأعزاء الذين فقدناهم؛ 3. الحصول على الحب.
ماذا يُمكن للمرء أن يطلب أكثر؟ لا شيء، طبعا! لكن هنا تحديدا حيث يجب التساؤل: إن في إيمان يُناسب رغباتنا الأقوى إلى هذا الحد، ما يدعو إلى الاشتباه في كونه اخْتُلِقَ من أجل تلبية هذه الرغبات.

– سنة 1990، غادرتَ الجامعة من أجل إجراء ندوات، تحديدا في المقاولات. هل هو مكان مناسب لفيلسوف؟
– لقد خَلَقْتَ مهنة! [يضحك.] أنا واحد من أولئك الذين أدخلوا الفلسفة إلى المقاولة. نجاح كتابي، «رسالة صغيرة في الفضائل الكبيرة» (300 ألف نسخة من الحجم الكبير)، سنة 1995، سمح لي بعدم الحاجة إلى التدريس لعدة سنوات. لم يكن طموحي هو التدريس وتصحيح أوراق امتحانات، وإنما الكتابة. وبالتالي فقد غادرتُ السوربون.
بضع سنوات قبل ذلك، هاتفني جان لويس سيرفان شريبير، رئيس مجلة «ليكسبونسيون». لقد كان يرغب في دعوتي إلى مُنتدى لجريدته في مدينة زالتزبورغ، بالنمسا، بحضور كل شركات الكاك 40. رَفَضْتُ. عندئذ قدَّم لي جان لويس عرضا لم أكن في وضع يسمح بعدم قبوله.
في زالتزبورغ، قَدَّمتُ ندوتي أمام رايمون بار، وميشال روكار، والعديد من كبار الرؤساء. فاتفقَ أن قولي خَضَّهُم وأثار اهتمامهم في نفس الوقت. بعدها جعلت «ليكسبونسيون» نصي على صفحتها الأولى، تحت عنوان «هل الرأسمالية أخلاقية؟».
لقد قُذِفَ بي في ذلك العالم، الذي لم يكن عالمي. منذ ذلك الوقت تضاعفت العروض. في أحد الأيام، شرحتُ لجان لويس ضرورة أن أتعلم قول لا للطلبات الكثيرة جدا. وقد أجابني بالقول: «ليس لا هي ما ينبغي تعلم قوله، وإنما «كم»..». شَكَّلَ ذلك صدمة، وحتى فاحشة بالنسبة لي، أنا القادم من السوربون! غير أنِّي تعلمتُ، شيئا فشيئا، إقامة علاقة خالية من الذنب مع المال.منذ ثلاثين سنة وأنا أعيش من قلمي وندواتي: بعيدا عن الشعور بالعار، أَحِسُّ بالفخر!
كم عدد المُدرسين أو الباحثين الذين غادروا الجامعة أو فرنسا حتى يدفعَ لهم بشكل مُناسب ؟ هل هذا من مصلحة الدولة؟ هل هذا من مصلحة الطالب؟ المثقفون مثل الجميع: لا يحركهم فقط حب الحقيقة أو أقاربهم، ولا هم غير مُكثرتين بمصلحتهم الخاصة.
يجب على الجامعة الفرنسية أن تفهم ذلك في نهاية المطاف. الشبان الذين يستوقفونني في الشارع، يتحدثون إليَّ عن ندواتي، التي شاهدوها على يوتوب أو تيكتوك، والفائدة التي يجدونها فيها. هذا يُشعرني بالتأثر والفرح.
فلاسفة شُبان، اليوم، يتبعون نفس الطريق. هذا جيد. عالم المُقاولة في حاجة إلى الفلاسفة، والفلاسفة في حاجة إلى التصالح مع عالم المُقاولة. كثيرون، لا يعرفون عنه سوى القليل، يتحدثون عنه بسوء. فكريا، هذا غير كافٍ: لمَ انتقاد ما نجهله؟ أنا، كُلما زادت معرفتي بهذا العالم، زاد اهتمامي به. إن رئيس المقاولة شخص لا يملك مذاهب، بل مشاكل فقط. هذا أفضل من بعض الجامعيين الذين لا يملكون سوى مذاهب.

– هل تفهم أن الكثير من الفرنسيين يُعارضون تأخير سن التقاعد، رغم أن أمل الحياة اليوم يقترب من ثمانين سنة للرجال وخمسة وثمانين سنة للنساء؟
– خلال نقاش مع مغني راب شاب مُهْتَمٍ بكُتبي، سألته عن حاله. فأجابني: «ليس جيدا، مع إصلاح التقاعد هذا.» رَدَدْتُ عليه قائلا: «تبا، إنك في عمر الأربعة والعشرين، تُوجد أشياء أهم من سن التقاعد، الذي سيتغير على أية حال ثلاث أو أربع مرات قبل أن تُصبح معنيا به.»
لو أن أحدهم أخبرني وأنا في سن العشرين، أن المشكلة الرئيسية للفرنسية، خمسين عاما بعد ذلك، ستكون هي سن التقاعد، لكان هذا الأمر قد آلمني. هذا في الوقت الذي ربحنا فيه عشرين سنة من أمل الحياة منذ 1946! وفي ظل كَوْن المناخ والتنوع البيولوجي يشكلان مشاكل أشد خطورة!
إن إصلاح ماكرون الثاني كان سيئ الارتجال دون شك، وأقل أهمية من الأول. غير أن هناك مُشكل تمويل طبعا: فرنسا لا يُمكنها صرف، إلى ما لا نهاية، أموالا أكثر مما تنتجه من ثروات. إذا كانت حصيلة ماكرون إيجابية في ما يخص البطالة والاستثمارات الأجنبية، فلا يُمكن قول نفس الشيء عن الدين العام.
سنة 2020، خلال الحجر، صَدمتُ الناس بتساؤلي حول الجنون المبالغ فيه الذي أثارته هذه الأزمة، وبقلقي بشأن الكلفة الاقتصادية للحجر، وبالتالي التفاقم المُرتقب للدَّين. لقد تعرضت للوم بسبب هذا القول، يمينا ويسارا: فقد كان في حُكم الفضيحة الحديثة عن المال بالنسبة للصحة. أتحمل مسؤولية قولي! فليس بتخريب البلد سنُنْقِذُ مستشفياتنا.

– ما معنى حياة ناجحة؟
– على عكس صديقي لوك فيري، لا أعتقد أن هذا هو السؤال المناسب. في الواقع، كل حياة هي عبارة عن إخفاق. هذا ما يقوله سارتر: «تاريخ أي حياة، هو تاريخ فشل.» لكن حسنا، لا مانع لدي في الإجابة. حياة ناجحة، أو أقل إخفاقا من الأخريات، هي حياة لا نعيد فيها طرح هذا السؤال: لأن حب الحياة، حتى بإخفاقاتها، أصبح يُغنينا عن التساؤل حول نجاحها من عدمه!
لا يتعلق الأمر بحياة ناجحة، بقدر ما يتعلق بحياة نكون فيها قادرين على القليل من الشجاعة، والقليل من الذكاء، وإذا أمكن الكثير من الحب. إن حُبا يفشل أفضل من كراهية تنجح.

– كيف تنوي شَغْلَ ما تبقى من حياتك؟
– بالعيش! لقد عَنَتِ الموسيقى والكتب الشيء الكثير بالنسبة لي. غَير أن اقتراب الموت يدفعني، بشكل غريب، نحو التقليل من سماع الموسيقى، حتى موسيقى باخ، أو موزار، أو شوبرت الذي أُبجِّلُه، ونحو التقليل من القراءة.
إذا قيل لَكَ إنك ستموت غدا، فلن تنطلق في قراءة «بحثا عن الزمن المفقود». قراءة رائعة مُماثلة، كما فَعَلْتُ في العشرين من عمري، أمر يستحق المعاناة: فمعناه الإعداد للمستقبل، خاصة إذا كُنَّا نُريد الكتابة. مع اقتراب سِن الثالثة والسبعين، يُصبح ذلك أقل أهمية. أُفَضِّلُ استغلال الحياة رفقة زوجتي على الغوص بشكل عاجل في قراءة روائع لم أقرأها بعد، مثل «الجبل السحري» لطوماس مان.
يوما، قُلت لصديقي الفيلسوف، فرانسيس وولف، الذي في نفس سني: «لقد أنجزنا الأصعب»، فأجابني: «نعم، لكننا قد عِشنا الأفضل أيضا دون شك.». هذا مُحتمل، غير أن الأمر يتعلق، حتى في هذه الحالة، بخِفَّة أكثر من حِمل! لا أحد باستطاعته أن يأخذ منا فترات العمل والسعادة التي عشناها! إنها فكرة مُقلقة أن يُضيع المرء حياته في سن العشرين. لكن، في مثل سني، في أسوأ الحالات، لن يُضيع سوى شيخوخته، الأمر الذي ليس في غاية الخطورة.
ليس فقط الموت ما لا يُرعبني، على الأٌقل في هذه اللحظة، وإنما أكثر من ذلك، أن اقترابه المحتمل أو الممكن يجعلني أتخفف من الكثير من الهموم والمشاريع والطموحات. هذا يُعطيني شعورا بخفة لذيذة أكثر منها غير مُحتملة، مهما كان رأي كونديرا.

بتصرف عن (L›express n° 3837)

 


الكاتب : حاوره إريك شول وطوماسماهلر / ترجمة: يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 14/02/2025