أنساق ثقافية في «رجل اسمه الرغبة» للروائية عائشة البصري

 

لابد لكل رواية رواية أن تنطوي على رهان، أو لنقل على أفكار وأنساق ثقافية، منها ما هو معلن ومنها ما هو مضمر، تعكس فترة فكرية معينة أو تمثل إيديولوجية الكاتب وأفكاره ورؤيته للعالم،في هذه الحالة تكون القصة مجرد وسيلة، لخلق أفكار ومناقشتها. هذه الأفكار أو لنقل المعرفة هي ما يبرر كتابة رواية ما، وسوى ذلك تكون كتابة الرواية عملا غير أخلاقي بتعبير ميلان كونديرا.

التحول

جعلت الكاتبة عائشة البصري الخيانة هي المحرك الأول لتطور أحداث الرواية، لأن خوان بعد أن خانته حبيبته، تغير، بل شكّل له ذلك أي الخيانة ذاتا أخرى، ذات محطَّمة بقدر ما هي محطِّمة، محطِّمة لسردية الأخلاق التي كان يتبناها؛ الوفاء، الحب، التضحية، الإخلاص… لقد جعلت الكاتبة هذا الحدث نقطة انطلاق السرد، سرد يعد بما هو مختلف عن ما بدأت به “انتفضت واستجمعت قواي..غيرت من هيأتي.. خلعت نظارتي الطبية”..
بهذه العبارات أعلن دون جوان تحوله من ذات بريئة إلى أخرى برغماتية وعبثية، من أجل القصاص وجبر الضرر العاطفي وجبر الفحولة التي حطمتها الحبيبة.

أـ أبيقورية دون خوان

وضعتنا الكاتبة عائشة البصري أمام شخصية إشكالية؛معربدة لكن حكيمة، مجنونة وفاقدة للذاكرة، لكن شغوفة بالعلم والمعرفة، هي شخصية تضم تناقضات الإنسان المعاصر، تقول الكاتبة إن “جنون خوان جزء من جنون عالمنا الحالي”. وهذه إشارة إلى أن نسج هذه الشخصية كان بمثابة إدانة لما هو سائد اليوم في عالمنا من خبل وطغيان، ولعل الطابع الأجنبي الذي ميز هذه الشخصية يعني محاكمة عالم دون آخر، وسياسة دون أخرى. هذه الشخصية التي عرضتها الكاتبة إلى تحليل نفسي كشف عن أعطاب اجتماعية وفكرية كثيرة.
وقد مثلت شخصية دون خوان مذهبا فلسفيا هو اللذة، وهو مذهب نظّر له الفيلسوف اليوناني أبيقور، يقوم هذا المذهب على ثنائية الألم واللذة في الحياة، وهي نفسها الثنائية التي حكمت حياة دون جوان فتعرضه للخيانة كانت ضربة موجعة وكانت له درسا دعاه إلى أن الحل هو الإقبال على الملذات المتمثلة في الجنس واللعب بالنساء، هذه العربدة تُصورها الكاتبة بطريقة شرسة. فما يفعله الدون خوان بعشيقاته يشبه الافتراس، بحيث لم ترد إشارة لوصف لحظات ساحرة على السرير باستثناء تلك اللحظة مع المرأة العربية التي كادت أن تعيده إلى عالم الحب الذي خرج منه بسبب ألم الخيانة. إنها مشاهد إيروسية وتدميرية يقتل فيها دون خوان ألم الخيانة.
أثارت الكاتبة في هذه الرواية عدة قضايا اجتماعية وفكرية شائكة، فقد طرحت مسألة القيم هل هي ثابتة أم متغيرة ومتطورة؟ وطرحت مسألة المثلية الجنسية، ونقد الثقافة الجنسية السائدة “قلق الجندر” وطرحت مسألة النسوية. إنها أيضا نسف لمجموعة من المفاهيم كالزواج والشرف بل وصل الأمر إلى سخرية سوداء، فقد ورد على لسان دون خوان وهو يتحدث عن الزواج: “لدي مبادئ، منها احترام مؤسسة الزواج، إلى حد الهروب منها”. فمذهب الدونجوانية لا يقدر الحب إلا في لحظة العلاقة الجنسية فهو تمجيد للغريزة على العقل.

ب ـ المهجر
في الرواية

تذكرنا هذه الرواية بطريقة ما بالروايات المهجرية التي تناولت موضوع الصراع الحضاري، كرواية “الحي اللاتيني” ورواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، لأن فضاء باريس حاضر في الرواية، وهو ما ذكرنا بهذا النوع من الروايات التي بحثت روائيا في علاقة الثقافة المشرقية الإسلامية بالثقافة الغربية، غير أنه في هذه الرواية لم يكن المشرق حاضرا ولم يكن الرجل المسلم حاضرا أيضا، على غير عادة الروايات المشهورة في هذا الموضوع التي كرست نظرة أحادية تجاه الغرب والشرق. فقد كانت المرأة المغربية والرجل الغربي هما الحاضران. تصف الكاتبة عدة فضاءات أجنبية وعدة شخصيات أيضا، فمجريات الرواية دارت في باريس وبرشلونة وبعضها في مدينة هندية. هذه الفضاءات الأجنبية لها دلالات ثقافية منفتحة خصوصا باريس، فالحوار أو التواصل المفتوح الذي كان بين الكاتبة وشخصية دون خوان يدل على تفتح وثقافة تواصلية متقدمة حيث البوح بلا قيود دينية وثقافية.

ج ـ النفس الكلاسيكي في الرواية

لا شك لدينا في أن هذه الرواية تنتمي إلى التيار التجريبي المتجاوز لمبادئ الكتابة الكلاسيكية التي تتجلى في متانة الأسلوب وحفظ القيم الاجتماعية، غير أن توظيف شخصية كلاسيكية من التراث الإسباني، يضفي على الرواية نفسا كلاسيكيا، وليست الكلاسيكية شيئا دونيا، بالعكس فللكلاسيكية سماتها الجمالية وقوتها التأثيرية، فالكاتبة أثارت إشكالية مفارقة؛ كيف لشخصية كلاسيكية العيش بقيم متحولة وعابرة؟ لا ننفي وجود المجون في التفكير الكلاسيكي لكنه كان محكوما بحدود دينية واجتماعية، كان مجونا يصعب تبريره عكس مجون دون جوان في هذه الرواية الذي أصبح مذهبا له مسوغاته الأخلاقية.
شكّل جوّ الفندق وتفاصيله وحتى شخصياته وديكوره التقليدي بالإضافة إلى إسمه ذي الطابع الديني جوا عائليا أثيرا. للفضاءات دلالاتها داخل الرواية ودلالة هذا الفضاء هي التواصل واللقاء المباشر بين الشخصيات خصوصا شخصية الكاتبة وخوان، ونستحضر هنا دلالة لوحة “الجسر الياباني” للفنان الياباني كلود مونييه المعلقة في بهو الفندق فكانت علامة على التواصل، التواصل بين الرجل والمرأة، التواصل بين العقل والجنون، إن استدعاء كتب فلسفية وروايات وانفتاح على معجم العطور، والفن التشكيلي وضع الرواية بين مفترق طرق؛ بين التجريب والواقعية والكلاسيكية، وهذا ما منح للرواية اختلافها.
شكلت واقعة كورونا مرحلة فاصلة في تاريخ البشرية، بحيث أنها ألغت كلاسيكية ما، كانت تطبع العالم قبلها، ونجد أن هناك إشارة لطيفة في الرواية في هذا الشأن. فبعد الرفع النسبي للحجر الصحي سافرت الكاتبة إلى باريس ونزلت بفندق “باب الجنة” المعتاد وقد عرف تحديثا في شكله، فعلقت الكاتبة: “لم يعجبني التغيير الذي لحق بكلاسيكية الغرفة. رائحة كورونا، تغطي المكان”.

خاتمة

لقد شيدت الكاتبة عالما من التعقيد، مبني بطريقة جديدة، عالم ضم الكثير من القضايا الأخلاقية المعاصرة (الخيانة، الاستغلال، المثلية، كورونا..) وهذا جعل الرواية مرتبطة بالواقع، وأسهمت في نقاشات اجتماعية راهنة.
المثير للاهتمام هو إثارة مسألة الخيانة في بداية الرواية ومحاولة تبريرها، لكن ذلك لم ينجح، فقد كانت هذه الخيانة هي أصل كل الشرور التي واجهت خوان أو التي اقترفها هو، فالشرور الطاغية في العالم أصلها الخيانة.

-رجل اسمه الرغبة، عائشة البصري، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة ، ط 1 القاهرة ، 2023 ، ص 19.


الكاتب : عبد الصمد أجواو

  

بتاريخ : 11/06/2025