أنستغرام: سرابُ السَّعادة .. «مجتمع اللاَّتلامُسَ: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل-5-

 

إهداء
إلى مايا، صولال، ونوح :
أَبدًا، لاتَنْسُوا أَنْ تَظَلُّوا
بأعْيُنٍ مُتَطَلِّعةٍ، و أيَادٍ مَمْدُودَةٍ.

مقدمة
لَوْ كانَ بحوزةِ راكِبِي “تَيْتَانِيك” “هواتفُ ذكيةٌ / SMARTPHONES”، كَمْ كانَ سَيَبْلُغ عَدَدُ الَّذين سينْساقُونَ وراءَ إغْرَاءِ الْتِقاطِ سيلفيّ، رُفْقَةَ الأوركستر البُطوليّ، الَّذي ظلَّ يُواصلُ العزفَ حتَّى لحظةِ الغَرَقِ؟
في الوقْتِ الَّذي أصبحَ فيه مَوْقِعُ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، المُحَادَثَاتِيِّ، «تويتر»، أرضيةً للاحتجاجاتِ الاجتماعيَّةِ، والتبادلاتِ المُلْتَهِبَة، و»فايسبوك»، مِنصَةٌ مُتَوَرِّطَةٌ في الفضائحٍ الجيوسيَّاسيَّةَ ، فَإِنَّ «أنستغرام»، يَظْهَرُ كما لو كان مَوْقِعَاً مُرِيحاً لِلتَّدْلِيلِ على السَّعَادَة.
على هذا الرَّابِط، يُقَدِّمُ كُلُّ وَاحِدٍ عَرْضَاً مُوجَزاً عَنّ عُطْلَتِهِ الأخيرةِ، أو صورةً تقليديَّةً (Cliché) عن طَبَقِه اليوميّ. نَعْرِضُ، على هذا المَوْقِعِ، حياةً رفيعةً (Vie magnifiee)، عَبْرَ مَصَافٍ عديدةٍ، تَجْعَلُ المُحيطَ أكثرَ زُرْقَةً، والشَّمْسَ أكثرَ تَوَهُّجاً. لَحْنُ سعادةٍ يَبْعَثُ على الانتشاءِ، بطريقةٍ خَرْسَاءَ وماكرة .
على “أنستغرام”، نَلِجُ منافسةً، دائمةً، مع حُلُمِ حياةِ الآخرينَ، والَّتي هي بالضَّرورة، أجمل.
من الواضحِ أَنَّهُ سَبَقَ لَكُمْ طبعاً، أن أَحْسَسْتُمْ بِقَدْرٍ مِنَ الغَيْرَةِ، عندما صَادَفْتُمْ- وَأَنْتُمْ مُنْغَمِسُونَ في كآبةِ اليوميِّ – صورةً رائعةً نَشَرَها صديقٌ أو صديقة. أيضاً، سَبَقَ لَكُمْ أَنْ غُصْتُمْ في سَيْلٍ مِنَ الصُوَر.»قَدَمَاكَ في الماءِ»، ما إِنْ يَطُلَّ فَصْلُ الصَّيْفِ برأْسهِ. رُبَّمَا تَكُون قَدْ قَرَّرْتَ حَتَّى وجْهَةَ عُطْلَتِكَ المُقْبِلَة، بِإِيعَازٍ مِنْ صورةٍ على «أنستغرام»، صورةٌ تُسَارِعُ إلى إِعَادَةِ إنتاجِهَا، عِنْدَ حلولِ مَوْعِدِ فَتْرَةِ الإجازة. ثَمَّةَ حسابٌ ساخرٌ على «أنستغرام»، إِنَّهُ تطبيق «insta Repeat”، يَسْخَرُ مِنْ حِسِّنَا الاجتماعيِّ، عَبْرَ تَجْمِيعِ كُلِّ هذه الصُوَر المتشابهةُ داخلَ تَوْلِيفَةٍ هائلةٍ، كَمَا لو أَنَّ «أنستغرام» فَرَضَ رؤيةً كونيَّةً للجمالِ. تَنْمِيطٌ يَدْفَعُ أيضاً؟، وبامتيازٍ، الفئاتَ الهَشَّةَ، إلى المَزِيدِ مِنَ الهامِشِ.
دون مُوَارَبَةٍ، تؤَّكِدُ الدِّرَاسَةُ الَّتي أَنْجَزَتْهَا الجمعيَّةُ المَلكيَّةُ البريطانيَّةُ لِلصِّحَةِ العَامَّة، (la Royal Society Of Public Health)، سنةَ 2017، أَنَّ «أنستغرام» «أَسْوَأُ مِنَصَّةِ وَسائطٍ اجتماعيةٍ، مِنْ حيثُ تَأْثيرِهَا على الصِّحَةِ العَقْليَّةِ للشَّبَاب، الَّذي تَتَرَاوَحُ أَعْمَارُهُ ما بين 14 و 24 سنة”. لَقَدْ أَوْضَحَتْ مؤسسةُ استطلاعِ الرَّأْي الأمريكيَّة، (Pew Research)، كيفَ أَنَّ 37% من المراهقين، يَخْشَوْنَ نَشْرَ محتوىً قَدْ يَحْصُدُ عدداً أَقَلَّ مِنَ الَّلايكات»، أَوِ التَّعْليقاَت، بالقيَّاسِ إلى الآخرينَ. هكذا بَاتَتِ «الَّلايكات»، وبامتيازٍ، مُؤَشِّراً على الشَّعبيَّةِ، وبالتَّالي على سُلْطَةِ الإِغْرَاءِ ، نَحْـنُ خاضعونَ، مُنْذُ الطُّفُولَةِ المُبَكِّرَة، لِنِظَامٍ يُقَرِّرُ أَنَّ انتعاشَ مَوَاقِعِ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، إِنَّمَا يكون خارجَ حجرةِ الدِّراسةِ، وَإِذَنْ، بَعْدَ مغادَرَتِهَا.
لَقَدْ أَقَامَتْ جمعيَّةُ عِلْمِ النَّفْس الأمريكيَّة تَرَابُطاً بينَ الإِقْبَالِ على مَوَاقِعِ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، وبَيْنَ تنامي حالاتِ الانتحارِ، في صفوفِ الشَّبَاب.
كان يَتَوَجَّبُ على المِنَصَّاتِ أن تَتَفَاعَلَ أمامَ هذه الآفةِ الاجتماعيَّةِ، لاَسِيَّمَا حينما أَعْلَنَ، وبمَرَارَةٍ، «Justin Rosenstein”،  مُبْتَكِرُ زِرِّ “لايك”، أَسَفَهُ إِزَاءَ هذا الابتكارِ. لَقَدْ صَمَّمَ هذه الوظيفةَ مَنْ أَجْلِ «فايسبوك» سنة 2009، ثُمَّ تَبِعَتْهَا في ذلك، مِنْ بَعْدُ، باقي المِنَصَّاتُ الأُخْرَى . اليوم يرغب «Justin” في التَّرَاجُعِ، طالمَا أَنَّ هذا الزِرَّ، يُمْكِنُهُ أَنْ يكون مميتاً، عَبْرَ الإدمان الَّذي يَسْتَتْبِعُهُ.
تشتغلُ “الَّلايكات” على نظامِ “حلقة ردّ فِعْلِ التَّصْدِيقِ الاجتماعيِّ، /»boucle De Retroaction de Validation Sociale”، الَّذي يَدْفَعُ المُسْتَخْدِمَ إلى المزيدِ مِنَ النَّشْرِ وَإِبْدَاءِ الإِعْجَابِ، «اللاَّيك»، إِزَاءَ أولئك الَّذينَ يُبْدُونَ إِعْجَابَهُمْ بِنَا (Nous Likent).
تُشْبِهُ هذه المكافآتِ تعويضاً يُثِيرُ جرعةً مِنَ اللَّذَّةِ المُخَدِّرَةِ/ «Dopamine” يَتَلَقَّاهَا الدِّمَاغُ، وبِقَدْرِ عَدَدِ “اللَّايكات” الَّتي نَحْصُلُ عليها، بِقَدْرِ ما يَتَوَلَّدُ لدينا الانْطِبَاع بِأَنَّنَا مُحَاطُونَ بِالحُبِّ. هذه «الجيم» ، «J’aime”، تَزْرَعُ الفِتْنَةَ، وَتَغْدُو مُرْهِقَةً بِالنِّسْبَةِ إلى عَازِفِيّ لَحْنِ السَّعَادَة.
شَرَعَ “أنستغرام” خلال سنة 2019، في إِخفاءِ “اللاَّيكات” أَسْفَلَ المنشوراتِ، غَيْرَ أَنَّهَا سَتَظَلُّ مَرْئِيَّةً بِالنِّسْبَةِ إلى المُسْتَخْدِمِ. دَخَلَتِ الاختبارَ سَبْعُ دُوَّلٍ : كندا، استراليا، إيطاليا، ايرلندا، اليابان، البرازيل، نيوزيلندا. إِجْرَاءً لَمْ يَأْتِ إِلاَّ بَعْدَ فَوَاتِ الأَوانِ ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ كان مليار زبون، قد رَكِبُوا القطارَ فِعْلًا، كان الضَّرَرُ قَدْ تَحَقَّقَ فِعْلِيًّا.
يَتَصَرَّفُ “أنستغرام” كتاجرِ مُخَدِّرَاتٍ، يُؤَدِّي الغَرَامَةَ فيما يُواصِلُ أَنْشَطَتَهُ. “اللَّايك”، هذا الإبهامُ الَّذي يَسْتَدِيرُ وَيُدِينُ، يُشْبِهُ إِذَنْ، سِيرْكاً إعلامياً كبيراً، يَسْتَهْدِفُ طَمْأَنَةَ الرَّأْيَ العَامّ، وبِقَدْرِ ما يَبْقَى “أنستغرام” مَالِكاً لهذه المُعْطَيَاتِ الثَّمينَةِ، بِقَدْرِ ما يَصُدُّ كذلك، منافسةَ وِكَالاَتِ التَّسْوِيقِ، الَّتي تَسْتَفِيدُ مِنْ مَنْظُورِيَةِ هذه القِيَم الميترية، من أجل تَصَيُّدِ “المُؤَثِّرِينَ”/”Les influenceurs”.
كَمَا أَوْضَحَ ذلك «Chamath Palihapitiya”، المُسَيِّرُ السَّابِقُ “لفاسيبوك”، أثناءَ المحاضرة المُذْهِلَة الَّتي قَدَّمَهَا سنة 2017، في كُلِّيَةِ الدِّرَاسَاتِ العُلْيَا للأعمالِ التِّجَارِيَّةِ بستانفورد، : “كُنَّا نُدْرِكُ في أعماقِنا، أَنَّ شيئاً سَيِّئًا يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ، بإنشاءِ “فايسبوك”، أعتقد أَنَّنَا أَنْشَأْنَا أَدَوَات تَمَزُّقِ النَّسِيجِ الاجتماعيّ”.
حتى وإِنْ كانت تصريحاتهُ، قَدْ وَاجَهَتْ ما أَثَارَتْهُ مِن احْتِجَاجَاتٍ، فَإِنَّ “Chamath” تَرَاجَعَ إلى حَدٍّ مَا، عن أَقوالهِ المِؤَكِّدَةَ، أَنَّ استخدامَ مَوَاقِعَ التَّواصُلَ الاجتماعيِّ، إِنَّمَا يُسْهِمُ بآثَارِه ِالسَّيْئَة، في تأسيسِ مُجْتَمَعِ اللَّاتلامس.


الكاتب : محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 01/09/2023