يعتبر أنطونيو نيغري الملقب بـ (طوني) من أكبر الفلاسفة الماركسيين الذين جددوا الماركسية. اشتغاله النظري هنا يضاهي، إلى حد ما، ما قام به غرامشي، وألتوسير وإتيان باليبار ونيكوس بولاتتراس وغيرهم، كان أيضا مناضلا شيوعيا، ووجها ثقافيا مشهورا ومثيرا للكثير من الجدل إبان الصراعات والاحتجاجات الاجتماعية في إيطاليا التي عرفتها الستينات والسبعينات. ارتبط اسمه بسنوات الرصاص في إيطاليا التي عرفت العديد من أشكال العنف كالتفجيرات والاغتيالات، أي الكفاح المسلح الذي تمت مواجهته بقمع رهيب، ارتبط اسمه أيضا بالنجاح العالمي والانتشار الباهر لكتابين ألفهما مع عالم السياسة والناقد الأمريكي مايكل هاردت وهما (الأمبراطورية/2000) و(الحشد/2004)، كان لهما التأثير الكبير على جيل بأكمله ما بعد انهيار جدار برلين، الجيل الذي لم يتخل أبدا عن الأشكال الراديكالية للتحرر. ولد أنطونيو نيغري في بادوفا بتاريخ 1 أغشت 1933، في إيطاليا الفاشية التي حكمها بينيتو موسوليني في أسرة بسيطة من فينسيا، كان أبوه عاملا من مدينة بولونيا وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي إبان مؤتمر ليفورنو (1921)، مات سنة 1936 بعد ملاحقته من طرف الفاشيين، أما أمه فقد كانت معلمة ربت أبناءها الثلاثة وحدها بعد موته. انخرط نيغري أولا في فرع الحزب الاشتراكي ببادوفا وسرعان ما ابتعد عنه، ليتبنى الشيوعية بين سنتي 1954 و1955. تعتبر سنة 1956 الرحم الذي منه تخلقت كل انخراطاته ونضالاته السياسية اللاحقة.
إبان انتفاضة بودابست سنة 1957 قطع يسار اليسار كل صلاته بأورثودوكسية الحزب الشيوعي، رغم انفتاحه والدور الذي لعبه الحزب إبان المقاومة، ومع ماركسية مؤسسه أي أنطونيو غرامشي (1891-1937). تــوحدت فــصائل وعناصر هذه الحركة أو التوجه ضمن مجلة (Quaderni rossi) أي (الدفاتر الحمراء)، التي صار أنطونيو نيغري من أهم المساهمين فيها وعضوا في هيئة تحريرها منذ سنة 1961. كانوا كما قال نيغري، مثل «حمير في الصحراء» تبحث عن طريقها وسط الرمال، أو مثل «سوسيولوجيين بأرجل حافية»، هو ورفاقه كانوا يخوضون معارك مسلحين بتحقيقات ودراسات عمالية، وبنقاشات مع البروليتاريين. مارس نيغري ورفاقه النضال في طورينو وميلان ضد النقابات وضد الحرب، وفي البندقية التي كان يسكنها في ذلك الوقت ساعد الشغيلة على بناء منظمتها الخاصة، «البندقية هي في الأوان ذاته ماء البطن الأمومي (ماء المشيمة) وقمة التصنع والفبركة، مدينة شكلها الإنسان ليتمكن الناس من العيش جماعة، ليستطيعوا بناء جماعة، أي عالم مكتمل» كتب متحدثا عن المدينة. بدأ أنطونيو نيغري في سن الخامسة والعشرين سنة 1958 في التدريس في جامعة بادوفا حيث صار أستاذا لفلسفة القانون، ثم للعلوم السياسية سنة 1963. تزوج من باولا ميو التي أنجب منها ولدين ابن وبنت. هكذا زاوج الأستاذ الجامعي الشاب بين الحياتين، الزوجية والنضالية، صار «أنطونيو» داخل السياق الجامعي «وطوني» داخل سياق النضالات العمالية، يتقاسم مع العمال الذين هم في الثلاثين من أعمارهم حياتهم اليومية ويتعلم منهم الكثير ويغني معهم. كانت هذه التجربة كما وصفها لاحقا «ثورة وسحرا بالنسبة لنا نحن القادمون من الجامعات». هناك قناعة راسخة توجه تيار «الحركة العمالية» الإيطالية وهي أن الطبقة العاملة هي التي تغير نمط الإنتاج، لا العكس. إنها هي من يقوم بالتغيير، وقد لاحظ نيغري بأن النزعة الفوردية بدأت تترك مكانها مع ظهور المعلوميات والروبوات للرأسمالية الفكرية أي للعمل اللامادي المميز لهذه العولمة التي سماها لاحقا «امبراطورية». انفجرت انتفاضة مــاي 68 حين كــــان توني نيغري يــــقوم بتنشيط حــــركة «سلطة عمالية « Potero Operaio، وهي جماعة ثورية ذات تأثير كبير خصوصا في البندقية وميلان. لكن «ماي 68 استمر عشر سنوات في إيطاليا» كما لاحظ ذلك. توجه بعض المناضلين للكفاح المسلح وهو نفسه تم اتهامه بارتكابه سبعة عشرة جناية، وأيضا بكونه متورطا في اختطاف واغتيال الرئيس السابق لمجلس الوزراء ورئيس حزب الديموقراطية المسيحية ألدومورو سنة 1978، وهــــي تـهم تــم لاحقا إسقاطها عنه، هــــكذا صـــار «الأستاذ الجـــامعي الشرير» il cattivo maestro الذي ألهم للمتمردين العنف السياسي. أعترف أنطونيو نيغري بأنه اقترب في لحظة ما من المواقف العنيفة داخل اليسار، لكنه اعتبر بأن الانزياحات التي تولدت من محاولات ممارسة العدالة الشعبية من طرف جماعة الألوية الحمراء كانت مرعبة، لأن هؤلاء المناضلين شرعوا الاغتيال كوسيلة للصراع السياسي. تم اعتقاله بتاريخ 7 أفريل 1979 مع أعضاء جماعته وقضى أربع سنوات في السجن، في زنزانة بسجن ريبيبيا بروما، حيث ألف واحدا من أكثر كتبه ارتباطا بمساره الشخصي (1979/Pipe-line) [أنبوب غاز]، تطرق فيه للحظات الحاسمة في مساره، وفق سلسلة رسائل إلى صديق، تماما كخطوط حياة داخل الصحراء، كتب أيضا في سجن ريبيبيا كتابه الأساس على سبينوزا: «الاستثناء المتوحش القوة والسلطة عند سبينوزا»، الصادر في ترجمته الفرنسية عن PUF، (المنشورات الجامعية الفرنسية) سنة 1982، والذي قام جيل دولوز بتوجيه التحية له، عبر وصفه بالكتاب الكبير، وكتابة مقدمته، وقد كان بمثابة إعادة نظر وتنظيم لممارسته السياسية، استعار فيها من سبينوزا مفهوم (حشد» Multitude (قوة الفعل التي جعلت الاستثناء الرائع المتمثل في الجمهورية الهولاندية في القرن السابع عشر ممكن الحدوث» الذي هو أحسن من (البروليتاريا) أو (الشعب) يسمح «بتفكير البنية الذهنية لما بعد الفوردية وما بعد الحداثة».
بالنسبة للدارسين ولفلاسفة آخرين اعتبر نيغري كمنظر وممارس «للتيار العمالي المستقل»operaismo ، الذي حاولت الدولة الإيطالية المريضة بالتداخل والتقاطع بين الجيش والمخابرات الأمريكية، تحويله إلى الدماغ المفكر لإرهاب اليسار المتطرف، وهي التهمة التي انهارت كقصر من ورق، لكنها مع ذلك أرسلته للسجن لقضاء سنوات خلف قضبان الزنزانة. ورغم كل هذه الإكراهات استطاع تدشين فصل فلسفي وسياسي جديد عبر استفزازاته الفكرية ودراساته التي ألهمت الكثيرين، تم انتخاب نيغري نائبا عن الحزب الراديكالي وهو في السجن الاحتياطي، وهو ما سمح له بالخروج من السجن، لكن شهرين بعد انتخابه رفعت عنه الحصانة البرلمانية واضطر إلى اللجوء إلى فرنسا راكبا دراجة نارية ثم في مركب عبر كورسيكا، وبدأ عبور جديد للصحراء بالنسبة له، صاغه في كتابه عن أيوب Job، الوجه الإنجيلي الذي «يجسد طريقة مادية في عيش الألم المطلق» (أيوب، قوة العبد/2002). لكن العمل الذي سيشكل بالنسبة له استعادة لطريق البدء مجددا، كان هو ذاك الذي خص به الشاعر الإيطالي جياكومو ليوباردي (1798-1837). استأنف نيغري البدء، تماما كما نبات الوزال ذو الرائحة النفاذة، الذي يقول عنه ليوباردي في إحدى قصائده بأنه ينبت فوق الحمم البركانية المتحجرة التي اندلقت في زمن ما من بركان فيزوف القاتل. مكث أنطونيو نيغري في فرنسا أربعة عشرة سنة وإبان هذه الفترة ولدت ابنته الثانية. ارتبط بصداقة فلسفية عميقة مع جيل دولوز وعلاقة أخوية مع الطبيب النفسي فليكس غواتاري الذي ألف معه كتاب (فضاءات الحرية الجديدة /1985/ الترجمة الفرنسية) … هنا بالذات سيقع نوع من التحول بالنسبة له، سيترك جانبا البلاغة العمالية التي تبناها في كتاباته سابقا ويصير منظرا بشكل متزايد خصوصا حين مجاورة فكر فوكو، مع الاستمرار في الاشتراك والمساهمة في الحركات الاجتماعية التي بلغت أوجها مع الإضرابات الكبرى في فرنسا لسنة 1995. إبان عقد التسعينات أيضا التقى بالمترجمة والفيلسوفة المختصة في فوكو جوديث ريفل التي تزوجها، صار صاحب «ماركس ما وراء ماركس / 1979» و»السلطة التأسيسية» دراسته في بدائل الحداثة / 1997] أستاذا في المدرسة العليا للأساتذة، وفي جامعة باريس الثامنة والكوليج الدولي للفلسفة، وهي مواقع وفضاءات لسلسلة من اللقاءات قادت إلى تأسيس مجلات، سيعتبرهــــا البعض مرتبطة بـتوجه نيغري الفــكري والسياسي مـــثل مجلة [Futur antérieur] و [Multitudes]. لكنه سيقرر سنة 1997 العودة إلى إيطاليا، حيث سلم نفسه للعدالة ليقضى المدة الحبسية التي حكم عليه بها ويحاول، بهذا وضع نقطة النهاية لسنوات الرصاص. الحركة التي قام بها، أي العودة أراد من خلالها إيجاد حل سياسي بالنسبة لأولئك الذين يقبعون في السجون أو يوجدون في المنفى، لكنه لم ينجح في محاولة تلك. قال أنطونيو نيغري مجيبا عن سؤال للمحللة النفسية الراحلة آن دوفورمانتيل: «هناك جرحان في حياتي، جرح الذهاب وجرح العودة». لم يستعد نيغري حريته بشكل كامل إلا سنة 2003. سنة 2000 نشر كتاب (امبراطورية) وبعدها كتاب «حشد»، وهما معا بيانان شيوعيان كتبهما بالاشتراك مع مايكل هاردت، ألهما معا جيل العولمة البديلة من سياتل (واشنطون) إلى مدينة جنوة الإيطالية، ومن حركة (احتلوا وال ستريت) إلى حركة (الغاضبون) في البويرتادل سول بمدريد. هكذا صار الثوري واقعيا. الامبراطورية ليست الإمبريالية حتى ولو كانت الأمريكية، لكنها حسبه، المجتمع الرأسمالي الحديث والمعولم، (فضاء أملس لا يوجد داخله أي موقع محدد للسلطة) وحيث توجد السلطة في كل مكان وفي اللامكان. تعتبر «الإمبراطورية» من وجهة نظر الفيلسوف السبينوزي، مندرجة في حيز السلطةpodestas ، و»الحشد» نمط وجود للتعددية الإبداعية المقاومة، أي مندرجا في حيز القوةpotestas . أثارت أطروحة الكتابين العديد من النقاشات التي لم تنقطع، لأنها استعادا وأعادا النظر في كـــل جوانب النظرية الماركسية، وحللا الدوكسا الـــتي استكانت لها / لأحزاب الشيوعية طويلا.
بعيدا عن صورة «عميل الأممية الثالثة الحزين والنحيل، الذي يهيمن على روحه عقل الدولة السوفياتية»، كما كتب نيغري، فإن مناضل الحشد المعاصر لا يمثل طبقته، بل يبني، يؤسس ويبدع. الصراعات والمعارك التأويلية التي دارت حول أطروحات الكتابين ازدادت حدة خصوصا حين أعلن توني نيغري سنة 2005 عن مساندته لنص الدستور الأوربي. لقد اعتبر كثوري واقعي بأن هذا الدستور لن يغير كل شيء، لكن سيصير «بإمكان أوروبا أن تضع حدودا ضد الفكر الأحادي للنزعة الاقتصادية الأحادية». يمكن لأوروبا أن تدافع عن حقوق جديدة، مثل حقوق الأقليات و «العمل على القضاء على هذا الخراء المسمى الدولة – الأمة» كما قال لصحفي ليبراسيون بتاريخ 13 ماي 2005. قام جزء من اليسار الراديكالي، النزاع إلى الحمائية أكثر من الفيدرالية، كما بعض الماركسيين التقليديين، بإحداث قطيعة لهذا السبب مع أحد أهم مفكر للعولمة البديلة… لم تمنع هذه القطيعة أنطونيو نيغري بمتابعة اشتغاله مع مايكل هاردت في كتابهما [كومنولت/2014] وAssembly/ غير المترجم إلى الفرنسية 2017]، وملاحقة رغبته في (ابتكار المشترك الجامع بين الناس)، كما عبر عنه كتاب يضم مجموعة من نصوصه وحواراته (2010)، تلك الرغبة التي لم تغادره أبدا تماما كما لم تغادره قوة المحايثة عند بعض الوجوه المسيحية، والتي قادته (أي القوة) إلى رسم خطاطة شكل للشيوعية الفارنسيسكانية (نسبة للقديس فرانسوا). «في فترة ما بعد الحداثة، كما كتب، نجد أنفسنا في نفس وضعية القديس فرانسوا الذي عارض بؤس السلطة بالفرح الوجودي». فرانسوا (الفقير الصغير) الذي لا يقوم بتعذيب نفسه من أجل أرقى درجات الورع، بل ينفتح على المقموعين كما على الأرض والطيور، يعتبر وجها يمكن أن يضيئ طريق أولئك الذي يحولون التمرد إلى «مشروع حب». صاحب توني نيغري، باعتباره مناضلا، منظرا، فيلسوفا وكاتبا، ثورات الأمس والانتفاضات المعاصرة، التي استلهمت من الكثير من أطروحاته ومفاهيمه، وخصوصا مفهوم (المشترك) le commun .قضى نيغري عشر سنوات في السجن وتحت الإقامة الإجبارية، وكفيلسوف فقد استخلص الدرس، الذي قد يمكنه التوجه به للثوريين كما لأولئك الذين ليسوا ثوريين، وهو أننا قد نعيش حياة سيئة ومشوهة إذا لم نستطع تأسيسها …/ كان غرامشي يدعو إلى «تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة»، لكن أنطونيو نيغري من جهته دعا إلى تفاؤل الذكاء، وفي علاقة مع ماركس الذي ظل على مسار فكر وحياة نيغري موجة العمق التي تخترقه وتوجهه، فقد كان قارئا يقظا له، ومكملا لفكره ضمن نوع من التركيب المدهش بين حرفيه النصوص وحرية التأويل.
عنون نيغري أحد كتبه [ماركس ما وراء ماركس / دار نشر كريستيان بورغوا في الترجمة الفرنسية / 1979]، وما يعنيه هذا العنوان هو اقتياد ماركس ما وراء ذاته، لا دحضه، وهذا كان سلفا تجاه التحليلات التي طالت مفهوم «الشكل – دولة» forme-Etat، إبان فترة الانخراط في الحركة العمالية المناضلة. هو أيضا خط الاستقراء العبقري لتحليلات مخطوطات 1848 Grundrisse، وربطها بالمكننة الصناعية General intellect التي اكتست دلالتها كلها في عصر الثورة الرقمية، والرأسمال الذهني والتي تسمح بفهم الالتباس الذي طال تحولات العمل الاجتماعي. هذا هو معنى تلك الثلاثية الفكرية التي كتبها باشتراك مع مايكل هاردت «إمبراطورية /2000» و «حشد / 2004»، ثم [/Commonwealth 2012] و[Assembly/2017] من بعد، والتي عمل فيها، ضد التقليد المألوف لدى النزعة الاشتراكية «العلمية» وإشكالية التحول التي شغلتها طويلا، على بناء أطروحة ذات نبرات فرانسيسكافية»نسبة إلى القديس François d›assise]، ولوكريسية «نسبة للفيلسوف lucrèce] بصدد شيوعية الحب. توجد هذه سلفا، لا في مسام المجتمع الرأسمالي، كما كتب ذلك ماركس وألتوسير بعده، بل في المقاومات الخلاقة للملكية الخاصة، ولحالة الحرب المعممة التي تشنها الرأسمالية المعولمة. تتجسد هذه المقاومات في الانتفاضات والتجارب الدائمة الانبعاث مع أشكال الوجود المشترك الجديدة التي تعمل على تأسيسها … هذا بالذات هو تفاؤل الذكاء المثير الذي التزم به أنطونيو نيغري دائما، والذي نفهم الآن أنه لا علاقة له بوهم معنى مضمون للتاريخ، ولكنه (أي التفاؤل) شارط للتمفصل المنتج بين المعرفة والتخييل، وهما « المصدران الاثنان» الأساسيان لاشتغال السياسة. لقد ترك لنا طوني نيغري اليوم إرثا يتمثل في قوة رغبته ومفاهيمه، دون نسيان ابتسامته الفريدة، التي قد تبدو أحيانا مفترسة وأحيانا أخرى مليئة بالعطف والمشاعر النبيلة.
أنطونيو نيغري: اشتباك الفكر بالحياة
الكاتب : مصطفى الحسناوي
بتاريخ : 13/12/2024