أنوثة مُعَلّبة

لا تزال ملامح عامل الشاحنة عالقة بين عينيّ، تبثّ الرعب في جسدي الغض الطري، لقد تدلّى أنفه وتحلّبت شفتاه حتى كاد أن يلتهمني هو يفتح لي الباب الخلفي للشاحنة ، رفعت جسدي وبصعوبة ألقيت به بين زميلاتي العاملات المتكدسات داخل عربة الشاحنة، خائفة أن يلحق بي ككل مرة ويلتصق بي مُتعلّلا بإحكام إغلاق الباب والإمساك به . أنفاسه اللاهثة تخنق أذنيّ وتجثم على صدري، فقبل دقائق معدودات انفلتتُ وبصعوبة من قبضة لهاث العجوز عمي صالح ؛ صاحب العربة الوحيدة في قريتنا، حملني من الدوار بعد أن أوصلتني أمي إليه كأمانة، ناصحة إيّاه أن يحميني إلى أن أصل الطريق الرئيسية حيث تمرّ شاحنة عاملات معمل السردين،فما أن يكِز العجوز حماره ويبدأ بجر العربة حتى يهتز جسده منتفضا فيتمايل فيلقيه على جنبي، ثم يهوي على الدابة المسكينة بالسّوط كأنه يحاول أن يطفئ نارا مستعرة داخله، أبادره مستجدية ببراءة:
– مابك ياعمي صالح، الحمار المسكين يسير بشكل سليم، توقف عن إحراق جلده بالسوط .
فيتوقف عن السوط وعن حمحمته ثم يشرع في همهمة بكلمات لا أفهم منها غير الاستغفار والاستعاذة من الشيطان الرجيم .
يعود إلى مكانه وقد تكور في جلبابه الرث، فأتأمله مستغربة، متحيرة في أمره، بين تهدئة جسدي الممتلئ من الاهتزاز وهو على هذه العربة المهترئة وبين إيقاف هجوم العجوز المتهالك على الدابة المسكينة، أشيح بوجهي عنه مقززة من منظره وأشد بيدي عمود العربة بقوة متسائلة :
– مستحيل أن تكون نية هذا العجوز، وهو بمقام جدي ، نيّة خبيثة مُبيّتة كنِيّة الميلودي عامل الشاحنة !!؟؟
لحظتها تذكرت طفولتي ومنظر أمي وهي تشدني بقوة بين فخذيها متذمرة، حتى تمشط لي شعري الكثيف المتموج فتضفره ضفيرتين تشد طرفيهما بخيط سميك ،كانت تشكو امتلاء جسدي وبروز أردافي وخاصرتي ونهديّ، وكل مرة تردّد شاكية على مسامع الجدة أمي فطومة :
– آه يا أمي فطومة، شوفي هذا الجسد الممتلئ لن يجلب لنا غير المتاعب نحن في غنى عنها، لسنا إلا مجرد نساء وحيدات .
فتردّ أمي فطومة مؤنبة :
– خلّيها عليك ،( الغالية )ابنتي الغزالة، إنه قدّ متين ورثته عنّا، عن عماتها وأعمامها ، القامة الطويلة والبياض والجسد الممتلئ ، سلالة دُكّاليّة ( منطقة دكالة ) تملأ العين ما شاء الله ، لا أحد يشبهنا .
تجرّ أمي بعصبية ضفيرتي نحو الأسفل فتجرّ رأسي معهما إلى الخلف وهي تمطّ شفتيها متذمرة من حديث جدتي، أضع يديّ على فمي فأكتم ألمي وصرختي ، ولا أتبيّن ما الذنب الذي اقترفتُه لينالني كلُّ هذا الوجع بين يدي أمي وهي ترد عليها :
– اييه يا أمي فطومة أورثونا المصائب، الناس ترث الأراضي ورؤوس الأغنام ونحن لم نرث منكم ومن سلالتكم غير هذه اللحوم .
فترد أمي فطومة عليها مُهدئة:
– لا تخافي عليها، ألبسيها جلباب أبيها رحمه الله، واسع وفضفاض ويحميها من عيون الذئاب .
أتذكّر كل هذا بألم وأنا على متن عربة عمي صالح يجرها حمار هزيل وأنفاس العجوز تلاحقني فلا أصل جنب الطريق الرئيسية المؤدية إلى ميناء الدار البيضاء في انتظار شاحنة المعمل ومطاردات عيون العمال وعلى رأسهم « الميلودي» ، حتى أحس باختناق وضيق تنفس، كنت أتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتني لأرتاح من هذا الكم الهائل من الهم الذي يحمله كل طرف من جسدي .
تصل الشاحنة باب المعمل ، فنتقافز منها كما سمكات السردين وسط شباك الصيد، بعد أن تخرج من الماء، منتفضة تلتمس قطرة ماء تستجدي منها هبّة حياة، إلى أن تُسلم روحها لصائدها .
أقف مكاني، أمام حزام متحرك وسط المعمل، فتتحرك أمامي العلب المعدنية متتابعة فأستقبلها بيديّ واحدة تلو الاخرى، وبحركة خفيفة أجعلها تدور نحو الأنبوب الممتدّ من أعلى يلقي بدفقات متواترة من زيت ثقيل لامع، فتبدو السمكات الفضيّة وكأنها تتلذّذ بحرارته وهي تُغطَس وسطه، وبأصبع واحد أدفع العلبة المعدنية لتتقدم بعدها علبة ثانية فثالثة .
يعبر الحزام المتحرك المصنع بشكل دائري، وأمامه تقف الفتيات والنساء في كل ناحية، لا يبدو منهن إلا أحجامهن من طويلة وقصيرة إلى بدينة ونحيفة فأبتسم لحظي حين أتذكر رأفة المراقب بي، يومها استغربتُ، لقد نقلني من ورشة تنظيف السردين وإفراغ أحشائه إلى ورشة الحزام المتحرك حيث كُلّفت بمهمة مداعبة العلب بأصابعي تحت أنبوب الزيت الحار اللامع متبّل بالملح وتوابل حارة ، ينزل على أجساد سمكات السردين وقد تجرّدت من كل ما يربطها بالماء والحياة، لا رأس ولا أشواك ولا عظام ولا حتى تلك الزعانف الدقيقة، سمكات لم يتبق منها غير قطع لحم طري يكسوه رداء فضي لامع يغري بالالتهام .
كنت أرى جسدي الطري وأنا أقلّب إحدى العلب، كتلك السمكة ممتلئة، تختلف عن أخواتها، وما أن وقع بصري عليها حتى اشتهيت التهامها رغم أن رائحة السردين التي تزكم الأنوف جعلتني أنفر من تناوله، ولكن أمام هذه السردينة الممتلئة لا يمكن أن أتحكم في انفتاح شهيتي على مصراعيها، تمنّيت لو التهمتها مع حبة الفلفل الحارة الصغيرة فوقها ، فلم أتناول كسرة خبز منذ ست ساعات متتالية من العمل أمام هذا الحزام اللعين، نظرتُ إلى السمكة نظرة أخيرة ، التقفتها بخفة ووضعتها بين فكيّ وتابعت بأصابعي تحريك العلب تحت الأنبوب، وما أن رفعت بصري قليلا نحو الأعلى، والسمكة لا تزال بين أضراسي، حتى لمحت المراقب في قميصه الأزرق الواسع ، وهو يتأملني بتلذذ، وجبينه يتصبب عرقا يخفي ابتسامة ماكرة بين شفتيه الغليظتين ….
دويّ صافرة الاستراحة يصمّ أذنيّ، ورأس المراقب ويده وكل جسده تلوّح إلي أن ألحق به إلى مكتبه في الأعلى .


الكاتب : الزهراء وزّيك

  

بتاريخ : 13/05/2022