صدر للكاتب والفنان الأردني محمد العامري عن منشورات «خطوط وظلال» وضمن سلسلة مرويات الفيروس، كتاب «أحلم بالرصيف».
في تقديم الكتاب كتب الكاتب والقاص المغربي أنيس الرافعي ، ما يلي:
« بكلّ صدق ، لا أدري المسوّغ الموضوعيّ أو الفكريّ ، الذي دفعني للشروع في قراءة دفتر يوميّات محمد العامري من نهايتها . ترى ، هل هي رغبة مجنونة لحفر بئر الكارثة من الأسفل ؟ أم تراها محاولة يائسة لإعادة بناء صرح الفجيعة ، مثلما يعمد عالم الآثار لبعث المدن المدفونة تحت أديم الأرض، انطلاقا من المستحثّات و الأحافير وبقايا الخرائب ؟ .
نعم ، إنّ هذا الوباء نائبة شديدة أصابت البشريّة في السويداء ، وزلزلت شتّى نظم الحياة المتعارف عليها . ولعلّ تأمّلها عبر منظار مرويات الفيروس ، سواء الأدبيّة أم تلك التي أقدم على تدبيجها أناس عاديون ، سوف يسهم لا محالة في تشريح هذه الجائحة التاريخيّة ، التي أضحت الجسر الزّمنيّ الفيصل بين حقبتين : عالم ما قبل « كورونا « ، و العصر ما بعد « الكورونياليّ» .
ينعت محمد العامري تدويناته الوجيزة المكتوبة بحدّ شفرة حلاقة ، ضمن تأطيرها التجنيسيّ الفرعيّ ﺑ « الموحشة «، وهو توصيف دالّ و بليغ ينطوي على كافّة معاني الخراب .أقصد، الخراب الكلّيّ للخارج . خراب الحياة التي سقطت عموديّا في غيبوبة الموت السريريّ. وعلى الأرجح ، هذا ما سينحو بنا إلى اعتبار دفتر « أحلم بالرصيف « يومّيات للداخل بامتياز . الداخل الذي تحوّل إلى حصن منيع ضدّ الهجمات المرتقبة للجائحة . فالخارج الآن قفر من دون شكّ، لكنّ الداخل على النقيض أضحى عاجّا بجميع مقوّمات البقاء على قيد الحياة وأسبابها الحيويّة .
لذلك نلفي في الداخل الذي أعاد محمد العامري اكتشافه ، رجلا شبيها أو قرينا أو بديلا لمحمد العامري ، الفنّان والشاعر والسارد ، يحاول أن يحاكي بالحذافير والتفاصيل الدقيقة أدواره ووظائفه السابقة ، التي كان يؤديها في حياة ما قبل الغاشية .
بالطبع ، يفشل في هذا الأمر فشلا ذريعا ، فنراه يلجأ عوضا عن ذلك إلى الاستلقاء فوق كنبة طويلة ذات ملمس طريّ ، يسمّيها ﺑ « التابوت الأزرق « ، ثمّ يبدأ في مقاومة الخارج بمؤثثات الداخل وعناصره . يجترح بفرشاته وألونه وأقلامه اسكتشات حبريّة وتخطيطات على الورق . يعمل النّظر في الضجر والفراغ والصمت والعزلة . يتبصّر الموسيقى والشعر والظّل والزمن . يتدبّر الوردة والشجرة والعصفور والحذاء . يتقصّى النافذة والمساحة والذاكرة و الجسد . يحاول بقصارى جهده أن يوقظ الحياة من قلب الداخل . أن يسحب ما كان في الخارج إلى الداخل. إلى الداخل العميق، الذي غدا الضّفّة الوحيدة الآمنة، والقادرة على تجنيب الكينونة والوجود غائلة الردى .
نديد ومضاعف محمد العامري شخصيّا ، من فوق كنبته الزرقاء الوثيرة ، سيجد نفسه بعد حين ، وكلّما تقدّم حثيثا في تسويد يوميّاته ، محاصرا بالأشباح من كلّ الأنحاء. محاصرا في الداخل. في الداخل تماما. محاصرا في داخل حصنه المنيع ، الشبيه بجحيم قلعة « بورخيس» الحجريّة الدائريّة ، حيث يكتب سجين قصيدة حزينة لا نهاية لها، عن رجل آخر في زنزانة شبيهة دائريّة إلى ما لا نهاية . على الأغلب ، لأنّ الحياة عندما تموت في الخارج ، يصبح جميع من هم في الداخل بدورهم موتى ، لكنّ هذا الأمر يتطلّب منهم بعض الوقت، حتّى يتنبّهوا من غفلتهم إلى كونهم لم يعودوا يمتون بصلة إلى عالم الأحياء».