كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت. بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة ناذرة لتنمو أجنحة الذات.
اجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا. تلامسك كلما اشعلت فانوسها. تسعفك وقتها ضياء تلك الامكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك او اولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك الى ما لا نهاية.
في هذه الاوراق محاولة بسيطة لاستدراج الامس،لإستدراج الحكايات لإستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر اذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد… اللهم من سطور نتكأ عليها، عساها ان تسعفنا لنفي بالمراد.
في احدى أيام دجنبر من سنة 1986، دخلت الجريدة كالعادة طالبا التسليم، لان الملاحظات والانتقادات والتوجيهات ايضا . تعتبر صلاة يومية. نادني الراحل السي عبد الله بوهلال كان وقتها رئيسا للتحرير وبصوته الجوهري الذي يلامس في كثير من الاحيان لغة التنبيه، وقال لي ستسافر الى بغداد لتمثل الجريدة في مهرجان المربد الشعري. تنفست الصعداء وقلت في نفسي. هذه المرة سلمت الجرة.
منحني الراحل بطاقة السفر وطلب مني أن أزور الحاجة رقية المكلفة بالمال والذخيرة. أتذكر انها منحتني 500درهم.
سمع المقربون ان في جيبي مال وفير، وبدأت لغة التناور و التخطيطات السرية والعلنية، وكانت وقتذاك بدأت تتأسس قاعدة من قواعد اللعب، ان اي واحد من الدائرة الضيقة جاءته رحلة من السماء وأخذ تعويضا الا ويجب ان يرش الاخرين بماء بارد في اماكن معلومة ومعروفة وكانت دائما تتم عند ذاك الرجل الطيب البشوش الذي اسمه الطاوسي.
كنت حريصا ان لا أنفق الا القليل من المال لأن السفر الي بغداد محفوف بمخاطر الفقر والحاجة ولا أعلم بما ستنتهي به الامور. لكن الامور مرت في حدود الممكن وخرجت بنصف التعويض.
بدأت الاستعدادات واتذكر جيدا ان زميلي خليل جبران منحني جاكيط من الجلد، حتى أتباهى بها امام الآخرين الذين أعرف الكثيرين منهم بالاسم فقط.
من البيضاء الى زيوريخ ثم قبرص وصولا الى مطار صدام حسين ببغداد، وصلناه في حدود الساعة الثالثة صباحا، فالرحلةالطويلة استمرت زهاء 17 ساعة.
عند وصولنا الى مطار زيوريخ اقتنيت بعض المستلزمات الروحية، ومازالت العادة حتى اليوم قائمة عند كل سفر. لكن رجل بدين يمنعني في باب الطائرة من إدخال حوائجي الغالية. وقال لي بصوت حكي ، ستأخذها هناك في العاصمة العراقية. علمت بعد مدة قصيرة وأنا في الطائرة، انه رجل من رجال الامن الذين يرافقون الخطوط العراقية. لان البلاد في حالة حرب مع الجارة إيران.
كنا وقتها حوالي 15 شخصا، اندمجت معهم بسرعة البرق، لأن الوسائل والوسائط لا تنقصني وأنا من الناس الذين ينتظرون ادنى الفرص بل نصف فرصة، لاسجل هدفا في شباك حائط الصمت، والانغلاق وبالتالي الاندماج سريعا وسط القبيلة التي قطعت الاف الاميال لتصل الى بغداد مدينة التاريخ بامتياز. رحم الله عبد الله بوهلال الذي ان يناديني ب »المتلبس«.
وصلنا بغداد والعياء جالس فوق اكتافنا وعظامنا لكن الاستقبال الجيد والحار والاخوي، استفاقت معها الروح من جديد بعد ان اخذت ما أخذت على طول الرحلة من ماء وضحك وحكايات.
كانت الرحلة الطويلة مناسبة لأتعرف فيها عن قرب الى الراحلين عبد الله راجع ومحمد زفزاف ثم الى ادريس الخاوري. والى الشاعرة وفاء العمراني.والي الناقد حسن لمنيعي والشاعر الطيب الهادئ محمد الميموني. وإلى الشاعرة مليكة العاصمي.
كما كان حاضرا صديقي الراحل مصطفى المسناوي، والاستاذ الشاعر والصحفي احمد صبري الذي كان طيلة هذا السفر صديقا وموجها وموزعا حاذقا للمعلومات وللخبايا وللنميمة الجميلة أيضا.
مع وصولنا الى المطار، لا أدري كيف اصبح ما اشتريته في زيوريخ معتقلا بين يداي كل محمد زفزاف، وادريس الخوري. وحين طلبت تلك البلاستيك الجميلة. قال لي سنصل الى الفندق ووقتها سنمنحها لك. قلت لا بأس مادام الامر فيه نوع من الحرص والاحتضان الاخوي وقتها »طولت بالي» كما يقول المصريون كما وضعت نفسي في حالة تأهب قصوى.
ما ان اخذنا ارقام وسواريت الغرف في الفندق، حتى ابلغنا المنظمون وهم اصحاب بنيات ضخمة، بأن رحلة ليست بالطويلة تنتظرنا الى الجبهة، ووزعوا علينا، بذلا عسكرية كاملة، وقتها بدأت رائحة البارود تصل الي عظامنا وأدركنا بالملموس ان البلاد في حرب حقيقية. ولم تعد المسافات كما كانت في السابق فنحن على أرض المعركة لا أمام التلفاز نشاهد صورا وجنودا ومدافع وطائرات ونيران.
( الحلقة المقبلة…في الجبهة جبال وغربان)