أوراق من سفر فات : رحلة إلى البرازيل 15 : ماندير وأغنية «مال الغابة مقلقة» والساعات الأخيرة بالبرازيل

كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات.
أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية.
في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد…، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.

 

 

في الصباحات الأولى ونحن نخيط« ونطوف شوارع وأزقة صاو باولو، كان الخروج جماعايا خوفا من الهجومات غيرالمنتظرة. إذ كانت الدهشة والترقب لافتات مرفوعة فوق رؤوسنا.
نسير في الشوارع كقبيلة فقدت شيخها بل نسته هناك، وظل الأتباع بدون فتاوي تبحث عمن يمنحها مفاتيحا لحل الأسئلة التي مازالت لم تستقم على اللسان.
بدأ بعض الدفء يتسرب إلى الجماعة، إذ أضحت الأزقة شبه عادية لكن يلفها بعض القلق، فالمعروضات والمنتوجات اللذيذة من لحم وفواكه وابتسامات خدامها تدعونا إلى الدخول.
ظل صوت تلك السيدة الجليلة التي طلبت من الاحتراس والحذر يلف حضورنا في هذه الأزقة المليئة بالصخب وبحركة سير فاقت ما اعتدناه. لا أدري كيف أن خيطا رفيعا من الصدق عانقني بصديقي المهدي ابراهيم وأضحى جزء من ذاكرة رافقتني في هذه الأمكنة.
ذات ليلة خرجنا معا، وجدنا ما يشبه السوليما (السنما) على أبوابها وزجاجاتها الاشهارية فتيات رائعات وهن عاريات . بقوة الفضول طرقنا باب هذه العوالم بأثمان في المتناول جلست قرب صديقي الرائع سي ابراهيم في انتظار بداية الحفل.
لم ننتظر كثيرا حتى أضحى الألم مقتسما فالرفيق أمازيغي عاشق لليسار ولقيمه الرفيعة، وأنا القادم مع عوالم الحشمة الاتحادية النبيلة وجدنا أنفسنا أمام فتيات عاريات يقدمن أجسادهن من أجل لذة تافهة لعيون تتلذذ بعروض هناك في المنصة المضاءة وأمامهن حراسا من طينة التفاهة.
لم يكن بوسعنا إلا أن نهرب من هذا العرض المؤلم، عرض لأجسام فتيات يقدمن أجسادهن الجميلات لمتعة عابرة بدرريهمات قليلة.
لم يكن بمقدرونا نحن أبناء اليسار أن نرى هذا العرض التافه لأجساد بثمن بخص، خرجنا مسرعين دون أن نتمم هذه العروض السخيفة، خرجنا بحثا عن أماكن جديدة نستريح فيها قليلا ونخرج فيها من ضيق هذه الثقافة الجنسية الصادمة.
طرقنا بابا جديدا وإذا بنا نصفع بصدمة أخرى حين تبين لنا أننا دخلنا محلا فيه الكثير من الشبان المتليين وعلى وجهوهمم ماكياجات وألوان فاضحة انحبست أنفاسنا مجددا وأضحى وقت الهروب مطلبا آنيا لا يحتمل التأجيل.
علمنا في زمن لاحق أن الفندق الذي نقيم فيه يوجد في حي خاص بالخارجين عن النص وعن الثقافة الذكورية العميقة التي سكنتنا منذ زمن بعيد، لذا أضحى الاحتياط والحذر واجبين بل من الاركان التي يجب أن نتسلح بها حفاظا على ايماننا المطلق وحرصا على أن لا تتزعز عقائدنا الثابتة.
كان جدول أعمالنا اليومي، يرتكز أساسا على متابعة المقابلات جميعها وتحديدا تلك التي يجريها فريق الرجاء وبعد النزال يكون المركز الصحفي حاضنا للجماعة حتى نتمكن من ارسال مراسلاتنا التي كانت شبه يومية.
حدث حدث لم يكن بالحسبان، إذ أنه بعد نهاية المباراة التي جمعت بين الرجاء والهلال السعودي، والتي انهزم فيها الفريق بأهداف سهلة لكنها مخدومة بطرق كانت فيها اللمسة الاخيرة لصالح أصدقاءأحمد البهجة الذي كان وقتها محترفا في الفريق السعودي.
في مستودع الملابس كانت الاتهامات تفيد أن الحارس الشاذلي تلاعب بالمباراة وبنتيجتها وانقلب كل شيء بسلوكات مهينة ومسيئة جدا لحارس كبير اسمه مصطفى الشاذلي.
أتذكر هاهنا ان الاعلاميين المغاربة لعبوا دورا كبيرا في اعادة الهدوء وفي اعادة الامور إلى نصابها، مذكرين الجميع أن تواجدهم هنا ونحن معهم فبفضل هذا الحارس الكبير مذكرين المشككين أن الكرة مليئة بالبرد وبالخواء وليس باليقين المطلق.
في الفندق والذي يقيم فيه أيضا الفريق السعودي أخرج أحمد البهمة أسلحة الكلام المسؤول طالبا من الجميع الاعتذار للحارس الشاذلي كما لعب المسؤولون الرجاويون وفي مقدمتهم المدرب فتحي جمال ورشيد البوصيري دورا حاسما لاعادة الهدوء ولسد الثقب التي يمكنها أن تدخل من جدار الشك والتشكيك.
بعد إطفاء هذا الحريق خرجنا جميعا نحن معشر الصحفيين رفقة المدرب ما نذيز المدرب السابق للنادي القنيطري إلى احدى المطاعم المختصة بالشهيوات البرازيلية وكان الحديث عن الحادث مازال ينسج الحكايات والتأويلات إلا أن المدرب الرائع تمكن من اخراجنا من هذا الطريق المسدود وذلك عبر غنائه لتلك المقطوعة الشعبية الرائعة القائلة ومال الغابة مقلقة وكان يرددها بصوته وبلكنته البرازيلية، مما أضفى على اللقاء فسحة فرح رائعة، متمما أغنيته بصوت الهيت المعروف في الغرب بشكل عام.
فيما أظن كانت تلك الليلة إحدى الأيام الأخيرة لنا بهذه المدينة، إذ لم يتبق لنا إلا الخروج لشراء بعض التذكرات نتذكر عبرها ومن خلالها أننا زرنا هذه المدينة التي اكتشفنا خلالها أن مدينة محاصرة وتعيش على ايقاع الاستثناء بتواجد أعداد قياسية من الآليات الحربية خاصة عند الأبناك وفي الشوارع الكبرى التي تتواجد فيها المتاجر الرفيعة.
غادرنا البرازيل على أمل أن نعود إليها لكن الأقدار لم تستقم خاصة بعد إقصاء المنتخب المغربي في المونديال الذي احتضنته أرض الكرة بامتياز.


الكاتب : عبد الرزاق مصباح

  

بتاريخ : 18/07/2017