أوراق من سفر فات .. 11 : الرحلة إلى عوالم البرازيل ببطاقة سفر من توقيع أحمد بلكاهية

كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات.
أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية.
في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد…، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.

 

الكتابة عن سفر فات أو حادث أو حدث أو ذكريات مضت أو وجوه صادفتها وكأنك تسترجع أزمنة متقطعة، وحدك أيها المسافر هو الرابط بينها، وحين »تقاوم« وتجهد نفسك من أجل إحيائها وهي رميم، تجد نفسك مضطرا لأن تقرأ بعيون حية مليئة بالحركة لا أن تطل عليها بعيون جافة وجامدة.
لقد أكدت في الورقة السابقة، أن هذه السطور حول السفر إلى البرازيل وتحديدا إلى ريو دي جانيرو، كانت مبرمجة في وقت لاحق من سفر قد فات، لكن رحيل رجل أعزه من حجم سي أحمد بلكاهية، دفعني بقوة الاعتراف أن يكون سبيلي نحو الكتابة حتى لا أقول الاعتراف.
في الحلقة السابقة، كانت أحداث مباراة الترجي والرجاء جزءا منها، وكانت تنقصها فقط بعض التفاصيل الصغيرة لكنها ذات وزن وازن…
كنا بضع صحفيين قلائل ممن زاروا مقر إقامة الفريق، حيث دخلنا الفندق هناك بضواحي العاصمة التونسية، ولم يكن من الصعب العثور على المسؤولين الرجاويين وتحديدا رئيس الفريق أحمد عمور وأحمد العسكي الذي يقرأ “الميساجات” وهي طائرة، إضافة إلى الرجل الرزين عبد السلام حنات وقائد الكومندو رشيد البوصيري فضلا عن بعض المحبين الذين اعتادوا مرافقة الخضر في الأرض والجو.
ما أن أخذنا مكاننا بين هذه العشيرة الخضراء حتى بلغنا خبر مفاده أن رئيس الترجي سليم شيبوب شوهد رفقة الثلاثي التحكيمي الذي سيقود لقاء النهائي، ويضيف الخبر الذي حكاه أحد رؤساء الجامعات بإحدى الدول الإفريقية والذي تربطه علاقات شخصية مع أحد المسؤولين الرجاويين، أن القرار قد اتخذ من أجل أن يكون الترجي فائزا باللقب الذي يخول له المشاركة في أول بطولة للعالم، وما على الرجاء سوى الحضور وانتهى الأمر. أضحى النقاش وقتها منحسرا في الكيفية التي بإمكانها أن تفشل هذا المخطط الذي رسمه صهر زين العابدين بن علي الرئيس الهارب.
وكانت مناسبة حضرنا خلالها جلسة خاصة تم فيها الحديث عن العناوين الكبرى لسيناريو إفشال هذا المخطط بعد أن تم استدعاء أوسكار فيلوني مدرب الرجاء وقتها.
حين ولج الفريقان معا أرضية الملعب، كان الترقب سيد المكان، في انتظار ما ستسفر عنه معطيات هذا النزال.
وعلى بعد دقائق قليلة من صافرة الانطلاقة، ارتكب المدافع جريندو خطأ عاديا بل لا يستحق حتى الالتفاتة لكنها كانت فرصة نادرة اقتنصها الحكم ليطرد اللاعب. وكانت تلك إشارة قوية وورقة إثبات تؤكد تلك الأخبار التي سمعناها ليلة المقابلة.
احتج اللاعبون بل اتجهوا إلى مستودع الملابس في إشارة إلى أنهم سينسحبون من الملعب، وبعد فترة ليست بالقصيرة نزل رئيس الفريق أحمد عمور ليعيد اللاعبين إلى رقعة التنافس، بعد أن أضحى موقف الحكم مفضوحا أمام أعين مسؤولي الكاف وأمام أعين المتتبعين والمراقبين القادمين من كل بقاع العالم بالنظر إلى قيمة هذه المباراة القارية. غير أن الصمود الرجاوي ظل قائما بعد مباراة طاحنة شهدها الملعب.
على كل حال انتهى اللقاء واحتكم الفريقان لضربات الجزاء التي كان بطلها وصانعها الحارس مصطفى الشاذلي الذي منح بقوة التركيز بطاقة التأهل إلى مونديال الأندية للفريق الأخضر.
ومباشرة بعد نهاية المباراة أضحى الملعب فارغا، فحتى المنصة لم يعد فيها سوى أعضاء الكاف، فيما غادر التونسيون جميعهم المكان وعلى رأسهم سليم شيبوب.
كلما تذكرت هذه المحطة يستوقفني، مع الأسف، حدث صغير لكنه مؤلم، فعند انتهاء المباراة قام المسؤولون عن الملعب بإغلاق أبوابه وأعضاء الوفد المغربي جميعهم داخله، وكانت هذه المباراة، كما سبقت الإشارة، قد جرت في شهر رمضان، ولم نستطع مغادرة الملعب إلا بعد ساعات طويلة من الانتظار.
في طائرة العودة كان الكأس عائدا معنا مخلدا للحظات تتويج ظلت دوما لامعة في تاريخ هذا النادي العريق، كما كانت جريدة »”الرجاء”« في عرس مماثل، إذ نقلت هذه اللحظات عبر الصور والتعاليق والروبورتاجات، وكان الطاقم الصحفي الذي يقوده أحمد بلكاهية والتقني الذي يشرف عليه نجيب الصنهاجي يسعى جاهدا ليكون العدد في مستوى الإنجاز، وكذلك كان بالفعل، إذ حقق ذاك المنشور وقتها أرقاما قياسية، وبعد مدة ليست بالقصيرة بدأ الحديث عن نهائيات كأس العالم التي ستحتضنها ريودي جانيرو البرازيلية.
طالب الراحل أحمد بلكاهية وهو المشرف على الجريدة الخضراء بأن يكون كاتب هذه السطور ضمن البعثة الصحفية التي سترافق الفريق، خاصة وأن بعض الأقلام كانت تعتبر نفسها وقتذاك محددة للأسماء وللطرق المؤدية نحو الضفة الأخرى للأطلسي.
ورغم بعض التحفظات الصغيرة فقد كان قرار بلكاهية نافذا إضافة إلى سمعة جريدة الاتحاد الاشتراكي وقتها، وكل ذلك كان كافيا لأكون حاضرا في هذا العيد الجديد للكرة العالمية…


الكاتب : عبد الرزاق مصباح

  

بتاريخ : 13/07/2017