العلاقة التي تربط المصريين والمغاربة ،علاقة تمتد في الزمن منذ قرون،فقد تعددت أوجه هذه العلاقة كما تشهد بذلك كتب التاريخ .
ووفق المؤرخين، فقد هاجر العديد من المغاربة إلى الديار المصرية في عهد مولى إسماعيل، خاصة من فاس ومراكش، حيث استوطن أهل فاس في القاهرة، في حين استوطن أهل مراكش في الإسكندرية.
وتؤكد المصادر التاريخية، أن المغاربة الذين اختاروا مصر مقاما جديدا لهم، يعتبرون من التجار الكبار، وهناك تأقلموا مع أهل هذا البلد، فنمت تجارتهم، بل استطاعوا أن تكون لهم اليد العليا على المستوى التجاري والاقتصادي، فأصبحوا فعلا يشكلون النخبة هناك، ولهم تأثير واضح على مستوى الحكم.
تمكن المغاربة الذين اندمجوا بسرعة في المجتمع المصري،من توسيع تجارتهم، لتمتد إلى خارج مصر، وتصل إلى مكة والشام، بل بنوا حارات جديدة مازالت قائمة في مصر إلى اليوم، شاهدة على ما قدمه المغاربة من إضافة إلى وطنهم الجديد.
لم تقتصر الأيادي البيضاء للمغاربة على مصر في هذا الباب، بل ظهرت جليا على مستوى العلم والتصوف.
وكما يقال، إن كان الإسلام دخل إلى المغرب من الشرق، فإن تأثير المغاربة في المشرق جاء عن طريق علماء الصوفية.
في هذه الرحلة، نستعرض أهم أشهر المتصوفين المغاربة المدفونين في المشرق خاصة في مصر ،الذين تركوا بصمات وأتباع لمدارسهم الصوفية إلى اليوم ،حيث يستقطب هؤلاء المتصوفة المغاربة، الملايين من المريدين المصريين كل موسم.
انتقل البوصيري إلى القاهرة حيث تلقى علوم العربية والأدب ، فحفظ القرآن في طفولته، وتتلمذ على عدد من أعلام عصره، حيث اجتمع بالشيخ أبي العباس المرسي، وهو الذي تلقى علوم الأستاذ الجليل القطب الواصل أبي الحسن الشاذلي، فانتفع الإمام البوصيري بصحبته كثيرا، كما اشتهر الإمام البوصيري بأنه كان يجيد الخط وقد أخذ أصول هذا الفن وقواعده على يد إبراهيم بن أبي عبد الله المصري
وبسبب تفوقه في شعر المديح النبوي تقول الباحثة المصرية سكينة مناري في دراسة لها حول الإمام البوصيري، أثنى عليه العديد من العلماء البارعين ومؤرخي هذا العصر، فقال عنه ابن حجر الهيتمي في مقدمة «المنح المكية شرح الهمزية البوصيرية»: «هذا وإن من أبلغ ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف عن كثير من شمائله من الوزن الفائق المنيع وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره وخصائصه ومعجزاته هو الشيخ الإمام العارف الكامل الهمام المتفنن المحقق، البليغ الأديب المدقق الإمام، إمام الشعراء، وأشعر العلماء، وبليغ الفصحاء وأفصح البلغاء الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي،، وقال الشيخ الباجوري في شرحه على البردة: «ومن أَجَلِّ الشعراء الإمام الكامل والهمام العالم العامل البليغ الأديب أشعر العلماء وأفصح الحكماء الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري»
وقال الشيخ بسام محمد بارود في حاشيته على العمدة «شرح بردة البوصيري»: «هو إمام الشعراء، وشاعر أئمة العلماء، بل هو الفرقد الوضاء الذي أنار الطريق إلى المدائح النبوية: شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن، بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي البوصيري».
ومن مؤرخي هذا العصر الذي أثنوا عليه، ابن شاكر الكتبي قال :« وشعره في غاية الحسن واللطافة، عذب الألفاظ منسجم التركيب».
ترك البوصيري عددا كبيرا من القصائد والأشعار ضمّها ديوانه الشعري الذي حققه «محمد سيد كيلاني»، وطُبع بالقاهرة سنة (1374 هـ= 1955م)، وقصيدته الشهيرة البردة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، والقصيدة «المضرية في مدح خير البرية»، والقصيدة «الخمرية»، وقصيدة «ذخر المعاد»، ولامية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان: «المخرج والمردود على النصارى واليهود»، وقد نشرها الشيخ «أحمد فهمي محمد» بالقاهرة سنة (1372 هـ= 1953م)، وله أيضا «تهذيب الألفاظ العامية»، وقد طبع كذلك بالقاهرة.
عاش البوصيري حياة مليئة بالعطاء والإبداع، حيث توفي بمدينة الإسكندرية سنة 695 هـ الموافق ل 1295م عن عمر بلغ 87 عاما.
ووفق المصادر التاريخية، فإنه قد بني مسجد الإمام البوصيري مكان زاوية صغيرة،ويتكون من مربعين منفصلين، وأمر الخديوي سعيد ببناء المسجد، فوق ضريح شرف الدين البوصيري تكريما له.
يقع المسجد في مدينة الإسكندرية على شاطئ البحر بحي الأنفوشي، في منطقة ميدان المساجد، أمام مسجد أبي العباس المرسي، ويأخذ نفس الشكل المعماري تقريبا.
يتكون التخطيط المعماري له من مساحة مستطيلة لها 4 واجهات، والواجهة الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية رئيسيتان،و يتم الوصول للجامع من خلال 3 مداخل، الأول بالواجهة الشمالية الشرقية، ويصل إلى المدخل، والثاني بالطرف الغربي للواجهة الجنوبية الغربية، ويؤدي إلى صحن الجامع، والثالث بالطرف الجنوبي للواجهة الجنوبية الغربية ويؤدي إلى بيت الصلاة.
واجهات الجامع الأربع متوجة بصف من الشرافات على هيئة ورقة نباتية، وتوجد مئذنة الجامع بالواجهة الجنوبية الغربية، وبُنيت على طراز المآذن المملوكية.
لمسجد الإمام البوصيري،5 قباب، الأولى تجاور المئذنة بالواجهة الجنوبية الغربية، وهي قبة ضريح الإمام البوصيري، والثانية تتوسط بيت الصلاة، وتقع الثلاث قباب الأخرى بالواجهة الشمالية الشرقية، وهي عبارة عن 3 قباب متجاورة تغطي سقف المكتبة الإسلامية الملحقة بالجامع.
تقع القبة الضريحية الملحقة بالمسجد خلف بيت الصلاة بالناحية الجنوبية الغربية، وهي عبارة عن مساحة تخطيطها مربع يتوسطها تركيبة رخامية بداخلها ضريح الإمام البوصيري، ويغطي سقفها قبة محمولة على صفوف من المقرنصات المجلدة بالخشب.
يوجد بالمسجد لوحة جدارية مخطوطة تشمل 94 بيتًا من قصيدة البردة منقوش عليها تعليقات وآيات قرآنية، باللون الأبيض على أرضية زرقاء اللون،كما يوجد بالطرف الغربي للجدار الجنوبي الغربي شاهد قبر من الرخام، بداخله كتابة بالخط الكوفي يرجع تاريخه إلى القرن السادس الهجري، وألحق بالمسجد حجرة تستخدم حاليا لإمام المسجد، وتقع على يسار المدخل بالناحية الجنوبية الشرقية، وهي حجرة مستطيلة بأرضيتها بالناحية الجنوبية الغربية فوهة بئر عليه خرزة من الرخام الأبيض.