أول دراسة أكاديمية حول تيمة الطعام في الأعمال الروائية

« مطبخ الرواية، الطعام الروائي» للأكاديمي د. سعيد العوادي

 

 

بعد النجاح الباهر – مغربيا وعربيا- الذي حقّقه كتاب «الطعام والكلام، حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي»، للأستاذ الأكاديمي الدكتور سعيد العوادي، الذي جنَّدَ نفسه لسبر غوْر مباحث ذات الصّلة بالبلاغة؛ غير مُلتَفَتٍ إليها وغير مطروقة، وفي زخم هذا البذل العلمي، صدر للباحث كتاب نقدي جديد موسوم بـ « مطبخ الرواية، الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير»، عن دار النشر «افريقيا الشرق»، والذي يقع في مائة وواحد وثمانين صفحة.
وقد رأينا من الأفْيد والأليق تتبّع هذا الجهد النقدي في الأنحاء التي اخْتطّ فيها الباحث سبيلا، حيث نَحَتَ واجْترحَ تصوّرا متفرّدا، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الدراسة هي الأولى من نوعها في العالم العربي التي أثارت إشكالية أثر وتيمة الطعام في الأعمال الروائية، وبفضله،لا شكّ أنّها استطاعت أن تُشكّل كيانا علميا، بالنظر إلى مستجدات البحث الأنثروبولوجي والثقافي والسوسيولوجي الذي تغلغل في مظاهر وظواهر الحياة المعاصرة، لِنَتبَيّنَ أن هذه الإشارات اقتطفناها بعناية شديدة، للفائدة من التصورات العميقة التي يقدّمها هذا الكتاب، نقرأ في المقدمة ما بيانه: « تتضمّن الروايات مطابخ متنوّعة وتزخر بصنوف من الموائد تهيّج الحواس، فتكاد تتراءى للقارئ صور جلسات تناول الوجبات وارتشاف الكؤوس وألوان الملذات، ويسمع صرير احتكاك الشوكات بالسكاكين وقرقرة الأشربة ونشيش الطّهي، ويشمّ روائح الأطباق وشذى التوابل وأريج الفواكه، ويتذوّق لذيذ المشهيّات. فتخلق في نفسه حالات سيكولوجية متباينة، كأن توقظ ذكرى ماضوية مطمورة، أو تومض فكرة منطفئة «، يُستفاد من كلام الباحث أنّ تيمة الطعام تستجيب لمظاهر الجدة والإضافة كأفق يشكّل خطابا بدلالات تمتاح من أبعاد مشهدية وبصرية وتمنح الحواس وتُحرّك الأطباق ضمن منظور معرفي وثقافي وهوياتي، يُسهم في بلورة وعي قراءة جديدة للعوالم الروائية، الكلام نفسهُ الذي برهن عليه الباحث بصريح العبارة، ولذلك « يُجسّر الطعام علاقات راسخة مع أسئلة الوجود والهوية والغيرية والطبقية والجندر».
وعلى هذا الأساس، أظهرت الرواية رؤية فكرية تستوعب خطابا يتخلّق من رحم الأطعمة والأشربة، ويحفر في الذاكرة وينسج متخيّلا محكيا موغلا في الزمكان، ولذلك يقول الباحث في معرض مقدمته أنّ « لكُلّ طعام أو شراب، بل لكلّ مكوّن منهما، ذاكرته السردية الخاصة التي تحمل معها تنويعا من العلاقات الإنسانية المتجذرة في الزمان والمكان».
إنّ هذه العناية تنتقل إلى كاتب الرواية باعتباره طبّاخا، يلزمه التزوّد بمهارات الحاذق الماهر الذي يضبط دوزنة جُماع عناصر تتفاعل في ما بينها لتنتج عالما روائيا تخييليا، « أفلا تكون الرواية الجيدة، هي الأخرى، «طبقا سرديا» يتفنّن فيه الروائي الطبّاخ بانتقاء مقادير شخوصه وأحداثه وأمكنته وأزمنته، مع إضافة ما يوائم ذلك من توابل سردية، ثم يطبخها على نار الخبرة والتجربة؟!».
وتنبع أهمية هذا الكتاب، على وجه الدقّة، من أنّه يقدّم للقارئ أول دراسة أكاديمية مستفيضة في تيمة الطعام في الأعمال الروائية، بدليل قول الباحث: « غير أنّ النقد الروائي لم يحفل بــ «أطعمة الرواية» بدليل خلوّ مدوّنته الواسعة من أيّ كتاب تفصيلي استقلّ بتناول هذا المكوّن الحيوي بأي صيغة سواء أكانت وصفية أم تاريخية أم تأويلية»، إنّه لمن الصعب إيجاد كتاب نقدي يسدّ هذا الفراغ التام، ذلك أنّ النقّاد على امتداد عالمنا العربي، قد نظروا إلى هذا المبحث نظرة تنقيض وتبخيس استمدادا لمبررات أبرزها الثقافة الذكورية التي تَعتبر «الروايات الطعامية» أدبا من الدرجة الثانية، وأنّ مشاهد الطعام والشراب متعلّقان بكل ما هو نسائي صِرف. فاتَ أصحاب هذه المواقف الضيّقة أنّ هذا المنجز النقدي فيه من الإحاطة والإلمام بما يستند على «مقاربة موضوعاتية منفتحة على القراءة الثقافية والتناول البلاغي الموسّع».
تضمّن الكتاب ثلاثة فصول رئيسة، جاء الأول تحت عنوان «روافد الطعام الورائي» وفيه تطرّق الباحث إلى الأرضية المرجعية التي نهلت منها سواء الرواية العربية، انبثت جذورها في التراث العربي من خلال سرديات أخبار الطفيليين وأخبار البخلاء وأدب المقامات، أو المتعلّقة بما يتحقّق في الرواية الغربية وأمريكا اللاتينية، ويمكن تلمّس ذلك في روايات «طعام.. صلاة.. حب» للروائية الأمريكية إيزابيل جيلبرت، و»ذائقة طعام هتلر» للروائية الإيطالية روزيكبوستورينو، و»كالماء للشوكولاته» للروائية المكسيكية لاورا إسكيبيل، و» أفروديت» للروائية التشيلية إيزابيل أللّيندي.
وتناول الفصل الثاني قضية « الرواية العربية والطعام المشهدي» بالتركيز على الحضور المشهدي للتوصيفات الطعامية في بواكير الأعمال الروائية العربية، وسَاقَ الباحث ثلاثة أنساق كبرى للتمثيل والتدليل، وهي: الطعام هوية والطعام رسالة والطعام سلاح. ولكشف هذه الأنساق، استند الباحث إلى جغرافيات عديدة كمصر والمغرب وسوريا وتونس.
وخصّص الباحث الفصل الثالث لِمُطارحة قضية « الرواية العربية والطعام التضفيري» كمحطّة ثانية وَسَمَت الأعمال الروائية، بل ونَضَجَت فيها الأطعمة، فتَهَيّأ المناخ للتضفير عنصرا نوويّا وبُؤريّا ضامّا لمكوّنات السرد والوصف والشخصيات والفضاء واللغة، وهكذا بدا عمليّا في النماذج الروائية التالية: «كُحلٌ وحَبَّهان» للكاتب المصري عمر طاهر، و»برتقال مرّ» للكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب، و»خبز على طاولة الخال ميلاد» للكاتب الليبي محمد النعّاس.
بقي أنْ نشير إلى ما يمكن إيجازه في هذه الدراسة التي توصّل الباحث فيها إلى استنتاجات هامة، وعلى ذلك فإنّه يُقرّ أنّ البحث التيماتي في نقد الرواية العربية، لأنه يُسلّط الضوء على المستويين البنيوي والوظيفي للتيمة المدروسة، بعيدا عن التعميم والتعويم، وأنّ التطور الحاصل في العلوم الإنسانية قد فتح الباب أمام النقد الروائي العربي ممكنات جديدة، والتعامل مع خطاب الطعام في الرواية ليس محطّ التنقيص أو النظرة الدونية. وإذا ما تعمّقنا في الحقل الطعامي التراثي سنجد له واقعا معاصرا كالتطفّل الذي يطال الراهن من خلال الميديا أو الحياة الشخصية للأفراد، والبخل يعصف بالمشاعر وقيم التعاون ويُضعف القيم الإنسانية، ومفهوم الكرم الذي يمكن أن يتّسع ليشمل احتياج الإنسانية اليوم التي يُهدّدها الفقر والوباء وتفاقم الأزمات.
بهذا المنجز الاستثنائي، يكون أ. الأكاديمي الدكتور سعيد العوادي، قد نصب الخيام في الواحة، وعلى القراء/ النقاد الإقامة في هذه الواحة المعرفية.


الكاتب : ذ. محمد زين

  

بتاريخ : 08/04/2024