380 مليار درهم استثمار عمومي… هل استوعبت الحكومة وصفة النجاعة التي دعا إليها جلالة الملك؟

أي وقع لهذا المبلغ الفلكي على إنقاذ 1.6 مليون مغربي من براثن البطالة، وعلى الحياة اليومية لفقراء الدواوير النائية؟

كيف ستضمن الحكومة ألا تتحول هذه المبالغ الضخمة إلى ريع للمحظوظين والى أرقام عائمة في التقارير المالية

الأرقام وحدها لا تكفي للانسجام مع الرؤية الملكية، ما لم تقترن بضمان نجاعة الإنفاق العمومي وحكامة التتبع والتقييم

رفعت الحكومة من سقف طموحاتها المالية في مشروع قانون المالية لسنة 2026 إلى مستويات غير مسبوقة، إذ بلغ مجموع ميزانية الدولة 761,3 مليار درهم مقابل 721,3 مليار درهم في السنة الماضية، أي بزيادة قدرها 5,54 في المائة. وضمن هذا الغلاف، خصصت الحكومة 136,1 مليار درهم للاستثمار في الميزانية العامة، ليصل المجموع العام للاستثمار العمومي إلى نحو 380 مليار درهم، باحتساب استثمارات المؤسسات والمقاولات العمومية (180 مليار درهم) وصندوق محمد السادس للاستثمار (45 مليار درهم) والجماعات الترابية (22,5 مليار درهم).
هذا الحجم المالي الضخم يعكس بلا شك إرادة الدولة في جعل الاستثمار محور السياسات العمومية، لكنه يثير في المقابل سؤالا مركزيا: هل استوعبت الحكومة جوهر التوجيهات الملكية التي شددت على أن الاستثمار العمومي لا يقاس بحجمه بل بفعاليته وأثره؟ بمعنى كم سيخلق هذا الرقم الفلكي (380 مليار درهم) من منصب شغل حتى يقلص من جيش العاطلين الذي وصل تعداده اليوم إلى 1.595 مليون عاطل على المستوى الوطني ، وهل سيكون فيه من نصيب مثلا لسكان الدواوير النائية في زاوية سيدي عبد القادر و جماعة شقران و بنزي بوشيبت (إقليم الحسيمة) وجماعة الجوزات (إقليم تازة) ودوار إسافن (بإقليم طاطا) وغيرها من آلاف الجماعات المشابهة الملونة بالأحمر الفاقع في خريطة الفقر لدى وزارة الداخلية؟
فالخطاب الملكي الأخير أمام البرلمان كان حاسما في نبرته حين دعا إلى محاربة كل الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات، معتبرا أنه من غير المقبول التساهل في مردودية الاستثمار العمومي.وأكد جلالته أن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية ليست شعارات عابرة، بل توجها استراتيجيا ورهانا مصيريا، يجب أن يوجه كل السياسات التنموية. هذا البعد في الخطاب الملكي يجعل من سنة 2026 محطة اختبار حقيقية لقدرة الحكومة على الانتقال من منطق الأرقام إلى منطق الأثر.
في المذكرة التقديمية للمشروع، تقول الحكومة إن ميزانية الاستثمار جاءت لدعم المشاريع الكبرى في مجالات الماء والطاقة والبنيات التحتية والتعليم والصحة، وأنها تسعى من خلالها إلى رفع معدل النمو وتحفيز الطلب الداخلي. لكن الأرقام وحدها لا تكفي لتأكيد الانسجام مع الرؤية الملكية، ما لم تقترن بآليات واضحة لضمان نجاعة الإنفاق العمومي وحكامة التتبع والتقييم. فقد سبق أن رصدت اعتمادات ضخمة في السنوات الماضية، دون أن تواكبها نتائج ملموسة في الميدان، سواء على مستوى العدالة المجالية أو تحسين معيش المواطنين.
وبينما تسعى الحكومة إلى الحفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية من خلال موارد إجمالية تقدر بـ 712,5 مليار درهم، منها 380 مليار درهم من الإيرادات الجبائية والجمركية و27,5 مليار درهم من مداخيل المؤسسات العمومية، يظل التحدي الأكبر مرتبطا بكيفية تحويل هذه الموارد إلى مشاريع ذات أثر تنموي حقيقي. فالتوجيه الملكي شدد على ضرورة «تسريع وتيرة وأثر الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية» القائمة على المعطيات الميدانية الدقيقة والتكنولوجيات الرقمية، وعلى تغيير العقليات وترسيخ ثقافة النتائج.
وتبرز هنا الإشكالية الجوهرية: كيف ستضمن لنا الحكومة ألا تتحول هذه الاعتمادات الاستثمارية الضخمة إلى أرقام عائمة في التقارير المالية، أو إلى مشاريع متعثرة تستهلك المال العام دون مردودية؟ مثال 4300 مليار سنتيم (43 مليار درهم) التي تبخرت مع «البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم» وما الضامن ألا تتحول 380 مليار درهم أو جزء منها إلى صفقات ريعية يستفيد منها المحظوظون والمقربون (فضيحة الفراقشية نموذجا(؟ فالمغرب جرب خلال العقدين الأخيرين أنماطا مختلفة من الإنفاق العمومي، من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى البرامج القطاعية الكبرى، (غير أن ضعف التنسيق وتعدد المتدخلين وغياب التقييم القبلي والبعدي جعل الكثير من المشاريع تفقد أثرها التنموي. ومن ثم، فإن الخطاب الملكي جاء ليؤكد أن العبرة ليست في إطلاق المشاريع بل في تتبعها وقياس أثرها وتقييم مردوديتها.
ويراهن مشروع قانون المالية 2026 على توجيه الاستثمار نحو المجالات ذات الأولوية التي حددها جلالة الملك، وفي مقدمتها تنمية المناطق الجبلية التي تمثل 30 في المائة من التراب الوطني، وتفعيل سياسة مندمجة لتنمية السواحل، وتوسيع برنامج المراكز القروية الناشئة لتقريب الخدمات من المواطنين بالعالم القروي. وهي مقاربة ترابية جديدة تتوخى تحقيق توازن فعلي بين المجالات الحضرية والقروية..
لكن بلوغ هذه الأهداف يقتضي أدوات تنفيذية دقيقة، من بينها تفعيل منظومة المراقبة القبلية والآنية والبعدية للمشاريع، وإرساء قواعد شفافة للتعاقد بين الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية، وتعميم مقاربة النتائج في تدبير المال العام. فبدون حكامة قوية ومحاسبة واضحة، ستظل الميزانيات الضخمة عرضة للتبديد والريع والاختلالات البنيوية التي تعيق مردودية الاستثمار.
وكما هو الحال في مشاريعها السابقةـ قالت الحكومة إنها تسعى من خلال مشروع قانون المالية إلى تقوية العدالة الاجتماعية عبر تمويل ورش التغطية الصحية والتعويضات العائلية وتعميم الحماية الاجتماعية، وهي مشاريع ذات بعد إنساني كبير، لكنها تحتاج بدورها إلى تأطير مالي مستدام حتى لا تتحول إلى عبء إضافي على الميزانية. فالمعادلة التي تفرضها المرحلة تقتضي تحقيق التوازن بين البعد الاجتماعي والبعد الاستثماري، في انسجام تام مع توجيهات الملك الذي دعا إلى عدم الفصل بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، لأن الغاية واحدة: تحسين ظروف عيش المواطنين أينما كانوا.
في المجمل يضع مشروع قانون المالية 2026 على طاولة الدولة فرصة جديدة لترجمة الخطاب الملكي إلى ممارسة مالية ناجعة. فالأرقام غير المسبوقة المخصصة للاستثمار يمكن أن تشكل قاطرة للتنمية إذا تم توجيهها وفق منطق النجاعة والمردودية، لكنها قد تتحول إلى عبء إضافي إذا استمرت الاختلالات التدبيرية السابقة. ولعل الرسالة الملكية كانت واضحة: لا مكان لاستثمار بلا أثر، ولا لتدبير عمومي بلا محاسبة، ولا لتنمية مجالية بلا عدالة اجتماعية. وكل اختبار مالي مقبل سيكون مرهونا بمدى احترام هذه المعادلة الجوهرية التي تختزل فلسفة النموذج التنموي الجديد.


الكاتب : عماد عادل 

  

بتاريخ : 22/10/2025