« أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ» أحمد شكر

الفني والجمالي في تجربة الكاتب / القارئ

تسعى هذه القراءة في العمل القصصي «أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ (1) « للكاتب أحمد شكر إلى الكشف عن مقومين أساسيين: المقوم الفني الذي يعد مقوما من مقومات الكتابة الأدبية. والمقوم الجمالي الذي يرتبط بقراءة الأدب، والقصة القصيرة في حالتنا هاته؛ إذ سنركز على النصين الأول والثاني من « أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ «: كراسي والليالي .
راهن الكاتب في قصة الليالي على تثوير الكتابة القصصية، اعتمادا على التناص، إذ تجاوز نمط الكتابة القائم على الذاكرة الشخصية للكاتب، واجترح مسارا مغايرا قائما على الكتابة – القراءة . وبهذا استطاع القاص أحمد شكر أن يحمل نص « الليالي» على تجاوز ضفافه ليعبر عن تجربة الذات ( ذات الشخصية المتخيلة في النص )، دون أن يجعل هذا النص ينفلت أو يحيد عن مجراه الأساس المتمثل في تجربة الغير ( خورخي لويس بورخيس)، تجربة تعلم اللغة العربية، لغة ألف ليلة وليلة، وهي تجربة حضرت ضمن سياقات سردية، كما في رواية اسم الوردة لأمبرطو إيكو، أو ضمن سياقات ميتا سردية مع عبد الفتاح كيليطو، في الجزء الأول من أعماله الكاملة، جدل اللغات، تحت عنوان بورخيس « العربي» .
إن كتابة « أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ» هي كتابة تناصية محكومة ب» شبكة من الإحداثيات النصية والوقائعية المتعالقة والمتواشجة، ومن هذه الوقائع ، نجد الوقائع السابقة عن فعل الكتابة المتجلية في نص « الليالي» تتمثل في واقعة تعلم اللغات الأجنبية في سن متأخر، كواقعة تؤرق الإنسان، حيث أن تعلم اللغة الأجنبية يساعد الفرد على معرفة لغته؛ بل لِنَقُلْ – مع غوثه- إن من لا يعرف أية لغة أجنبية لا يعرف أي شيء عن لغته. فقوة لغة الليالي لا تكمن إذن في الحرص على صفاء اللغة، وإنما في قدرتها على استيعاب الغير. إن تعلم لغة الليالي من قِبَل الرجل السبعيني هو إشارة إلى الرغبة في العودة إلى لسان آدم ، وتجاوز بلبلة الألسن .
تنضاف إلى الوقائع السابقة عن الكتابة نصوص سابقة عن فعل كتابة قصة الليالي ؛ مثل النص البورخيسي ونص عبد الفتاح كيليطو، والنص الإيكوي (نسبة إلى أمبرطو إيكو )، ما يدل على أن كاتب «أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ «، وبالخصوص في قصتي كراسي والليالي، قارئ ( رحالة بين النصوص ) قبل أن يخوض غمار تجربة الكتابة ، وأثناء الكتابة أيضا . هذا ما يحيلنا على ما ورد في الكلمة التي استهل بها عبد الفتاح كيليطو كتابه «الأدب والغرابة» حين يقول ، موضحا، تجربته مع فعل الكتابة : « لم أعد أقرأ كما كنت أفعل في السابق، وعندما تتغير القراءة ، تتغير الكتابة لا محالة «
. فلا نبالغ إذا قلنا إن المجموعة القصصية « أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ» تظهر بجلاء جودة قراءة كاتبها كماً ونوعاً، عكس الكتابة – الذاكرة . فالقراءة الجيدة تثمر كتابة جيدة .
إلى جانب التناص، نجد آلية الحلم في الكتابة القصصية عند أحمد شكر، خصوصا في قصة كراسي، حيث ينهض الحلم بسبر أغوار باطن الشخصيات / الحالمين الثلاثة ( الذين تركوا الكراسي لقطرات الندى) ، إنها شخصيات ، بتعبير فرانز كافكا، مُسِخَت أو تحولت إلى قطرات ندى حالمة وعاشقة، حالمة بحياة الثراء على شاطئ البحر، مُوَسِّعَة للأمداء رغم ضيق أفق الواقع : واقع قائم على أرضية هشة / أو فوق رمال متحركة لشاب يبحث عن زبناء حالمين عاشقين قد يكون ثالثهم من أجل دريهمات معدودة . فهل يمكن لشاب أن يشترى خبزه ويضمن قوت يومه بالحلم ؟ عكس عنوان لوحة الفنانة ريم يسوف: « هل يمكن للروائي أن يشتري حلما ؟ « إنها سخرية الكاتب كأداة فعالة في نقد الواقع – واقع الشاب الذي يرص الكراسي للحالمين على شط البحر. سخرية تحرر الواقع فنيا، وتؤسس لمثال أفضل: رص صفوف كراسي العشق والمحبة والتسامح بدل زرع بذور التنافر والكراهية والحقد بين بني الإنسان ، كما توحي بذلك قطرات الندى فوقى الكراسي المرصوصة على شكل هلال . فلغة الحلم في قصة كراسي تعبر عما تعجز عنه لغة الواقع المأزوم . إنها مرايا أعماق الأرواح ، والحلم بما هو رؤيا ، يتسع كلما ضاقت العبارة، بتعبير عبد الجبار النفري . ويحكي القاص سعيد الكفراوي عن بورخيس الذي كتب في إحدى أمثولاته عن رجل ألزم نفسه برسم العالم، وبعدما أنفق سنوات من عمره لتأثيث الفضاء والممالك والجبال والوديان والكواكب والخيول، ظن أنه رسم العالم فعلا واستراح لظنه، لكنه وقبل أن يقضي نحبه استيقظ من منامه واكتشف أن ما رآه في الحقيقة كان صورة لوجهه، فدائما ما يجد الحلم في القصص معنى له وجود في الواقع . ألم يرسم لنا القاص أحمد شكر لوحة حلمية ؟ بل أكثر من هذا ، ألم يقدنا في قصة « كراسي « إلى المشاركة في رسمها لكي نستيقظ في نهاية القصة على واقع يجمعنا ويشملنا بالجانب المظلم والمأساوي فيه: واقع شاب في مقتبل العمر يحترف رص الصفوف – صفوف الكراسي وإعدادها للعشاق والحالمين مقابل دريهمات معدودة ؟ إن طرح هذا السؤال تعبير عن وعينا التام بالحاجة إلى الأدب الذي يجعل الإنسان – القارئ يشرب من مياه نهر المعنى، الجارية من الينبوع إلى المصب دون أن يُشْفَى له غليل أو يُرْوَى له عطش، الأدب الذي يقودنا إلى التذوق والفهم قبل فوات الأوان . فهل سيتذوق الحالمون والعشاق،عشاق القراءة وأصدقاء الكتب هذا العمل القصصي المتميز ؟
يقودنا هذا السؤال إلى المقوم الجمالي في العمل القصصي من خلال رصد آليات القراءة التي تخص القارئ باعتباره شريكا أساسيا في هذا العمل القصصي . فبغياب القارئ النَشِطْ سيبقى «أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ» آلة كسولة. و تكمن قيمته الأدبية في فك أغلال الكسل عن معصمي يدي القارئ والزج به في مكتبة تضم أعمال أدباء البحر: حنا مينة ، إرنيست هيمنغواي ، هرمان ملفيل منذ الصفحة الأولى. كما أن استراتيجية العنونة تبدو مغايرة للمألوف من العناوين – تركيبا ودلالة – إذ أن العنوان «أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ» يحيل القارئ على القولة الشهيرة للفيلسوف الطبيعي هيراقليطس «إننا لا نستحم في النهر مرتين» . فمادام الكاتب لا يكتب دون قراءة ، فإن القارئ لا يقرأ وذهنه صفحة بيضاء ، إنما له أفق توقع / تلق معين . أين يجرى السارد ؟ بين ضِفَتَيْنِ . السارد إنسان، وحلبة العدو هي الزمن، وضفتاه هي البداية – الحياة، والنهاية الحتمية – الموت. بالإضافة إلى العنوان يساعد النصان الموازيان، على ظهر غلاف هذا العمل القصصي، القارئ على دفع عجلة النص ومده بدينامية المعنى . النص الأول لكاتب القصة القصيرة أحمد بوزفور، عاشق اللغة والمشتغل فيها أثناء بناء القصة باعتبارها ملحمة الفرد المنسحق الواعي بانسحاقه . فالقصة عند أحمد بوزفور هي فن الموت . أما النص الثاني فهو لكاتب شاب جمع بين فضيلة الفلسفة وهبة الأدب والترجمة ، محمد أيت حنا. فكلاهما يشهد بقيمة هذا العمل فنيا وفكريا ، حيث يوجه نص محمد أيت حنا القارئ نحو نمط مغاير من السرد القصصي الذي يتجاوز المجموعة القصصية نحو الكتاب القصصي . وهذا ما يتطلب حساسية مغايرة لدى القارئ لفك شفرات هذا العمل وتأويله، فلا يمكن الامتياح من مياه نهر سرده دون أن نفك الارتباط مع حساسية قائمة على الكتابة – الذاكرة ، تجعل القارئ كسولا متواكلا على كاتب يجتر تجاربه الشبيهة بتجارب الأسلاف . وبالتالي يدفعنا الكاتب إلى المشاركة في كتابة هذا العمل من جديد، من خلال استحضار ما لفعل القراءة من أبعاد التنوع – كما وكيفا – حيث نلاحظ تأشير الكاتب على مقروئه المتعدد، والمتنوع بين حنا مينة ، وإرنيست هيميغواي ، هرمان ملفيل ، بالإضافة إلى مكتبة خورخي لويس بورخيس . كل هذا من أجل كتابة قصتي «كراسي» و»الليالي .»
وَأختم هذه المحاولة النقدية بقول أبي تمام ، وهو يرد على من يستكين للكتابة – الذاكرة ، ويرفض الكتابة – القراءة ، كما في عمل كاتبنا أحمد شكر – لماذا لا تفهم ما يقال؟ وهو السؤال الكامن في لا وعي هذا النص : نص المتعة الذي جعلني أقرأه، وأنا مفعم بالمرح لأنه نص ثقافة كاتب، وليس ذاكرة شخصية لفرد ما يقوم باجترار ما سبقه إليه الأولون. ونص لذة لأنه نجح في خلخلة تقاليدي التاريخية والثقافية والنفسية باعتباري قارئا، وأزم علاقتي باللغة ؛ إذ قادني من لغة كسولة على ضفاف الخطابة، إلى لغة مرحة ممتنعة عن البوح بما في بطن الكاتب، سابحة في بحر الأدب والفلسفة .

الهوامش :

أحمد شكر «أَجْرِي بَيْنَ ضِفَتَيْنِ كَنَهْرٍ»، مجموعة قصصية، سليكي أخوين، طنجة 2020 .
عبد الفتاح كيليوطو ، جدل اللغات ،دار توبقال للنشر ، الطبعة الأولى ، الدار البيضاء ، 2015 ، ص 360 .
الحبيب الدائم ربي ، الكتابة والتناص في الرواية العربية ، منشورات اتحاد كتاب المغرب ، 2004 ص 43 – ص 44 .
محمد بوبكري ، في القراءة ، الطبعة الأولى ،دار الثقافة ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ،2003 ،ص75.
عبد الفتاح كيليوطو ، الأدب والغرابة ، طبعة 7 ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، 2010 ، ص 6 .
فنانة تشكيلية سورية . تعتمد على أسلوب السرد بالريشة في إنجاز أعمالها التشكيلية .
أحمد رجب ، الحلم في الأدب والفن … ملجأ الهاربين من الواقع ، مقال ورد في صحيفة العرب ، السنة 40 ، العدد 10875 ،لندن ، 2018 .
أمبرتو إيكو ، القارئ في الحكاية ، ترجمة أنطوان أبو زيد ، الطبعة الأولى ، المركز الثقافي العربي ، البيضاء – بيروت ، 1996 : ص 63 .
حوار أجري مع أحمد بوزفور بجريدة اتحاد الاشتراكي يوم 17 12- 2009 .
عمر أوكان ، لذة النص ، أو مغامرة الكتابة لدى بارت ، إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1996 ، ص 45 .


الكاتب : عبد الواحد الغندوري

  

بتاريخ : 27/09/2024